منهاج السنة
02-01-2011, 12:00 AM
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.. أما بعد...
فقد حذرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من فتن تقع آخر الزمان وأمر الصحابة باعتزالها، فعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال : (كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه و سلم عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني فقلت : يا رسول الله إنا كنا في جاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير فنحن فيه وجاء بك فهل بعد هذا الخير من شر كما كان قبله ؟ قال : ياحذيفة تعلم كتاب الله واتبع ما فيه، قال : قلت : يا رسول الله أبعد هذا الشر من خير ؟ قال : نعم قلت : ما العصمة منه ؟ قال : السيف قلت : وهل بعد ذلك الشر من خير ؟ قال : نعم وفيه دخن . قلت : وما دخنه ؟ قال : قوم -وفي طريق أخرى- : يكون بعدي أئمة ( يستنون بغير سنتي و ) يهدون بغير هديي تعرف منهم وتنكر ( وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس ) قلت : فهل بعد ذلك الخير من شر ؟ قال : - نعم ( فتنة عمياء صماء عليها ) دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها - . قلت : يا رسول الله صفهم لنا . قال : - هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا - . قلت : ( يا رسول الله ) فما تأمرني إن أدركني ذلك ؟ قال : تلتزم جماعة المسلمين وإمامهم ( تسمع وتطيع الأمير وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك فاسمع وأطع ) قلت : فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام ؟ قال : - فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك) –السلسلة الصحيحة(2739)-
هذه وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم لصحابته رضوان الله عليهم، البعد عن الفتن، والسمع والطاعة لأمير المسلمين وإن كان من أهل البغي والظلم والعدوان والصبر على ذلك. وهكذا فهم السلف الأحاديث التي تدل على السمع والطاعة للإمام الفاسق ما لم يأمر بمعصية. قال صلى الله عليه وسلم (السمع والطاعة على المسلم فيما أحب وكره ما لم يؤمر بمعصية، فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة) –رواه البخاري ومسلم-. فما دام يحكم على الإمام بأنه مسلم فيطاع وتجتمع كلمة المسلمين عليه، ولهذا كانت من عقيدة أهل السنة التي سطرها السلف في كتبهم (السمع والطاعة للإمام في غير المعصية).
فلا يجوز الخروج على الحكاّم ولا منابذتهم بالسيف أو أي سلاح كان لما يترتب على ذلك من مفاسد كثيرة من إراقة الدماء المعصومة، وحصول الفتن والاضطراب والفوضى، فيجب على المسلمين طاعتهم بالمعروف والصبر عليهم وإن جاروا.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم ويصلون عليكم وتصلون عليهم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم. قيل يا رسول الله أفلا ننابذهم بالسيف؟ فقال: لا ما أقاموا فيكم الصلاة، وإذا رأيتم من ولاتكم شيئاً تكرهونه فاكرهوا عمله ولا تنزعواً يداً من طاعة) –رواه مسلم-
فكان تطبيق الصحابة رضي الله عنهم لهذه الأحاديث النبوية الشريفة واقعاً في زمن أئمة الجور من بني أمية فكانوا يصلّون خلف من يعرفون فجوره، كما صلّى عبدالله بن مسعود وغيره من الصحابة خلف الوليد بن عقبة وكان يشرب الخمر. وكان عبدالله بن عمر وغيره من الصحابة يصلون خلف الحجاج بن يوسف الثقفي، وكان الصحابة والتابعون يصلون خلف ابن أبي عبيد وكان متهماً بالإلحاد.
