الخنداوي
07-15-2010, 11:04 PM
الحكم والمعلوم من الدين بالضرورة
قال البعض: ان الحاكم بمعنى ولي الأمر، الذي لا يحكم بما أنزل الله كافر بصريح قوله تعالى 'ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون' وقالوا ان حكم هذه الآية من المعلوم من الدين بالضرورة. وان حال الحاكم الذي لا يحكم بما أنزل الله معروف لدي الناس بالضرورة أيضا فلزم من ذلك ضرورة أن يقطع كل مكلف بكفر ذلك الحاكم وان يعتقد ذلك فيه بقلبه ويعلنه بلسانه. فمن توقف عن الحكم على ذلك الحاكم بذلك فهو قد أنكر معلوما من الدين بالضرورة فهو كافر، ومن باب أولى من لم يتوقف، بل لم يوافق على الحكم بتكفير ذلك الحاكم. وان من لم يحكم بتكفير من لم يحكم بتكفير ذلك الحاكم فهو بدوره لم يحكم بما أنزل الله فهو كافر، وهكذا.
ونرى أنه يلزمنا أن نبدأ بتعريف المقصود بالمصطلح الموضوع – المعلوم من الدين بالضرورة.
* الأصل في الإنسان: الجهل وعدم العلم، وهذا ثابت بصريح نص القرآن. قال تعالى: 'والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا' ثم بالبديهة التي ركبها الله في الإنسان وعن طريق الحواس مثل السمع والبصر والمذاق واللمس يكتسب الإنسان ما يعلم، وما يعلمه الإنسان قد يقصد إليه قصدا فيتعمد أن يتعلمه فيعلمه، وقد لا يقصد الإنسان تعلم شيئا ولكنه يعلمه على غير إرادته بل يعلمه ولو على كره منه. ذلك أن الحواس تنقل إلى الإنسان المعلومات بالضرورة وعلى غير إرادة منه. فإذا وقع البصر على شيء فقد علم من وقع بصره عليه وأدرك منه ما شاهده سواء قصد النظر إلى ذلك الشيء أم لم يقصد، ومن وصل إلى أذنه كلام فإنه قد علم بمضمون ذلك الكلام ومعناه ولو كان الصوت قد وصل إلى أذنه على غير رغبة منه.
وبطبيعة معيشة الإنسان ضمن جماعة من الناس فإنه لا بد وان يقع بصره على كثير من أحوالهم الظاهرة وأن يصل إلى سمعه الكثير من أقوالهم وأصواتهم التي يجهرون بها.
فيعلم بالضرورة ما يصل إلى سمعه وما يقع عليه بصره وما تدركه سائر حواسه.
وما يصل إلى علم الإنسان من أخبار تختلف طرقها، فقد يراه ببصره من حال شخص واحد أو مجموعة من الناس، وقد يسمعه من شخص أو مجموعة من الناس. وأقوى وأصدق طرق نقل الأخبار ما نقله كافه الناس جيلا بعد جيل بغير إختلاف ولا تبديل، ومع التسليم من الجميع بصحة الخبر وصدقه. إذ من الممتنع في طبيعة البشر أن تتفق الجموع المختلفة المشارب والأهواء والطبائع والمصالح على ابتداع قصة مكذوبة أو خبر غير صحيح وتتناقله فيما بينها جيلا بعد جيل دون أن يظهر الكذب أو تختلف في شأنه الروايات أو ينقسم الناس حياله ما بين مصدق ومكذب، ومسلم مستريب. ومن ثم فان الخبر المنقول نقل الكافة عن الكافة دون اختلاف مع الإجماع على حقيقته، يوجب ضرورة العلم، ويقين صدق الخبر.
ومن المعلومات ما لا بد أن يعلمه الشخص ليتصف بصفة معينة فإذا جهله انتفت عنه تلك الصفة.
فإذا ما تقرر هذا قلنا ان المعلوم من الدين بالضرورة ينقسم إلى قسمين:
أولهما: شهادة أن لا اله الا الله وأن محمدا رسول الله. فهذه لا بد أن يعلمها الإنسان حتى تلحقه صفة الإسلام، ويقع عليه اسم المسلم أو المؤمن. فمن لم يعلم هذه الشهادة وينطق مقرا بها فهو ليس في أحكام هذه الدنيا في عداد المسلمين. وسبق أن قدمنا البرهان على ذلك.
