كحيلآن الحمادي
10-12-2011, 04:11 AM
http://ArabAlsahel.com/vb//uploaded/2946_01299222122.gif
{ودوا لو تدهن فيدهنون}
بقلم؛ أبي سعد العاملي
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه أجمعين وعلى من اهتدى بهديهم إلى يوم الدين.
وبعد...
اعلم أن من علامات صحة إيمان العبد؛ ثباته على عقيدته وعدم التنازل عن جزء ولو بسيط منها، ليس هذا بالأمر الهين لأنه يحتاج إلى يقظة دائمة وإلى صبر واسع وتضحية كبيرة، ولكنه السبيل الوحيد الذي يجعله قدوة صالحة لغيره، من دون أن يبادر إلى دعوة الناس بلسانه، فالثبات على المبدأ له أثر بليغ على استجابة الناس والتأثير فيهم، وهذا ما يدعو إليه رب العزة في قوله تعالى: {وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَك}، والتي قال عنها إمام الدعاة وسيدهم صلى الله عليه وسلم: (لقد شيبتني هود وأخواتها)، ويقصد في سورة هود هذه الآية الكريمة، وهي آية الاستقامة والثبات.
ويحذر الله تعالى من مغبة الركون إلى الظالمين في قوله: {وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّار}، والركون هو الخضوع والتنازل عما يعتقده المرء خوفاً أو طمعاً.
والمؤمن الحقيقي هو الذي يركن إلى الله تعالى وحده دون سواه في السراء والضراء وفي المنشط والمكره، لأنه يؤمن بأنه ركنه الركين وحبله المتين، {وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيم}، وفي قوله تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنُ بِاللهِ فَقَدْ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لاَ انْفِصَامَ لَهَا وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيم}.
والشيطان الرجيم يسعى دوماً - عن طريق عملية الإغراء - إلى إيقاع المسلم في المحظور وإبعاده عن الالتزام الصحيح بدينه والإفراط في مبادئه، وأولياء الشيطان - على جميع أنواعهم ومذاهبهم - يسلكون سبيل وليهم اللعين - لكي يبعدوا المؤمنين عن الصراط السوي ويتبعوا سبل الشيطان الملتوية.
فأعداء الحق؛ يودون لو أن المؤمنين يدهنون، خاصة في الأوقات التي تلقى فيها الدعوة استجابة وقبولاً لدى الناس، وتكون بضاعتهم الفاسدة في كساد، ويحاولون بشتى الأساليب صرف المؤمنين عن مبادئهم أو التنازل عن بعضها أو مجرد تمييعها وذلك بخلطها ببعض المبادئ الجاهلية أو البدعية، وبمجرد أن يبدأ الداعية في الانحراف، يجد أمامه ألف داع وداع من شياطين الإنس والجن يزينون له هذا المسار، ويعدونه بالخير والفلاح، {يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً}.
فلكي يتفادى المؤمن الوقوع في هذا المنزلق، عليه أن يتشبث بعقيدته ويعض عليها بالنواجذ، ولا ينظر إلى المكاسب الآنية - مهما بدت له كبيرة - وعليه أن يصبر نفسه مع الذين يدعون ربهم، ولو كانوا قلة أو مستضعفين، فإنه سرعان ما سيزول هذا الضعف بالثبات والاستقامة، {وَكَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ، وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِين}.
ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة في هذا المجال، وعلينا أن نتذكر مواقفه الثابتة على دينه، حينما عرض عليه كفار قريش المناصب والمال والجاه والسيادة مقابل أن يتوقف عن سب آلهتهم وتسفيه أحلامهم والدعوة إلى التوحيد، فلم يلتفت إلى هذه العروض والإغراءات، رغم عظمها في فترة كانت تتميز بالضيق والحصار وقلة النصير، وكان بإمكانها أن تفتح آفاقاً وسبلاً للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فيستغلوها لبسط نفوذ الدعوة - التي ستصبح في هذه الحالة مميعة ومحرَّفة - ولكنه صلى الله عليه وسلم لم يفعل وما كان له أن يقبل بشروط قريش وهو يعلم أنه سيخسر رضا الله وسينحرف عن النهج الذي بُعث من أجله، حتى ولو ربح الدنيا كلها، {وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْك}.