قال شيخ الاسلام ابن تيمية (وقل من خرج على إمام ذي سلطان إلاّ كان ما تولّد على فعله من الشر أعظم مما تولّد من الخير، كالذين خرجوا على يزيد بالمدينة، وكابن الأشعث الذي خرج على عبدالملك بالعراق، وكابن المهلب الذي خرج على ابنه بخراسان، وكأبي مسلم صاحب الدعوة الذي خرج عليهم بخراسان أيضاً وكالذين خرجوا على المنصور بالمدينة والبصرة، وأمثال هؤلاء، وغاية هؤلاء، إما أن يُغلبوا، وإما أن يَغلبوا ثم يزول ملكهم فلا يكون لهم عاقبة.... ولم يثن على أحد لا بقتال في فتنة، ولا بخروج على الأئمة، ولا نزع يد من طاعة، ولا مفارقة جماعة) "منهاج السنة النبوية"
قال شيخنا العلامة محمد بن عبدالوهاب العقيل حفظه الله معلقاً على كلام شيخ الاسلام (فانظر رعاك الله وحماك من مضلات الفتن إلى هذا الكلام الدقيق المبني على النصوص الشرعية، وفهم سلف الأمة، وفقه الواقع الذي مرّ بالأمة عبر السنين، وقد يسرع من يقرأ هذا الكلام المبين إلى اتهام شيخ الاسلام بأنه مداهن لسطان زمانه، وأنه ليتقلب في مناصبه ونعمه، وما درى المسكين أن هذا الإمام الذي تكلّم بهذا الكلام قد ذاق من ظلم الولاة وجورهم الشيء العظيم، حتى إنه مات رحمه الله مسجوناً ظلماً بقلعة دمشق، ولم تصدر منه كلمة واحدة، ولم يجمع الناس حوله أو يؤلّب قلوب العامة على سلطان زمانه الذي ظلمه، لأنه لا ينظر إلى نفسه، ولا يدعو إلى نفسه، وإنما همّه سلامة الأمة، والدعوة إلى الله، فرحمه الله وجزاه عن الأمة خير الجزاء)
وقال (وهذا المعتقد الواضح هو الذي سار عليه تلاميذه من بعده، قال ابن القيم رحمه الله "فإذا كان إنكار المنكر يستلزم ما هو أنكر منه وأبغض إلى الله ورسوله، فإنه لا يسوغ إنكاره، وإن كان الله يبغضه ويمقت أهله، وهذا كالإنكار على الملوك والولاة بالخروج عليهم، فإنه أساس كل شر وفتنة إلى آخر الدهر" –إعلام الموقعين-) "الفتنة وموقف المسلم منها".
ولعظم جريمة الخروج وما يرتبت عليها من مفاسد كثيرة، قرر علماء السنة في كتبهم عدم جواز الخروج على الأئمة وإن كانوا من أفجر الناس.
فقد ذكر الإمام أبو عثمان الصابوني في "عقيدة السلف واصحاب الحديث" (ويرى أصحاب الحديث الجمعة والعيدين وغيرهما من الصلوات خلف كل إمام براً كان أو فاجراً، ويرون جهاد الكفرة معهم وإن كانوا جورةً فجرة، ويرون الدعاء لهم بالإصلاح والتوفيق والصلاح، ولا يرون الخروج عليهم بالسيف وإن رأوا منهم العدول إلى الجور والحيف)
كما قرر ذلك الإمام أبو جعفر الطحاوي في "العقيدة الطحاوية" حيث قال (ولا نرى الخروج على أئمتنا وولاة أمورنا، وإن جاروا، ولا ندعو عليهم، ولا ننزع يداً من طاعتهم، ونرى طاعتهم من طاعة الله عز وجل فريضة، ما لم يأمروا بمعصية، وندعو لهم بالصلاح والمعافاة)
وأجمع المسلمون على ذلك قال الإمام النووي رحمه الله (وأما الخروج عليهم وقتالهم: فحرام بإجماع المسلمين وإن كانوا فسقة ظالمين، وقد تظاهرت الأحاديث على ما ذكرته، وأجمع أهل السنة أنه لا ينعزل السلطان بالفسق)
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله (وقد أجمع الفقهاء على وجوب طاعة السلطان المتغلب والجهاد معه، وأن طاعته خير من الخروج عليه، لما في ذلك من حق الدماء وتسكين الدهماء)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله (من أصول أهل السنة والجماعة لزوم الجماعة، وترك قتال الأئمة، وترك القتال في الفتنة، وأما أهل الأهواء كالمعتزلة فيرون القتال للأئمة من أصول دينهم، ويجعلون قتال الأئمة من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) "كتاب الحسبة ص64".