ثانيهما: أحكام بشرائع كرر الرسول عليه الصلاة والسلام الأمر والعمل بها على ملأ من الناس واستفاض العلم بها بين المسلمين، ونقل إلينا خبر وجوبها وفرضها أو النهي عنها نقل الكواف عن الكواف مع الإجماع على أنها فرض أو نهي دون أي خلاف بين المسلمين في ذلك. أي أنها نقلت إلينا عن طريق موجب ضرورة التصديق وبات حكمها خارجا عن مجال الاجتهاد وإحتمال الخطأ وهي لم يزل خبرها مستفيضا بين المسلمين مسلما بصحته ومعمولا به جهارا بين الناس، فلا يعيش إنسان فترة بين جماعة من المسلمين الا ويشاهد من أحوالهم ويسمع من أقوالهم التي يجاهر بها ما يوجب ضرورة علمه بتلك الفرائض والنواهي. فلا يقبل منه بعد الإدعاء بجهلها أو المجادلة في صحتها. مثال ذلك: وجوب الصلوات المفروضة وانها خمس صلوات في اليوم والليلة وعدد ركعات كل منها بالنسبة للمقيم وهيأتها العامة من حيث ضرورة استقبال الكعبة ثم قيام وركوع وسجود، ووجوب صيام شهر رمضان ولزوم الحج إلى البيت الحرام وأن ثمة زكاة مفروضة في أموال الأغنياء وحرمة دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم وكما قدمنا فان أساس افتراض العلم بهذه الشرائع كثرة العمل بها جهارا بحيث لا يخفى أمرها على أحد وبحيث لابد وأن يقع بصر المقيم بين المسلمين ويصل إلى سمعه ما يوجب علمه ضرورة بها، وأن الجميع مسلم بوجوبها وأنها فريضة من فرائض الإسلام شرعها الله تعالى، لا يختلف أحد في ذلك. وقاعدة 'المعلوم من الدين بالضرورة' لم يرد بها نص من كتاب الله تعالى أو سنة الرسول عليه الصلاة والسلام، وإنما هي نتيجة استقراء حال الناس وملاحظة الواقع المشاهد. وإذ لا يعلم الغيب الا الله عز وجل، فان أحدا لا يستطيع أن يقطع على الغيب باستحالة أن يكون قد شذ عن تلك القاعدة شاذ، فلم يصله العلم رغم تواجده في الظروف المفترض فيها أن يكون قد وصله العلم، ولذا فان جمهور فقهاء المسلمين على أنه إذا ما قام ما يستراب معه أن يكون الشخص قد وصله العلم فعلا فلم نستطع أن نتيقن من ذلك ونقطع به، فانه يتعين عدم مؤاخذة ذلك الشخص واعتباره جاهلا معذورا بجهله فلا ينتفي عنه اسم الإيمان لجهله تلك الشرائع أو بعضها أو لانكاره إياها. وإنما يبلغ الحق ويعلم ما جهل كي تقوم عليه الحجة. ومن ظهر له نقل الكافة والإجماع، لم يقبل منه جدل ولا انكار. وسبق أن قدمنا مثلا عن واقعة حدثت فعلا، تلك الخاصة بالاعجمية التي كانت جارية لعبد الرحمن بن حاطب والتي لما استراب عثمان بن عفان رضي الله عنه في أنها تجهل حرمة الزنا، إذ رأها تستهل بما قارفته ولا تكره كأنها لا تعلم حرمته، فإنه لم ير وجوب الحد عليها ورأى أن تعذر بجهلها ووافقه عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه على ذلك.
وقد توهم البعض أن قول الله عز وجل: 'ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون'.
مقصود به الحاكم بمعنى ولي الأمر أو القاضي وهذا غير صحيح، وإنما الآية عامة في كل من حكم في دين الله تعالى سواء ولي أمر أم قاضيا أم مفتيا أو غير ذلك من عامة الناس إذ تخصيص النص بغير برهان مما لا يجوز شرعا.
ذلك أن معنى الحكم:
إنفاذ الأمر في قضية ما وهو في الدين تحريم أو إيجاب أو إباحة مطلقة أو بكراهة أو باختبار.
فالحكم إذن هو اما إنفاذ الأمر أو وضع صفة شرعية للشيء أو الفعل. قال صاحب أساس البلاغة: أحكم الشيء فاستحكم، وحكم الفرس وأحكم: وضع عليه الحكمة. وحكموه: جعلوه حكما. وحكمه في ماله فاحتكم وتحكم. وفي الحديث 'أن الجنة للمحكمين' وهم الذين حكموا في القتل والإسلام فاختاروا الثبات على الإسلام. وحاكمته الى القاضي أي رافقته: وهو يتولى الحكومات: يفصل في الخصومات.