وهذا ما ينبغي أن يضعه الدعاة نصب أعينهم وهم يتحركون بهذا الدين العظيم، حتى لا يقعوا في المحذور الذي سيؤدي إلى الثبور.
فالذين يتربصون بنا الدوائر لكي ندهن، كثيرون، وكل واحد منهم له مصالح مباشرة وغير مباشرة، ويحرصون أشد الحرص على أن نقع في مستنقع التنازلات والتسهيلات، حتى وإن كانت صغيرة وهينة في البداية، لكنها تكفي كمفتاح ومقدمة للمزيد من التنازل والمداهنة.
الشيطان:
يأتي على رأس اللائحة، فهو صاحب المصلحة الكبرى في أن ندهن، لأننا نمثل العقبة الرئيسية في سبيله بثباتنا واستقامتنا، فتجده يساهم بنفسه وجنوده وجميع أوليائه للدخول في معركة حاسمة ومتواصلة للوسوسة والإغراء، وإخفاء مفاسد هذه التنازلات في أعين الدعاة - أفراداً وجماعات - وإظهارها بمظهر حسن حتى يتمادون في عملية المداهنة، شيئاً فشيئاً، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ، إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينْ}، فتتسع المسافة بينهم وبين مبادئهم، ويصعب عليهم بعد ذلك الرجوع إلى الأصل.
ومن أهداف الشيطان أيضاً؛ أن يبعدنا عن نعمة الطاعة والاتباع ويدخلنا في دائرة المعصية والابتداع، فنستحق في نهاية المطاف مقت الله وغضبه، فنكون من أصحاب النار.
اليهود والذين أشركوا:
تأتي هذه الفئات في الدرجة الثانية، لكونها تحمل أكبر العداء وأشده لأصحاب الحق، {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا، الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا}، وهذا يدفعهم إلى بذل أقصى الجهد لإضعاف المؤمنين ومحاربتهم.
وما دام أن قوة أصحاب الحق تكمن في تمسكهم واتباعهم لهذا الحق، فإن جهود الأعداء تصب كلها في إبعاد المؤمنين عن دينهم وتحريف مسارهم عن طريق الحق الذي اتبعوه، ويشير إلى هذه الحقيقة قوله تعالى: {وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا}، فمنتهى غايتهم هو أن نبتعد عن هذا الدين ولا يكون هو المرجع في حياتنا، حتى وإن لم ندخل في دينهم ونتبع تعاليمهم، ولكن لا يحصل رضاهم عنا حتى ندخل في دينهم وملتهم، {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ}.
لذلك يودون لو ندهن ونتنازل عن بعض مبادئنا، فنحذف الآيات التي تتحدث وتوجه المؤمنين لجهادهم أو تكشف حقيقة عدائهم الدائم والمستمر لهذا الدين، {وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ}، والتي تدعو المؤمنين إلى البراءة منهم ومن دياناتهم، وتحذر من موالاتهم، {لاَ تَتَوَلَّوْا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ، وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ}.
وفي مقابل هذه المداهنة من طرف المؤمنين؛ يكون هناك مداهنة من قبل اليهود والذين أشركوا، تتمثل أساساً في بعض المساعدات المادية أو الرضا السياسي أو ترك بعض الهوامش من الحرية لأصحاب الحق لكي يتحركوا بدينهم - في الحدود التي لا تضر بمصالح هؤلاء - ويكون ذلك عبر إعطاء الأوامر والتعليمات لأذنباهم من الحكام الجاثمين على صدور الشعوب المسلمة والمتمسكين بزمام الحكم بفضل أسيادهم.
الفرق المبتدعة والذين اتبعوا الشبهات:
يودون لو ندهن بعدم التعرض لمذاهبهم وانحرافاتهم، وبمسايرتهم والتعاون معهم، وربما بتزكية هذه المذاهب بين الناس لتظهر في مظهر حسن ومقبول؛ فيدهنون وذلك بتظاهرهم بالوحدة والتنسيق والتعاون، أو بعدم الانشغال في تتبع حركات المجاهدين والدعاة المخلصين - إلى حين - خاصة بكف ألسنتهم عنهم، أو بعدم الوقوف في صف الأعداء والتعاون معهم لمحاربة أهل الحق، والاكتفاء بموقف المتفرج، لا ينصرون الحق ولا يخذلون الباطل.