وهذا هو التوجيه النبوي، حيث قال صلى الله عليه وسلم (من رأى من أميره شيئاً يكرهه فليصبر، فإنه من فارق الجماعة شبراً فمات، فميتته جاهلية) –رواه البخاري ومسلم-. فالأمر بالصبر هو وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم.
يقول الإمام العلامة محمد العثيمين رحمه الله (أهل السنة والجماعة يقولون: نحن نرى إقامة الحج مع الأمراء سواءً كانوا أبراراً أو فجاراً، وكذلك إقامة الجهاد مع الأمير، ولو كان فاسقاً، ويقيمون الجهاد مع أمير لا يصلي معهم الجماعة، بل يصلي في رحله، فأهل السنة والجماعة لديهم بعد نظر، لأن المخالفات في هذه الأمور معصية لله ورسوله وتجر إلى فتن عظيمة)
وقال (وفي حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه، قال : بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلمن فقال: يا نبي الله! أرأيت إن قامت علينا أمراء يسألونا حقهم ويمنعونا حقنا، فما تأمرنا؟ قال "اسمعوا وأطيعوا، فإنما عليهم ما حملوا وعليكم ما حملتم" –رواه مسلم- لأننا لو تخلفنا عن متابعتهم، لشققنا عصا الطاعة الذي يترتب على شقه أمور عظيمة ومصائب جسيمة، والأمور التي فيها تأويل واختلاف بين العلماء إذا ارتكبها ولاة الأمور، لا يحل لنا منابذتهم ومخالفتهم، لكن يجب علينا مناصحتهم بقدر المستطاع فيما خالفوا فيه، مما لا يسوغ فيه الاجتهاد، وأما ما يسوغ فيه الاجتهاد، فنبحث معهم فيه بحث تقدير واحترام، لنبين لهم الحق، لا على سبيل الانتقاد لهم والانتصار للنفس، وأما منابذتهم وعدم طاعتهم، فليس من طريق أهل السنة والجماعة) "شرح العقيدة الواسطية ص658-661" بتصرف.
قال الإمام البربهاري رحمه الله (ولا يحل قتال السلطان، ولا الخروج عليه وإن جار، وذلك لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي ذر (اصبر، وإن كان عبداً حبشياً) –رواه مسلم- وقوله للأنصار (فاصبروا حتى تلقوني على الحوض) –رواه البخاري ومسلم- وليس من السنة قتال السلطان، فإنه فيه فساد الدنيا والدين)
قال الإمام العلامة صالح الفوزان حفظه الله تعليقاً على عبارة البربهاري (وإن جار: أي حصل منه جور وظلم فإنه يصبر على ذلك، لأن الصبر على ذلك مع ما فيه من الضرر أخف من الضرر الذي يحصل بالخروج عليه، فالضرر يحصل مع الصبر على طاعة السطان الجائر أخف من الضرر الذي يحصل بالخروج عليه، والنبي قال للأنصار "إنكم سترون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض" أوصاهم بالصبر مع أنهم يلقون أثرة، وهي : استئثار بالأموال دونهم، فأوصاهم بالصبر لما في ذلك من درء أعظم المفسدتين) "شرح السنة ص 190-191"
وقال حفظه الله (ليس في السنة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم قتال السلطان، ولا في حديث واحد ضعيف ولا حسن ولا صحيح، ليس في السنة حديث يدل على قتال السلطان المسلم، وإن كان فاسقاً، وإن كان ظالماً، وإن كان جائراً، وإن كان مستأثراً بالأموال فلا يجوز الخروج عليه، بل الأحاديث كلها تدل على الصبر على ذلك وتحريم الخروج عليه) " شرح السنة ص 191"
وقال حفظه الله (قوله "فإن فيه فساد الدنيا والدين" في قتال السلطان فساد الدينا بأن يضيع الملك، وتشيع الفوضى، ويتسلط الأعداء) "شرح السنة ص 192"
ولما يترتب على الخروج من الفوضى واستباحة المحرمات وأعظمها دم المسلم، حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام) وقال صلى الله عليه وسلم (كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه) –رواه مسلم- وقال صلى الله عليه وسلم (لايزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دما حراما) –رواه البخاري- وقال صلى الله عليه وسلم (لزوال الدنيا أهون عند الله من قتل رجل مسلم) –رواه مسلم- كان موقف السلف من الصحابة والتابعين وأئمة الإسلام العزلة عن الفتن وعدم المشاركة فيها.