وقال صاحب مختار الصحاح: الحكم: القضاء. وقد حكم بينهم بحكم بالضم حكما. وحكم له وحكم عليه. والحكيم أيضا: المتقن للأمور. وقد حكم أي صار حكيما. وحكمه في ماله تحكيما. إذا جعل إليه الحكم فيه فاحتكم عليه في ذلك.
وقال صاحب القاموس المنجد: حكم حكما وحكومة: بالأمر وللرجل أو عليه وبينهم. قضى وفصل وحكمه في الأمر: فوض إليه الحكم فيه. تحكم في الأمر. حكم فيه وفصل برأي نفسه من غير أن يبرز وجها للحكم فيه. احتكم في الشيء: تصرف فيه وفق مشيئته. الحكم: القضاء. الحكم: منفذ الحكم. الحاكم: الفاصل.
وإذ ذلك هو معنى الحكم فان كل معتقد في دين الله يكون باعتقاده حاكما باعتقاده فيما اعتقد ويكون كل قائل في دين الله حاكما بقوله فيما قال به ويكون كل عامل حاكما بعمله الذي فعله ويستوي في ذلك ولي الأمر والقاضي والمفتي وأي شخص آخر.
ولقد سبق أن قدمنا البرهان من كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام على أن العامل من المسلمين على خلاف أمر الله تعالى لا يكون كافرا الا ما استثنى بنص خاص يقضي بأن فاعله ينتفي عنه اسم الإيمان رغم نطقه بالشهادتين. ومن ثم خرج الحاكم بعمله من عموم نص الآية الكريمة الا أن يكون جاحدا.
ولقد اختلف موقف الفقهاء بالنسبة لولي الأمر أو القاضي حين يحكم أي يأمر بتنفيذ أمر على خلاف حكم الله تعالى. وهذا الاختلاف سبق أن أشرنا إليه فيما نقلناه عن شارح العقيدة الطحاوية. وسبق ذكرانه خلاف لفظي قاصر على التسمية إذ اجماع أهل السنة على أن الحاكم بمعنى المنفذ للأمر أو الآمر بتنفيذ أمر على خلاف حكم الله لا ينتفي عنه اسم الإيمان الا أن يكون جاحدا.
ونزيد هذه المسألة بعض الإيضاح فنقول بعونه تعالى: ان المتكلمين من الفقهاء في معنى الإيمان انقسم قولهم على أربعة أوجه:
الأول: القول بأن الإيمان هو مجرد التصديق بالقلب أي المعرفة والعلم بالقلب فقط، ولو نطق اللسان على خلاف ذلك. وهذا القول خرج من قال به من الإسلام لجحده النص الصريح على وجوب النطق باللسان، ولكان مقتضاه الحكم بإسلام فرعون، إذ هو قد استيقن أن موسى عليه السلام رسول من عند الله تعالى 'وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم' 'لقد علمت ما أنزل هؤلاء الا رب السموات والأرض' ومقتضاه أيضا أن اليهود والنصارى هم من أهل الجنة – لأنهم عرفوا لله واستيقنوا أن محمدا عليه الصلاة والسلام رسول حق من عند الله 'الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وان فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون'.
ثانيا: القول بأن الإيمان هو القول باللسان فقط دون عقد القلب أي التصديق بالقلب، وهذا القول أيضا خرج القائلون به عن الإسلام لجحدهم النص الصريح بضرورة التصديق بالقلب 'وما أمروا الا ليعبدوا الله مخلصين له الدين' ولجحدهم النص الصريح أن المنافقين. وهم الذين قالوا بألسنتهم بالإيمان ولم يعقدوا ذلك بقلوبهم، كاذبون. وفي الدرك الأسفل من النار.
ثالثا: القول أن الإيمان تصديق أي عقد بالقلب وقول باللسان ولا يزيد ولا ينقص. أما الأوامر والنواهي هي من شرائع الإيمان وليست من الإيمان. وما ورد من النصوص بتسميتها إيمانا كقول الله عز وجل 'وما كان الله ليضيع إيمانكم' أي صلاتكم إلى بيت المقدس، فهو على سبيل المجاز. وبهذا القول يقول الإمام أبو حنيفة رضي الله عنه.