ويدخل في هذه الزمرة؛ المنافقون والذين في قلوبهم مرض، لأنهم داخلون في الذين يتبعون الشهوات ويعبدون أهواءهم، ويحاولون خداع الدعاة المؤمنين بالتظاهر الكاذب بالإيمان، بينما هم يضمرون الكفر والعداء للحق، فيقدمون بعض الخدمات، قد تبدو لنا في الظاهر مكاسب نافعة، لكنها في الباطن سوف تضر الدعوة أكثر مما ستنفعها، وسيظهر الحق للناس مشوهاً، وستختلط عليهم السبل، ويتحولوا إلى صيد رخيص وسهل لا يلبثون أن يقعوا في شراك هذه الجماعات الضالة، ونكون قد ساهمنا في هذا بقسط كبير.
عوام الناس:
يودون لو ندهن بعدم تتبعهم وتخفيف التركيز على دعوتهم، وغض الطرف على هفواتهم وموافقة أهوائهم ثم نتركهم يعيشون حياتهم وفق ما تمليه عليهم هذه الأهواء، فيدهنون بقبول بعض ما ندعوهم إليه مجاملة لنا، أو في بعض المناسبات ولساعات معدودة، فيتظاهرون بالصلاح والاستقامة لكي يرضوننا بأفواههم ويخالفون ما ندعوهم إليه بأعمالهم.
من أهداف بعض الجماعات وغاياتها؛ تجميع الناس، مهما كانت مستوياتهم، ولا يعيرون كبير اهتمام للجانب التربوي أو العقدي، همهم هو تكثير سواد الجماعة وتوسيع قطرها، وهذا الأمر يدفعها إلى عرض الإسلام في صورة سهلة ميسرة بل مميعة حتى لا يكون هناك رفض من قبل المدعوين، ولا يبينون لهؤلاء تبعات هذا الانتماء، من التضحيات والمصاعب التي سيلاقونها في الطريق، وهذه هي المداهنة الكبرى التي يقوم بها هؤلاء في حق هذا الدين، لكي لا يصدموا الناس - زعموا - ولكي يستقطبوا المزيد من أنصار الدعوة كما يتوهمون.
بينما المطلوب مع هؤلاء؛ هو مواصلة الدعوة معهم بالأسلوب الذي يناسب كل فئة منهم، بمخاطبتهم على قدر عقولهم وفهمهم، وعرض الإسلام بشموله وقوته ونصاعته، حتى لو لم يقبلوه وأعرضوا عنه أو حاربوه، فالعقول والأهواء هي التي ينبغي أن تخضع لهذا الدين وليس العكس، ولا ينبغي أن نتخذ الناس مرجعاً ومقياساً ولا استجابتهم أو عدمها دليلاً على صدق ما ندعو إليه، فالناس أكثرهم لا يعلمون، وأكثرهم لا يؤمنون، وأكثرهم لا يستجيبون للحق إلا بقدر ما يتوافق مع أهوائهم وشهواتهم، فهل نتخذ هذا معياراً في دعوتنا، فنبادر إلى التنازل والمداهنة عن مبادئنا لنرضيهم؟!
ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم الأسوة والقدوة، وعلينا أن نرجع إلى سيرته لنقف على طريقته في التعامل مع الناس، وكيف كان يعرض الإسلام كاملاً غير ناقص، واضحاً غير غامض، قوياً غير ضعيف، لا يخفي عليهم شيئاً خوفاً من عدم استجابتهم له، ولنا في سورة "عبس" خير عبرة وخير مثل في هذا المجال.