قال شيخ الاسلام ابن تيمية (وكان أفاضل المسلمين ينهون عن الخروج والقتال في الفتنة، كما كان عبدالله بن عمر، وسعيد بن المسيب، وعلي بن الحسين، وغيرهم ينهون عام الحرة عن الخروج على يزيد، وكما كان الحسن البصري ومجاهد وغيرهما ينهون عن الخروج في فتنة ابن الأشعث، ولهذا استقر أمر أهل السنة على ترك القتال في الفتنة للأحاديث الصحيحة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم وصاروا يذكرون هذا في عقائدهم، ويأمرون بالصبر على جور الأئمة، وترك قتالهم)
فالصحابي الجليل عبدالله بن عمر رضي الله عنهما لما قتل عثمان رضي الله عنه وقامت الفتنة اعتزل أمر الناس، ولم يكن في جيش أحد من المتقاتلين، بل خرج من المدينة إلى مكة فاراً بدينه، كافاً يده ولسانه عن المسلمين آخذاً بأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالاعتزال وقت الفتن، لذلك أبى أن يدخل في هذا الأمر منذ وقوعه لأول وهلة حين قتل عثمان، فقد جاؤوا إليه وقالوا: إنك سيد الناس، وابن سيد، فاخرج نبايع لك الناس. قال : إني والله لئن استطعت لا يهراق في سببي محجمة من دم.
وكذا كان موقف الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، قال حنبل: اجتمع فقهاء بغداد إلى أبي عبدالله (أحمد بن حنبل) في ولاية الواثق، وشاوروه في ترك الرضا بإمرته وسلطانه، فناظرهم أبو عبدالله ساعة، وقال لهم: عليكم بالنكرة بقلوبكم، ولا تخلعوا يداً من طاعة، ولا تشقوا عصا المسلمين، ولا تسفكوا دماءكم ودماء المسلمين، وذكر الحديث "إن ضربك فاصبر" فأمر بالصبر.-رواه الخلال في السنة وابن أبي يعلى في طبقات الحنابلة-.
قال أبو الحارث: سألت أبا عبدالله في أمر كان حدث ببغداد وهمّ قوم بالخروج فقلت: يا أبا عبدالله ما تقول في الخروج مع هؤلاء القوم؟ فأنكر ذلك عليهم وجعل يقول: "سبحان الله! الدماء الدماء، لا أرى ذلك ولا آمر به، الصبر على ما نحن فيه خير من الفتنة، يسفك فيها الدماء، ويستباح فيها الأموال وينتهك فيها المحارم". –رواه الخلال في السنة-.
فأين نحن من هذه الأحاديث الصحيحة الصريحة التي تأمر بالصبر على الجور والظلم، فإن لم يكن الصبر في مثل هذه الأحداث فمتى يكون، وما هو موقفنا يوم القيامة (ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين ) ماذا سنقول؟! ماذا سيكون جوابنا، هل سنقول أن هذه الأحاديث لا تصلح لهذا الزمان ؟! أم أن الصحابة والتابعين وأئمة الإسلام لم يفهموا هذه النصوص ونحن فهمناها بالشكل الصحيح؟! أرحموا أنفسكم، وأقول لمن يزيد من اشعال هذه الفتنة، اتق الله والله الله في دماء المسلمين (لايزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دما حراما).