رابعا: ما قال به جمهور فقهاء المسلمين. من أن الإيمان مصطلح شرعي معناه التصديق بالقلب والقول باللسان والعمل بالجوارح أي الإمتثال للأوامر والنواهي. والتصديق بالقلب لا يزيد ولا ينقص وهو بعض الإيمان، ويزيد الإيمان بالطاعة وينقص بالمعصية.
وتبعا لهذا الاختلاف في مسمى الإيمان بين أهل الإسلام أي أصحاب القولين الثالث والرابع، اختلفوا في تسمية من حكم بغير ما أنزل الله بمعنى أنفذ الأمر أو أمر بإنفاذ الأمر على خلاف ما أمر الله تعالى به. فالذين قالوا بأن الأعمال ليست من الإيمان وإنما هي من شرائع الإيمان وإنما تسمى إيمانا على سبيل المجاز. قالوا انه يسمى كافرا أيضا على سبيل المجاز. وبعض الذين قالوا أن الشرائع من الإيمان سموه كافرا كفرا عمليا أو كفرا دون كفر أي ليس بالكفر المخرج عن الإيمان. وبعضهم الآخر قال: انه متى قام الدليل بالإجماع على أنه ليس بخارج بعمله هذا عن الإسلام، فان ذلك مفاده تخصيص الآية، وانها لا تشمله فلا يجوز تسميته كافرا. وإنما هو فاسق شأنه شأن كل عامل على خلاف الأمر.
أما الحاكم على خلاف الأمر بمعنى المعطى صفة شرعية للشيء أو الفعل على خلاف أمر الله فهو بالإجماع مستجيز خلاف الله ورسوله جاحد للنص المعلوم له، كافر مشرك.
وإذا تبين هذا، وعلمت ما سبق أن شرحناه في تعريف المعلوم من الدين بالضرورة وعلمت أن الفرق واضح بين ما تقتضيه البديهة من ضرورة علم المسلم بوجوب طاعة الله، وبين ما لا يتأتى له من علم بحكم المخالف لأمر الله تعالى الا بوصول أمر الله إليه في هذا الشأن وبلوغ الحكم إليه في ذلك، وإذا ما علمت أن أحدا من الفقهاء لم يقل بأن الحكم الشرعي المستنبط من الآية الكريمة 'ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون' بالإضافة إلى غيرها من الآيات على ما سبق شرحه هو من المعلوم من الدين بالضرورة، وإذا ما كان واقع حال الناس يشهد أن الغالبية لا تعرف شيئا عن مضمون الآية والأحكام الشرعية التي تدل عليها بالانضمام إلى غيرها من الآيات، وإذا علمت أيضا أن الأخبار الصحاح قد وردت بأن الصحابي الجليل ابن عباس رضي الله عنهما الذي ضمه رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعا له قائلا: 'اللهم علمه التأويل'. والتابعي الجليل طاووس اليماني قالا: ان الآية ليست على ظاهرها واطلاقها وان الكافر هو من حكم بغير ما أنزل الله جاحدا، وان من أقر بحكم الله وحكم في الأمر على خلافه. فهو ظالم فاسق: وبذلك قال السدي وعطاء وجميع فقهاء أهل السنة. وان هذا هو المدون في كتب الفقه وتفاسير القرآن المتداولة بين أيدي الناس. وإذا أضفت إلى ذلك أن تبين الجحود مما يدق وتختلف فيه أوجه النظر خاصة بالنسبة لمظهر شعائر الإسلام. وضح لك عدم صواب القول بأن الآية الكريمة والحكم الذي قالوا أنه مضمونها من المعلوم من الدين بالضرورة وما بنوه على ذلك من أحكام بتكفير عامة الناس.
والحق أن من لم يظهر له وجه الحق في مسألة أو عجز عن فهم حكم الله في موضوع أو كان علمه دون أن يستطيع استنباط الأحكام الشرعية من مجموع الآى والأحاديث فان واجبه أن يمسك عن القول في ذلك بحكم لا يعلم صوابه من خطئه فقد نهاه الله عن ذلك. قال تعالى: 'ولا تقف ما ليس لك به علم' وقال عز وجل: 'قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا، وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون' وسبق أن ذكرنا خبر عجز عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه عن فهم آية الكلالة رغم تكرار سؤاله للرسول عليه الصلاة والسلام. وما قدح ذلك في إيمانه شيئا.