الحكام المرتدون:
يودون لو ندهن، فنترك دعوة التوحيد، وندعو إلى تعدد الآلهة في التشريع والحكم والاتباع، وهذا هو دين الملك الذي ذكره الله تعالى في كتابه؛ {وَكَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِك}، وهذا من شأنه أن يترك لهم المجال مناسباً للمزيد من الغي والفساد، واستعباد الناس دون حسيب ولا رقيب.
يريدوننا أن ندهن بترك عقيدة الولاء والبراء وحذفها من قاموس دعوتنا، فلا نعادي أعداء الله بل نواليهم، ونوالي قوانينهم وأعرافهم، ويُطلب منا أن نعادي المجاهدين الصادقين ونتبرأ منهم ومن مناهجهم.
يريدوننا أن ندهن بترك الجهاد في سبيل الله وحذفه من قاموس الوسائل التي ينبغي استعمالها لتحقيق الغايات والأهداف الشرعية، وعلى رأسها التمكين لدين الله في الأرض وتحقيق العبودية لله عز وجل بتعبيد الناس لربهم، ويريدوننا أن نسمي الجهاد؛ إرهاباً وعنفاً ينبغي محاربته، والبراءة من كل المجاهدين وتسميتهم بالإرهابيين أو المتطرفين.
يريدوننا أن ندهن بعدم الكفر بالقوانين الوضعية الكفرية، بل بتزكيتها وتبنيها واعتبارها مرجعاً وحكماً بيننا وبينهم، في الحكم وفي كل تعاملاتنا، ونشارك معهم في سنِّها وتقنينها وتطبيقها.
فنحن - كما هو معلوم - نريد أن نغير هذا الواقع من جذوره، ولا نريد أن نكتفي بالإصلاحات الطفيفة التي تبقي على الأصل والجوهر، كأن نرقّع هذا الواقع ببعض التغييرات القشرية والسطحية، كما يفعل الكثير من المحسوبين على الحركة الإسلامية المعاصرة، والذين دوختهم وخدَّرتهم لعبة الديموقراطية ورضوا بأن يكونوا مع المرتدين والعلمانيين تحت قبة البرلمانات التشريعية، من أجل خدمة البلاد - زعموا - ففرّطوا في أهم أصل من أصول ديننا ألا وهو التشريع.
إننا نريد أن نتميز بمنهجنا، ولا يمكن أن نلتقي مع هذا الواقع الجاهلي الفاسد بأي حال من الأحوال، لأننا على مفترق الطرق، طريقان متعاكسان، كما هو شأن الحق والباطل، لا يمكن أن يلتقيا أبداً، فإما منهجنا الشرعي القويم الذي يستمد قوته من الرحمن وإما منهج الفساد والطغيان الذي يستمد شرعيته من الشيطان .
في مقابل هذه المداهنة من جهتنا؛ يدهن هؤلاء المرتدون بأن يتركوا لنا بعض الحرية في الدعوة إلى ما يناسب قوانينهم ولا يتعارض معها، فندعو إلى تعدد الآلهة المدعاة، في الحكم والتشريع، بدلاً من دعوة التوحيد.
ويدهنون بمنحنا الرخصة الرسمية للمشاركة في اللعبة السياسية - إلى جانب الأحزاب المرتدة وبعض الفرق البدعية الضالة - للمساهمة في عملية تعطيل حكم الله وتشريع ما لم يأذن به الله والحكم بغير ما أنزل الله، وهي ثلاثية إبليسية، كل واحدة منها تكفي للخروج من دائرة الدين ومن ملة الإسلام.
هذا فيما يخص التعامل مع سائر هذه الفئات - عوامهم وخواصهم - يودون لو ندهن فيدهنون، والحرب ما زالت مستمرة وقائمة، كر وفر، تربص وتحين للفرص من كل الأطراف، ليغفل غريمه عن ثغرة من ثغرات المعركة، فيدخل منها إلى عقر دار غريمه.
وإن من أكبر الثغرات التي ينبغي على المؤمنين التنبه والحرص على عدم الإتيان من قبلها؛ هو المداهنة في الحق، والانصياع للباطل، مهما حاول الشيطان أن يضخِّم من قيمة بعض المكتسبات الموهومة، لأنها ستنقلب في الدنيا سراب وأوهام، وفي الآخرة ندامة وآلام.