والله المستعان
اللهم أحينا على السنة وأمتنا عليها
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.. أما بعد...
فقد حذرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من فتن تقع آخر الزمان وأمر الصحابة باعتزالها، فعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال : (كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه و سلم عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني فقلت : يا رسول الله إنا كنا في جاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير فنحن فيه وجاء بك فهل بعد هذا الخير من شر كما كان قبله ؟ قال : ياحذيفة تعلم كتاب الله واتبع ما فيه، قال : قلت : يا رسول الله أبعد هذا الشر من خير ؟ قال : نعم قلت : ما العصمة منه ؟ قال : السيف قلت : وهل بعد ذلك الشر من خير ؟ قال : نعم وفيه دخن . قلت : وما دخنه ؟ قال : قوم -وفي طريق أخرى- : يكون بعدي أئمة ( يستنون بغير سنتي و ) يهدون بغير هديي تعرف منهم وتنكر ( وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس ) قلت : فهل بعد ذلك الخير من شر ؟ قال : - نعم ( فتنة عمياء صماء عليها ) دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها - . قلت : يا رسول الله صفهم لنا . قال : - هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا - . قلت : ( يا رسول الله ) فما تأمرني إن أدركني ذلك ؟ قال : تلتزم جماعة المسلمين وإمامهم ( تسمع وتطيع الأمير وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك فاسمع وأطع ) قلت : فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام ؟ قال : - فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك) –السلسلة الصحيحة(2739)-
هذه وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم لصحابته رضوان الله عليهم، البعد عن الفتن، والسمع والطاعة لأمير المسلمين وإن كان من أهل البغي والظلم والعدوان والصبر على ذلك. وهكذا فهم السلف الأحاديث التي تدل على السمع والطاعة للإمام الفاسق ما لم يأمر بمعصية. قال صلى الله عليه وسلم (السمع والطاعة على المسلم فيما أحب وكره ما لم يؤمر بمعصية، فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة) –رواه البخاري ومسلم-. فما دام يحكم على الإمام بأنه مسلم فيطاع وتجتمع كلمة المسلمين عليه، ولهذا كانت من عقيدة أهل السنة التي سطرها السلف في كتبهم (السمع والطاعة للإمام في غير المعصية).
فلا يجوز الخروج على الحكاّم ولا منابذتهم بالسيف أو أي سلاح كان لما يترتب على ذلك من مفاسد كثيرة من إراقة الدماء المعصومة، وحصول الفتن والاضطراب والفوضى، فيجب على المسلمين طاعتهم بالمعروف والصبر عليهم وإن جاروا.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم ويصلون عليكم وتصلون عليهم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم. قيل يا رسول الله أفلا ننابذهم بالسيف؟ فقال: لا ما أقاموا فيكم الصلاة، وإذا رأيتم من ولاتكم شيئاً تكرهونه فاكرهوا عمله ولا تنزعواً يداً من طاعة) –رواه مسلم-
فكان تطبيق الصحابة رضي الله عنهم لهذه الأحاديث النبوية الشريفة واقعاً في زمن أئمة الجور من بني أمية فكانوا يصلّون خلف من يعرفون فجوره، كما صلّى عبدالله بن مسعود وغيره من الصحابة خلف الوليد بن عقبة وكان يشرب الخمر. وكان عبدالله بن عمر وغيره من الصحابة يصلون خلف الحجاج بن يوسف الثقفي، وكان الصحابة والتابعون يصلون خلف ابن أبي عبيد وكان متهماً بالإلحاد.