قال البعض: ان الحاكم بمعنى ولي الأمر، الذي لا يحكم بما أنزل الله كافر بصريح قوله تعالى 'ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون' وقالوا ان حكم هذه الآية من المعلوم من الدين بالضرورة. وان حال الحاكم الذي لا يحكم بما أنزل الله معروف لدي الناس بالضرورة أيضا فلزم من ذلك ضرورة أن يقطع كل مكلف بكفر ذلك الحاكم وان يعتقد ذلك فيه بقلبه ويعلنه بلسانه. فمن توقف عن الحكم على ذلك الحاكم بذلك فهو قد أنكر معلوما من الدين بالضرورة فهو كافر، ومن باب أولى من لم يتوقف، بل لم يوافق على الحكم بتكفير ذلك الحاكم. وان من لم يحكم بتكفير من لم يحكم بتكفير ذلك الحاكم فهو بدوره لم يحكم بما أنزل الله فهو كافر، وهكذا.
ونرى أنه يلزمنا أن نبدأ بتعريف المقصود بالمصطلح الموضوع – المعلوم من الدين بالضرورة.
* الأصل في الإنسان: الجهل وعدم العلم، وهذا ثابت بصريح نص القرآن. قال تعالى: 'والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا' ثم بالبديهة التي ركبها الله في الإنسان وعن طريق الحواس مثل السمع والبصر والمذاق واللمس يكتسب الإنسان ما يعلم، وما يعلمه الإنسان قد يقصد إليه قصدا فيتعمد أن يتعلمه فيعلمه، وقد لا يقصد الإنسان تعلم شيئا ولكنه يعلمه على غير إرادته بل يعلمه ولو على كره منه. ذلك أن الحواس تنقل إلى الإنسان المعلومات بالضرورة وعلى غير إرادة منه. فإذا وقع البصر على شيء فقد علم من وقع بصره عليه وأدرك منه ما شاهده سواء قصد النظر إلى ذلك الشيء أم لم يقصد، ومن وصل إلى أذنه كلام فإنه قد علم بمضمون ذلك الكلام ومعناه ولو كان الصوت قد وصل إلى أذنه على غير رغبة منه.
وبطبيعة معيشة الإنسان ضمن جماعة من الناس فإنه لا بد وان يقع بصره على كثير من أحوالهم الظاهرة وأن يصل إلى سمعه الكثير من أقوالهم وأصواتهم التي يجهرون بها.
فيعلم بالضرورة ما يصل إلى سمعه وما يقع عليه بصره وما تدركه سائر حواسه.
وما يصل إلى علم الإنسان من أخبار تختلف طرقها، فقد يراه ببصره من حال شخص واحد أو مجموعة من الناس، وقد يسمعه من شخص أو مجموعة من الناس. وأقوى وأصدق طرق نقل الأخبار ما نقله كافه الناس جيلا بعد جيل بغير إختلاف ولا تبديل، ومع التسليم من الجميع بصحة الخبر وصدقه. إذ من الممتنع في طبيعة البشر أن تتفق الجموع المختلفة المشارب والأهواء والطبائع والمصالح على ابتداع قصة مكذوبة أو خبر غير صحيح وتتناقله فيما بينها جيلا بعد جيل دون أن يظهر الكذب أو تختلف في شأنه الروايات أو ينقسم الناس حياله ما بين مصدق ومكذب، ومسلم مستريب. ومن ثم فان الخبر المنقول نقل الكافة عن الكافة دون اختلاف مع الإجماع على حقيقته، يوجب ضرورة العلم، ويقين صدق الخبر.
ومن المعلومات ما لا بد أن يعلمه الشخص ليتصف بصفة معينة فإذا جهله انتفت عنه تلك الصفة.
فإذا ما تقرر هذا قلنا ان المعلوم من الدين بالضرورة ينقسم إلى قسمين:
أولهما: شهادة أن لا اله الا الله وأن محمدا رسول الله. فهذه لا بد أن يعلمها الإنسان حتى تلحقه صفة الإسلام، ويقع عليه اسم المسلم أو المؤمن. فمن لم يعلم هذه الشهادة وينطق مقرا بها فهو ليس في أحكام هذه الدنيا في عداد المسلمين. وسبق أن قدمنا البرهان على ذلك.