نعوذ بالله من الخذلان ومن خزي الشيطان.
{ودوا لو تدهن فيدهنون}
بقلم؛ أبي سعد العاملي
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه أجمعين وعلى من اهتدى بهديهم إلى يوم الدين.
وبعد...
اعلم أن من علامات صحة إيمان العبد؛ ثباته على عقيدته وعدم التنازل عن جزء ولو بسيط منها، ليس هذا بالأمر الهين لأنه يحتاج إلى يقظة دائمة وإلى صبر واسع وتضحية كبيرة، ولكنه السبيل الوحيد الذي يجعله قدوة صالحة لغيره، من دون أن يبادر إلى دعوة الناس بلسانه، فالثبات على المبدأ له أثر بليغ على استجابة الناس والتأثير فيهم، وهذا ما يدعو إليه رب العزة في قوله تعالى: {وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَك}، والتي قال عنها إمام الدعاة وسيدهم صلى الله عليه وسلم: (لقد شيبتني هود وأخواتها)، ويقصد في سورة هود هذه الآية الكريمة، وهي آية الاستقامة والثبات.
ويحذر الله تعالى من مغبة الركون إلى الظالمين في قوله: {وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّار}، والركون هو الخضوع والتنازل عما يعتقده المرء خوفاً أو طمعاً.
والمؤمن الحقيقي هو الذي يركن إلى الله تعالى وحده دون سواه في السراء والضراء وفي المنشط والمكره، لأنه يؤمن بأنه ركنه الركين وحبله المتين، {وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيم}، وفي قوله تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنُ بِاللهِ فَقَدْ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لاَ انْفِصَامَ لَهَا وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيم}.
والشيطان الرجيم يسعى دوماً - عن طريق عملية الإغراء - إلى إيقاع المسلم في المحظور وإبعاده عن الالتزام الصحيح بدينه والإفراط في مبادئه، وأولياء الشيطان - على جميع أنواعهم ومذاهبهم - يسلكون سبيل وليهم اللعين - لكي يبعدوا المؤمنين عن الصراط السوي ويتبعوا سبل الشيطان الملتوية.
فأعداء الحق؛ يودون لو أن المؤمنين يدهنون، خاصة في الأوقات التي تلقى فيها الدعوة استجابة وقبولاً لدى الناس، وتكون بضاعتهم الفاسدة في كساد، ويحاولون بشتى الأساليب صرف المؤمنين عن مبادئهم أو التنازل عن بعضها أو مجرد تمييعها وذلك بخلطها ببعض المبادئ الجاهلية أو البدعية، وبمجرد أن يبدأ الداعية في الانحراف، يجد أمامه ألف داع وداع من شياطين الإنس والجن يزينون له هذا المسار، ويعدونه بالخير والفلاح، {يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً}.
فلكي يتفادى المؤمن الوقوع في هذا المنزلق، عليه أن يتشبث بعقيدته ويعض عليها بالنواجذ، ولا ينظر إلى المكاسب الآنية - مهما بدت له كبيرة - وعليه أن يصبر نفسه مع الذين يدعون ربهم، ولو كانوا قلة أو مستضعفين، فإنه سرعان ما سيزول هذا الضعف بالثبات والاستقامة، {وَكَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ، وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِين}.
ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة في هذا المجال، وعلينا أن نتذكر مواقفه الثابتة على دينه، حينما عرض عليه كفار قريش المناصب والمال والجاه والسيادة مقابل أن يتوقف عن سب آلهتهم وتسفيه أحلامهم والدعوة إلى التوحيد، فلم يلتفت إلى هذه العروض والإغراءات، رغم عظمها في فترة كانت تتميز بالضيق والحصار وقلة النصير، وكان بإمكانها أن تفتح آفاقاً وسبلاً للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فيستغلوها لبسط نفوذ الدعوة - التي ستصبح في هذه الحالة مميعة ومحرَّفة - ولكنه صلى الله عليه وسلم لم يفعل وما كان له أن يقبل بشروط قريش وهو يعلم أنه سيخسر رضا الله وسينحرف عن النهج الذي بُعث من أجله، حتى ولو ربح الدنيا كلها، {وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْك}.