قال شيخ الاسلام ابن تيمية (وقل من خرج على إمام ذي سلطان إلاّ كان ما تولّد على فعله من الشر أعظم مما تولّد من الخير، كالذين خرجوا على يزيد بالمدينة، وكابن الأشعث الذي خرج على عبدالملك بالعراق، وكابن المهلب الذي خرج على ابنه بخراسان، وكأبي مسلم صاحب الدعوة الذي خرج عليهم بخراسان أيضاً وكالذين خرجوا على المنصور بالمدينة والبصرة، وأمثال هؤلاء، وغاية هؤلاء، إما أن يُغلبوا، وإما أن يَغلبوا ثم يزول ملكهم فلا يكون لهم عاقبة.... ولم يثن على أحد لا بقتال في فتنة، ولا بخروج على الأئمة، ولا نزع يد من طاعة، ولا مفارقة جماعة) "منهاج السنة النبوية"
قال شيخنا العلامة محمد بن عبدالوهاب العقيل حفظه الله معلقاً على كلام شيخ الاسلام (فانظر رعاك الله وحماك من مضلات الفتن إلى هذا الكلام الدقيق المبني على النصوص الشرعية، وفهم سلف الأمة، وفقه الواقع الذي مرّ بالأمة عبر السنين، وقد يسرع من يقرأ هذا الكلام المبين إلى اتهام شيخ الاسلام بأنه مداهن لسطان زمانه، وأنه ليتقلب في مناصبه ونعمه، وما درى المسكين أن هذا الإمام الذي تكلّم بهذا الكلام قد ذاق من ظلم الولاة وجورهم الشيء العظيم، حتى إنه مات رحمه الله مسجوناً ظلماً بقلعة دمشق، ولم تصدر منه كلمة واحدة، ولم يجمع الناس حوله أو يؤلّب قلوب العامة على سلطان زمانه الذي ظلمه، لأنه لا ينظر إلى نفسه، ولا يدعو إلى نفسه، وإنما همّه سلامة الأمة، والدعوة إلى الله، فرحمه الله وجزاه عن الأمة خير الجزاء)
وقال (وهذا المعتقد الواضح هو الذي سار عليه تلاميذه من بعده، قال ابن القيم رحمه الله "فإذا كان إنكار المنكر يستلزم ما هو أنكر منه وأبغض إلى الله ورسوله، فإنه لا يسوغ إنكاره، وإن كان الله يبغضه ويمقت أهله، وهذا كالإنكار على الملوك والولاة بالخروج عليهم، فإنه أساس كل شر وفتنة إلى آخر الدهر" –إعلام الموقعين-) "الفتنة وموقف المسلم منها".
ولعظم جريمة الخروج وما يرتبت عليها من مفاسد كثيرة، قرر علماء السنة في كتبهم عدم جواز الخروج على الأئمة وإن كانوا من أفجر الناس.
فقد ذكر الإمام أبو عثمان الصابوني في "عقيدة السلف واصحاب الحديث" (ويرى أصحاب الحديث الجمعة والعيدين وغيرهما من الصلوات خلف كل إمام براً كان أو فاجراً، ويرون جهاد الكفرة معهم وإن كانوا جورةً فجرة، ويرون الدعاء لهم بالإصلاح والتوفيق والصلاح، ولا يرون الخروج عليهم بالسيف وإن رأوا منهم العدول إلى الجور والحيف)
كما قرر ذلك الإمام أبو جعفر الطحاوي في "العقيدة الطحاوية" حيث قال (ولا نرى الخروج على أئمتنا وولاة أمورنا، وإن جاروا، ولا ندعو عليهم، ولا ننزع يداً من طاعتهم، ونرى طاعتهم من طاعة الله عز وجل فريضة، ما لم يأمروا بمعصية، وندعو لهم بالصلاح والمعافاة)
وأجمع المسلمون على ذلك قال الإمام النووي رحمه الله (وأما الخروج عليهم وقتالهم: فحرام بإجماع المسلمين وإن كانوا فسقة ظالمين، وقد تظاهرت الأحاديث على ما ذكرته، وأجمع أهل السنة أنه لا ينعزل السلطان بالفسق)
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله (وقد أجمع الفقهاء على وجوب طاعة السلطان المتغلب والجهاد معه، وأن طاعته خير من الخروج عليه، لما في ذلك من حق الدماء وتسكين الدهماء)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله (من أصول أهل السنة والجماعة لزوم الجماعة، وترك قتال الأئمة، وترك القتال في الفتنة، وأما أهل الأهواء كالمعتزلة فيرون القتال للأئمة من أصول دينهم، ويجعلون قتال الأئمة من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) "كتاب الحسبة ص64".