ثانيهما: أحكام بشرائع كرر الرسول عليه الصلاة والسلام الأمر والعمل بها على ملأ من الناس واستفاض العلم بها بين المسلمين، ونقل إلينا خبر وجوبها وفرضها أو النهي عنها نقل الكواف عن الكواف مع الإجماع على أنها فرض أو نهي دون أي خلاف بين المسلمين في ذلك. أي أنها نقلت إلينا عن طريق موجب ضرورة التصديق وبات حكمها خارجا عن مجال الاجتهاد وإحتمال الخطأ وهي لم يزل خبرها مستفيضا بين المسلمين مسلما بصحته ومعمولا به جهارا بين الناس، فلا يعيش إنسان فترة بين جماعة من المسلمين الا ويشاهد من أحوالهم ويسمع من أقوالهم التي يجاهر بها ما يوجب ضرورة علمه بتلك الفرائض والنواهي. فلا يقبل منه بعد الإدعاء بجهلها أو المجادلة في صحتها. مثال ذلك: وجوب الصلوات المفروضة وانها خمس صلوات في اليوم والليلة وعدد ركعات كل منها بالنسبة للمقيم وهيأتها العامة من حيث ضرورة استقبال الكعبة ثم قيام وركوع وسجود، ووجوب صيام شهر رمضان ولزوم الحج إلى البيت الحرام وأن ثمة زكاة مفروضة في أموال الأغنياء وحرمة دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم وكما قدمنا فان أساس افتراض العلم بهذه الشرائع كثرة العمل بها جهارا بحيث لا يخفى أمرها على أحد وبحيث لابد وأن يقع بصر المقيم بين المسلمين ويصل إلى سمعه ما يوجب علمه ضرورة بها، وأن الجميع مسلم بوجوبها وأنها فريضة من فرائض الإسلام شرعها الله تعالى، لا يختلف أحد في ذلك. وقاعدة 'المعلوم من الدين بالضرورة' لم يرد بها نص من كتاب الله تعالى أو سنة الرسول عليه الصلاة والسلام، وإنما هي نتيجة استقراء حال الناس وملاحظة الواقع المشاهد. وإذ لا يعلم الغيب الا الله عز وجل، فان أحدا لا يستطيع أن يقطع على الغيب باستحالة أن يكون قد شذ عن تلك القاعدة شاذ، فلم يصله العلم رغم تواجده في الظروف المفترض فيها أن يكون قد وصله العلم، ولذا فان جمهور فقهاء المسلمين على أنه إذا ما قام ما يستراب معه أن يكون الشخص قد وصله العلم فعلا فلم نستطع أن نتيقن من ذلك ونقطع به، فانه يتعين عدم مؤاخذة ذلك الشخص واعتباره جاهلا معذورا بجهله فلا ينتفي عنه اسم الإيمان لجهله تلك الشرائع أو بعضها أو لانكاره إياها. وإنما يبلغ الحق ويعلم ما جهل كي تقوم عليه الحجة. ومن ظهر له نقل الكافة والإجماع، لم يقبل منه جدل ولا انكار. وسبق أن قدمنا مثلا عن واقعة حدثت فعلا، تلك الخاصة بالاعجمية التي كانت جارية لعبد الرحمن بن حاطب والتي لما استراب عثمان بن عفان رضي الله عنه في أنها تجهل حرمة الزنا، إذ رأها تستهل بما قارفته ولا تكره كأنها لا تعلم حرمته، فإنه لم ير وجوب الحد عليها ورأى أن تعذر بجهلها ووافقه عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه على ذلك.
وقد توهم البعض أن قول الله عز وجل: 'ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون'.
مقصود به الحاكم بمعنى ولي الأمر أو القاضي وهذا غير صحيح، وإنما الآية عامة في كل من حكم في دين الله تعالى سواء ولي أمر أم قاضيا أم مفتيا أو غير ذلك من عامة الناس إذ تخصيص النص بغير برهان مما لا يجوز شرعا.
ذلك أن معنى الحكم:
إنفاذ الأمر في قضية ما وهو في الدين تحريم أو إيجاب أو إباحة مطلقة أو بكراهة أو باختبار.
فالحكم إذن هو اما إنفاذ الأمر أو وضع صفة شرعية للشيء أو الفعل. قال صاحب أساس البلاغة: أحكم الشيء فاستحكم، وحكم الفرس وأحكم: وضع عليه الحكمة. وحكموه: جعلوه حكما. وحكمه في ماله فاحتكم وتحكم. وفي الحديث 'أن الجنة للمحكمين' وهم الذين حكموا في القتل والإسلام فاختاروا الثبات على الإسلام. وحاكمته الى القاضي أي رافقته: وهو يتولى الحكومات: يفصل في الخصومات.