وهذا ما ينبغي أن يضعه الدعاة نصب أعينهم وهم يتحركون بهذا الدين العظيم، حتى لا يقعوا في المحذور الذي سيؤدي إلى الثبور.
فالذين يتربصون بنا الدوائر لكي ندهن، كثيرون، وكل واحد منهم له مصالح مباشرة وغير مباشرة، ويحرصون أشد الحرص على أن نقع في مستنقع التنازلات والتسهيلات، حتى وإن كانت صغيرة وهينة في البداية، لكنها تكفي كمفتاح ومقدمة للمزيد من التنازل والمداهنة.
الشيطان:
يأتي على رأس اللائحة، فهو صاحب المصلحة الكبرى في أن ندهن، لأننا نمثل العقبة الرئيسية في سبيله بثباتنا واستقامتنا، فتجده يساهم بنفسه وجنوده وجميع أوليائه للدخول في معركة حاسمة ومتواصلة للوسوسة والإغراء، وإخفاء مفاسد هذه التنازلات في أعين الدعاة - أفراداً وجماعات - وإظهارها بمظهر حسن حتى يتمادون في عملية المداهنة، شيئاً فشيئاً، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ، إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينْ}، فتتسع المسافة بينهم وبين مبادئهم، ويصعب عليهم بعد ذلك الرجوع إلى الأصل.
ومن أهداف الشيطان أيضاً؛ أن يبعدنا عن نعمة الطاعة والاتباع ويدخلنا في دائرة المعصية والابتداع، فنستحق في نهاية المطاف مقت الله وغضبه، فنكون من أصحاب النار.
اليهود والذين أشركوا:
تأتي هذه الفئات في الدرجة الثانية، لكونها تحمل أكبر العداء وأشده لأصحاب الحق، {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا، الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا}، وهذا يدفعهم إلى بذل أقصى الجهد لإضعاف المؤمنين ومحاربتهم.
وما دام أن قوة أصحاب الحق تكمن في تمسكهم واتباعهم لهذا الحق، فإن جهود الأعداء تصب كلها في إبعاد المؤمنين عن دينهم وتحريف مسارهم عن طريق الحق الذي اتبعوه، ويشير إلى هذه الحقيقة قوله تعالى: {وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا}، فمنتهى غايتهم هو أن نبتعد عن هذا الدين ولا يكون هو المرجع في حياتنا، حتى وإن لم ندخل في دينهم ونتبع تعاليمهم، ولكن لا يحصل رضاهم عنا حتى ندخل في دينهم وملتهم، {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ}.
لذلك يودون لو ندهن ونتنازل عن بعض مبادئنا، فنحذف الآيات التي تتحدث وتوجه المؤمنين لجهادهم أو تكشف حقيقة عدائهم الدائم والمستمر لهذا الدين، {وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ}، والتي تدعو المؤمنين إلى البراءة منهم ومن دياناتهم، وتحذر من موالاتهم، {لاَ تَتَوَلَّوْا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ، وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ}.
وفي مقابل هذه المداهنة من طرف المؤمنين؛ يكون هناك مداهنة من قبل اليهود والذين أشركوا، تتمثل أساساً في بعض المساعدات المادية أو الرضا السياسي أو ترك بعض الهوامش من الحرية لأصحاب الحق لكي يتحركوا بدينهم - في الحدود التي لا تضر بمصالح هؤلاء - ويكون ذلك عبر إعطاء الأوامر والتعليمات لأذنباهم من الحكام الجاثمين على صدور الشعوب المسلمة والمتمسكين بزمام الحكم بفضل أسيادهم.
الفرق المبتدعة والذين اتبعوا الشبهات:
يودون لو ندهن بعدم التعرض لمذاهبهم وانحرافاتهم، وبمسايرتهم والتعاون معهم، وربما بتزكية هذه المذاهب بين الناس لتظهر في مظهر حسن ومقبول؛ فيدهنون وذلك بتظاهرهم بالوحدة والتنسيق والتعاون، أو بعدم الانشغال في تتبع حركات المجاهدين والدعاة المخلصين - إلى حين - خاصة بكف ألسنتهم عنهم، أو بعدم الوقوف في صف الأعداء والتعاون معهم لمحاربة أهل الحق، والاكتفاء بموقف المتفرج، لا ينصرون الحق ولا يخذلون الباطل.