وهذا هو التوجيه النبوي، حيث قال صلى الله عليه وسلم (من رأى من أميره شيئاً يكرهه فليصبر، فإنه من فارق الجماعة شبراً فمات، فميتته جاهلية) –رواه البخاري ومسلم-. فالأمر بالصبر هو وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم.
يقول الإمام العلامة محمد العثيمين رحمه الله (أهل السنة والجماعة يقولون: نحن نرى إقامة الحج مع الأمراء سواءً كانوا أبراراً أو فجاراً، وكذلك إقامة الجهاد مع الأمير، ولو كان فاسقاً، ويقيمون الجهاد مع أمير لا يصلي معهم الجماعة، بل يصلي في رحله، فأهل السنة والجماعة لديهم بعد نظر، لأن المخالفات في هذه الأمور معصية لله ورسوله وتجر إلى فتن عظيمة)
وقال (وفي حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه، قال : بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلمن فقال: يا نبي الله! أرأيت إن قامت علينا أمراء يسألونا حقهم ويمنعونا حقنا، فما تأمرنا؟ قال "اسمعوا وأطيعوا، فإنما عليهم ما حملوا وعليكم ما حملتم" –رواه مسلم- لأننا لو تخلفنا عن متابعتهم، لشققنا عصا الطاعة الذي يترتب على شقه أمور عظيمة ومصائب جسيمة، والأمور التي فيها تأويل واختلاف بين العلماء إذا ارتكبها ولاة الأمور، لا يحل لنا منابذتهم ومخالفتهم، لكن يجب علينا مناصحتهم بقدر المستطاع فيما خالفوا فيه، مما لا يسوغ فيه الاجتهاد، وأما ما يسوغ فيه الاجتهاد، فنبحث معهم فيه بحث تقدير واحترام، لنبين لهم الحق، لا على سبيل الانتقاد لهم والانتصار للنفس، وأما منابذتهم وعدم طاعتهم، فليس من طريق أهل السنة والجماعة) "شرح العقيدة الواسطية ص658-661" بتصرف.
قال الإمام البربهاري رحمه الله (ولا يحل قتال السلطان، ولا الخروج عليه وإن جار، وذلك لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي ذر (اصبر، وإن كان عبداً حبشياً) –رواه مسلم- وقوله للأنصار (فاصبروا حتى تلقوني على الحوض) –رواه البخاري ومسلم- وليس من السنة قتال السلطان، فإنه فيه فساد الدنيا والدين)
قال الإمام العلامة صالح الفوزان حفظه الله تعليقاً على عبارة البربهاري (وإن جار: أي حصل منه جور وظلم فإنه يصبر على ذلك، لأن الصبر على ذلك مع ما فيه من الضرر أخف من الضرر الذي يحصل بالخروج عليه، فالضرر يحصل مع الصبر على طاعة السطان الجائر أخف من الضرر الذي يحصل بالخروج عليه، والنبي قال للأنصار "إنكم سترون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض" أوصاهم بالصبر مع أنهم يلقون أثرة، وهي : استئثار بالأموال دونهم، فأوصاهم بالصبر لما في ذلك من درء أعظم المفسدتين) "شرح السنة ص 190-191"
وقال حفظه الله (ليس في السنة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم قتال السلطان، ولا في حديث واحد ضعيف ولا حسن ولا صحيح، ليس في السنة حديث يدل على قتال السلطان المسلم، وإن كان فاسقاً، وإن كان ظالماً، وإن كان جائراً، وإن كان مستأثراً بالأموال فلا يجوز الخروج عليه، بل الأحاديث كلها تدل على الصبر على ذلك وتحريم الخروج عليه) " شرح السنة ص 191"
وقال حفظه الله (قوله "فإن فيه فساد الدنيا والدين" في قتال السلطان فساد الدينا بأن يضيع الملك، وتشيع الفوضى، ويتسلط الأعداء) "شرح السنة ص 192"
ولما يترتب على الخروج من الفوضى واستباحة المحرمات وأعظمها دم المسلم، حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام) وقال صلى الله عليه وسلم (كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه) –رواه مسلم- وقال صلى الله عليه وسلم (لايزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دما حراما) –رواه البخاري- وقال صلى الله عليه وسلم (لزوال الدنيا أهون عند الله من قتل رجل مسلم) –رواه مسلم- كان موقف السلف من الصحابة والتابعين وأئمة الإسلام العزلة عن الفتن وعدم المشاركة فيها.