وقال صاحب مختار الصحاح: الحكم: القضاء. وقد حكم بينهم بحكم بالضم حكما. وحكم له وحكم عليه. والحكيم أيضا: المتقن للأمور. وقد حكم أي صار حكيما. وحكمه في ماله تحكيما. إذا جعل إليه الحكم فيه فاحتكم عليه في ذلك.
وقال صاحب القاموس المنجد: حكم حكما وحكومة: بالأمر وللرجل أو عليه وبينهم. قضى وفصل وحكمه في الأمر: فوض إليه الحكم فيه. تحكم في الأمر. حكم فيه وفصل برأي نفسه من غير أن يبرز وجها للحكم فيه. احتكم في الشيء: تصرف فيه وفق مشيئته. الحكم: القضاء. الحكم: منفذ الحكم. الحاكم: الفاصل.
وإذ ذلك هو معنى الحكم فان كل معتقد في دين الله يكون باعتقاده حاكما باعتقاده فيما اعتقد ويكون كل قائل في دين الله حاكما بقوله فيما قال به ويكون كل عامل حاكما بعمله الذي فعله ويستوي في ذلك ولي الأمر والقاضي والمفتي وأي شخص آخر.
ولقد سبق أن قدمنا البرهان من كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام على أن العامل من المسلمين على خلاف أمر الله تعالى لا يكون كافرا الا ما استثنى بنص خاص يقضي بأن فاعله ينتفي عنه اسم الإيمان رغم نطقه بالشهادتين. ومن ثم خرج الحاكم بعمله من عموم نص الآية الكريمة الا أن يكون جاحدا.
ولقد اختلف موقف الفقهاء بالنسبة لولي الأمر أو القاضي حين يحكم أي يأمر بتنفيذ أمر على خلاف حكم الله تعالى. وهذا الاختلاف سبق أن أشرنا إليه فيما نقلناه عن شارح العقيدة الطحاوية. وسبق ذكرانه خلاف لفظي قاصر على التسمية إذ اجماع أهل السنة على أن الحاكم بمعنى المنفذ للأمر أو الآمر بتنفيذ أمر على خلاف حكم الله لا ينتفي عنه اسم الإيمان الا أن يكون جاحدا.
ونزيد هذه المسألة بعض الإيضاح فنقول بعونه تعالى: ان المتكلمين من الفقهاء في معنى الإيمان انقسم قولهم على أربعة أوجه:
الأول: القول بأن الإيمان هو مجرد التصديق بالقلب أي المعرفة والعلم بالقلب فقط، ولو نطق اللسان على خلاف ذلك. وهذا القول خرج من قال به من الإسلام لجحده النص الصريح على وجوب النطق باللسان، ولكان مقتضاه الحكم بإسلام فرعون، إذ هو قد استيقن أن موسى عليه السلام رسول من عند الله تعالى 'وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم' 'لقد علمت ما أنزل هؤلاء الا رب السموات والأرض' ومقتضاه أيضا أن اليهود والنصارى هم من أهل الجنة – لأنهم عرفوا لله واستيقنوا أن محمدا عليه الصلاة والسلام رسول حق من عند الله 'الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وان فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون'.
ثانيا: القول بأن الإيمان هو القول باللسان فقط دون عقد القلب أي التصديق بالقلب، وهذا القول أيضا خرج القائلون به عن الإسلام لجحدهم النص الصريح بضرورة التصديق بالقلب 'وما أمروا الا ليعبدوا الله مخلصين له الدين' ولجحدهم النص الصريح أن المنافقين. وهم الذين قالوا بألسنتهم بالإيمان ولم يعقدوا ذلك بقلوبهم، كاذبون. وفي الدرك الأسفل من النار.
ثالثا: القول أن الإيمان تصديق أي عقد بالقلب وقول باللسان ولا يزيد ولا ينقص. أما الأوامر والنواهي هي من شرائع الإيمان وليست من الإيمان. وما ورد من النصوص بتسميتها إيمانا كقول الله عز وجل 'وما كان الله ليضيع إيمانكم' أي صلاتكم إلى بيت المقدس، فهو على سبيل المجاز. وبهذا القول يقول الإمام أبو حنيفة رضي الله عنه.