ويدخل في هذه الزمرة؛ المنافقون والذين في قلوبهم مرض، لأنهم داخلون في الذين يتبعون الشهوات ويعبدون أهواءهم، ويحاولون خداع الدعاة المؤمنين بالتظاهر الكاذب بالإيمان، بينما هم يضمرون الكفر والعداء للحق، فيقدمون بعض الخدمات، قد تبدو لنا في الظاهر مكاسب نافعة، لكنها في الباطن سوف تضر الدعوة أكثر مما ستنفعها، وسيظهر الحق للناس مشوهاً، وستختلط عليهم السبل، ويتحولوا إلى صيد رخيص وسهل لا يلبثون أن يقعوا في شراك هذه الجماعات الضالة، ونكون قد ساهمنا في هذا بقسط كبير.
عوام الناس:
يودون لو ندهن بعدم تتبعهم وتخفيف التركيز على دعوتهم، وغض الطرف على هفواتهم وموافقة أهوائهم ثم نتركهم يعيشون حياتهم وفق ما تمليه عليهم هذه الأهواء، فيدهنون بقبول بعض ما ندعوهم إليه مجاملة لنا، أو في بعض المناسبات ولساعات معدودة، فيتظاهرون بالصلاح والاستقامة لكي يرضوننا بأفواههم ويخالفون ما ندعوهم إليه بأعمالهم.
من أهداف بعض الجماعات وغاياتها؛ تجميع الناس، مهما كانت مستوياتهم، ولا يعيرون كبير اهتمام للجانب التربوي أو العقدي، همهم هو تكثير سواد الجماعة وتوسيع قطرها، وهذا الأمر يدفعها إلى عرض الإسلام في صورة سهلة ميسرة بل مميعة حتى لا يكون هناك رفض من قبل المدعوين، ولا يبينون لهؤلاء تبعات هذا الانتماء، من التضحيات والمصاعب التي سيلاقونها في الطريق، وهذه هي المداهنة الكبرى التي يقوم بها هؤلاء في حق هذا الدين، لكي لا يصدموا الناس - زعموا - ولكي يستقطبوا المزيد من أنصار الدعوة كما يتوهمون.
بينما المطلوب مع هؤلاء؛ هو مواصلة الدعوة معهم بالأسلوب الذي يناسب كل فئة منهم، بمخاطبتهم على قدر عقولهم وفهمهم، وعرض الإسلام بشموله وقوته ونصاعته، حتى لو لم يقبلوه وأعرضوا عنه أو حاربوه، فالعقول والأهواء هي التي ينبغي أن تخضع لهذا الدين وليس العكس، ولا ينبغي أن نتخذ الناس مرجعاً ومقياساً ولا استجابتهم أو عدمها دليلاً على صدق ما ندعو إليه، فالناس أكثرهم لا يعلمون، وأكثرهم لا يؤمنون، وأكثرهم لا يستجيبون للحق إلا بقدر ما يتوافق مع أهوائهم وشهواتهم، فهل نتخذ هذا معياراً في دعوتنا، فنبادر إلى التنازل والمداهنة عن مبادئنا لنرضيهم؟!
ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم الأسوة والقدوة، وعلينا أن نرجع إلى سيرته لنقف على طريقته في التعامل مع الناس، وكيف كان يعرض الإسلام كاملاً غير ناقص، واضحاً غير غامض، قوياً غير ضعيف، لا يخفي عليهم شيئاً خوفاً من عدم استجابتهم له، ولنا في سورة "عبس" خير عبرة وخير مثل في هذا المجال.
الحكام المرتدون:
يودون لو ندهن، فنترك دعوة التوحيد، وندعو إلى تعدد الآلهة في التشريع والحكم والاتباع، وهذا هو دين الملك الذي ذكره الله تعالى في كتابه؛ {وَكَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِك}، وهذا من شأنه أن يترك لهم المجال مناسباً للمزيد من الغي والفساد، واستعباد الناس دون حسيب ولا رقيب.