قال شيخ الاسلام ابن تيمية (وكان أفاضل المسلمين ينهون عن الخروج والقتال في الفتنة، كما كان عبدالله بن عمر، وسعيد بن المسيب، وعلي بن الحسين، وغيرهم ينهون عام الحرة عن الخروج على يزيد، وكما كان الحسن البصري ومجاهد وغيرهما ينهون عن الخروج في فتنة ابن الأشعث، ولهذا استقر أمر أهل السنة على ترك القتال في الفتنة للأحاديث الصحيحة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم وصاروا يذكرون هذا في عقائدهم، ويأمرون بالصبر على جور الأئمة، وترك قتالهم)
فالصحابي الجليل عبدالله بن عمر رضي الله عنهما لما قتل عثمان رضي الله عنه وقامت الفتنة اعتزل أمر الناس، ولم يكن في جيش أحد من المتقاتلين، بل خرج من المدينة إلى مكة فاراً بدينه، كافاً يده ولسانه عن المسلمين آخذاً بأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالاعتزال وقت الفتن، لذلك أبى أن يدخل في هذا الأمر منذ وقوعه لأول وهلة حين قتل عثمان، فقد جاؤوا إليه وقالوا: إنك سيد الناس، وابن سيد، فاخرج نبايع لك الناس. قال : إني والله لئن استطعت لا يهراق في سببي محجمة من دم.
وكذا كان موقف الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، قال حنبل: اجتمع فقهاء بغداد إلى أبي عبدالله (أحمد بن حنبل) في ولاية الواثق، وشاوروه في ترك الرضا بإمرته وسلطانه، فناظرهم أبو عبدالله ساعة، وقال لهم: عليكم بالنكرة بقلوبكم، ولا تخلعوا يداً من طاعة، ولا تشقوا عصا المسلمين، ولا تسفكوا دماءكم ودماء المسلمين، وذكر الحديث "إن ضربك فاصبر" فأمر بالصبر.-رواه الخلال في السنة وابن أبي يعلى في طبقات الحنابلة-.
قال أبو الحارث: سألت أبا عبدالله في أمر كان حدث ببغداد وهمّ قوم بالخروج فقلت: يا أبا عبدالله ما تقول في الخروج مع هؤلاء القوم؟ فأنكر ذلك عليهم وجعل يقول: "سبحان الله! الدماء الدماء، لا أرى ذلك ولا آمر به، الصبر على ما نحن فيه خير من الفتنة، يسفك فيها الدماء، ويستباح فيها الأموال وينتهك فيها المحارم". –رواه الخلال في السنة-.
فأين نحن من هذه الأحاديث الصحيحة الصريحة التي تأمر بالصبر على الجور والظلم، فإن لم يكن الصبر في مثل هذه الأحداث فمتى يكون، وما هو موقفنا يوم القيامة (ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين ) ماذا سنقول؟! ماذا سيكون جوابنا، هل سنقول أن هذه الأحاديث لا تصلح لهذا الزمان ؟! أم أن الصحابة والتابعين وأئمة الإسلام لم يفهموا هذه النصوص ونحن فهمناها بالشكل الصحيح؟! أرحموا أنفسكم، وأقول لمن يزيد من اشعال هذه الفتنة، اتق الله والله الله في دماء المسلمين (لايزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دما حراما).
والله المستعان
اللهم أحينا على السنة وأمتنا عليها