رابعا: ما قال به جمهور فقهاء المسلمين. من أن الإيمان مصطلح شرعي معناه التصديق بالقلب والقول باللسان والعمل بالجوارح أي الإمتثال للأوامر والنواهي. والتصديق بالقلب لا يزيد ولا ينقص وهو بعض الإيمان، ويزيد الإيمان بالطاعة وينقص بالمعصية.
وتبعا لهذا الاختلاف في مسمى الإيمان بين أهل الإسلام أي أصحاب القولين الثالث والرابع، اختلفوا في تسمية من حكم بغير ما أنزل الله بمعنى أنفذ الأمر أو أمر بإنفاذ الأمر على خلاف ما أمر الله تعالى به. فالذين قالوا بأن الأعمال ليست من الإيمان وإنما هي من شرائع الإيمان وإنما تسمى إيمانا على سبيل المجاز. قالوا انه يسمى كافرا أيضا على سبيل المجاز. وبعض الذين قالوا أن الشرائع من الإيمان سموه كافرا كفرا عمليا أو كفرا دون كفر أي ليس بالكفر المخرج عن الإيمان. وبعضهم الآخر قال: انه متى قام الدليل بالإجماع على أنه ليس بخارج بعمله هذا عن الإسلام، فان ذلك مفاده تخصيص الآية، وانها لا تشمله فلا يجوز تسميته كافرا. وإنما هو فاسق شأنه شأن كل عامل على خلاف الأمر.
أما الحاكم على خلاف الأمر بمعنى المعطى صفة شرعية للشيء أو الفعل على خلاف أمر الله فهو بالإجماع مستجيز خلاف الله ورسوله جاحد للنص المعلوم له، كافر مشرك.
وإذا تبين هذا، وعلمت ما سبق أن شرحناه في تعريف المعلوم من الدين بالضرورة وعلمت أن الفرق واضح بين ما تقتضيه البديهة من ضرورة علم المسلم بوجوب طاعة الله، وبين ما لا يتأتى له من علم بحكم المخالف لأمر الله تعالى الا بوصول أمر الله إليه في هذا الشأن وبلوغ الحكم إليه في ذلك، وإذا ما علمت أن أحدا من الفقهاء لم يقل بأن الحكم الشرعي المستنبط من الآية الكريمة 'ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون' بالإضافة إلى غيرها من الآيات على ما سبق شرحه هو من المعلوم من الدين بالضرورة، وإذا ما كان واقع حال الناس يشهد أن الغالبية لا تعرف شيئا عن مضمون الآية والأحكام الشرعية التي تدل عليها بالانضمام إلى غيرها من الآيات، وإذا علمت أيضا أن الأخبار الصحاح قد وردت بأن الصحابي الجليل ابن عباس رضي الله عنهما الذي ضمه رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعا له قائلا: 'اللهم علمه التأويل'. والتابعي الجليل طاووس اليماني قالا: ان الآية ليست على ظاهرها واطلاقها وان الكافر هو من حكم بغير ما أنزل الله جاحدا، وان من أقر بحكم الله وحكم في الأمر على خلافه. فهو ظالم فاسق: وبذلك قال السدي وعطاء وجميع فقهاء أهل السنة. وان هذا هو المدون في كتب الفقه وتفاسير القرآن المتداولة بين أيدي الناس. وإذا أضفت إلى ذلك أن تبين الجحود مما يدق وتختلف فيه أوجه النظر خاصة بالنسبة لمظهر شعائر الإسلام. وضح لك عدم صواب القول بأن الآية الكريمة والحكم الذي قالوا أنه مضمونها من المعلوم من الدين بالضرورة وما بنوه على ذلك من أحكام بتكفير عامة الناس.
والحق أن من لم يظهر له وجه الحق في مسألة أو عجز عن فهم حكم الله في موضوع أو كان علمه دون أن يستطيع استنباط الأحكام الشرعية من مجموع الآى والأحاديث فان واجبه أن يمسك عن القول في ذلك بحكم لا يعلم صوابه من خطئه فقد نهاه الله عن ذلك. قال تعالى: 'ولا تقف ما ليس لك به علم' وقال عز وجل: 'قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا، وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون' وسبق أن ذكرنا خبر عجز عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه عن فهم آية الكلالة رغم تكرار سؤاله للرسول عليه الصلاة والسلام. وما قدح ذلك في إيمانه شيئا.