يريدوننا أن ندهن بترك عقيدة الولاء والبراء وحذفها من قاموس دعوتنا، فلا نعادي أعداء الله بل نواليهم، ونوالي قوانينهم وأعرافهم، ويُطلب منا أن نعادي المجاهدين الصادقين ونتبرأ منهم ومن مناهجهم.
يريدوننا أن ندهن بترك الجهاد في سبيل الله وحذفه من قاموس الوسائل التي ينبغي استعمالها لتحقيق الغايات والأهداف الشرعية، وعلى رأسها التمكين لدين الله في الأرض وتحقيق العبودية لله عز وجل بتعبيد الناس لربهم، ويريدوننا أن نسمي الجهاد؛ إرهاباً وعنفاً ينبغي محاربته، والبراءة من كل المجاهدين وتسميتهم بالإرهابيين أو المتطرفين.
يريدوننا أن ندهن بعدم الكفر بالقوانين الوضعية الكفرية، بل بتزكيتها وتبنيها واعتبارها مرجعاً وحكماً بيننا وبينهم، في الحكم وفي كل تعاملاتنا، ونشارك معهم في سنِّها وتقنينها وتطبيقها.
فنحن - كما هو معلوم - نريد أن نغير هذا الواقع من جذوره، ولا نريد أن نكتفي بالإصلاحات الطفيفة التي تبقي على الأصل والجوهر، كأن نرقّع هذا الواقع ببعض التغييرات القشرية والسطحية، كما يفعل الكثير من المحسوبين على الحركة الإسلامية المعاصرة، والذين دوختهم وخدَّرتهم لعبة الديموقراطية ورضوا بأن يكونوا مع المرتدين والعلمانيين تحت قبة البرلمانات التشريعية، من أجل خدمة البلاد - زعموا - ففرّطوا في أهم أصل من أصول ديننا ألا وهو التشريع.
إننا نريد أن نتميز بمنهجنا، ولا يمكن أن نلتقي مع هذا الواقع الجاهلي الفاسد بأي حال من الأحوال، لأننا على مفترق الطرق، طريقان متعاكسان، كما هو شأن الحق والباطل، لا يمكن أن يلتقيا أبداً، فإما منهجنا الشرعي القويم الذي يستمد قوته من الرحمن وإما منهج الفساد والطغيان الذي يستمد شرعيته من الشيطان .
في مقابل هذه المداهنة من جهتنا؛ يدهن هؤلاء المرتدون بأن يتركوا لنا بعض الحرية في الدعوة إلى ما يناسب قوانينهم ولا يتعارض معها، فندعو إلى تعدد الآلهة المدعاة، في الحكم والتشريع، بدلاً من دعوة التوحيد.
ويدهنون بمنحنا الرخصة الرسمية للمشاركة في اللعبة السياسية - إلى جانب الأحزاب المرتدة وبعض الفرق البدعية الضالة - للمساهمة في عملية تعطيل حكم الله وتشريع ما لم يأذن به الله والحكم بغير ما أنزل الله، وهي ثلاثية إبليسية، كل واحدة منها تكفي للخروج من دائرة الدين ومن ملة الإسلام.
هذا فيما يخص التعامل مع سائر هذه الفئات - عوامهم وخواصهم - يودون لو ندهن فيدهنون، والحرب ما زالت مستمرة وقائمة، كر وفر، تربص وتحين للفرص من كل الأطراف، ليغفل غريمه عن ثغرة من ثغرات المعركة، فيدخل منها إلى عقر دار غريمه.
وإن من أكبر الثغرات التي ينبغي على المؤمنين التنبه والحرص على عدم الإتيان من قبلها؛ هو المداهنة في الحق، والانصياع للباطل، مهما حاول الشيطان أن يضخِّم من قيمة بعض المكتسبات الموهومة، لأنها ستنقلب في الدنيا سراب وأوهام، وفي الآخرة ندامة وآلام.
نعوذ بالله من الخذلان ومن خزي الشيطان.