كحيلآن الحمادي
10-17-2011, 08:39 AM
http://ArabAlsahel.com/vb//uploaded/2946_01299222122.gif
الردة والمفهوم المغلوط
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.
وبعد:
لم يكن المسلمون ليصلوا إلى هذا التدني والضعف الصارخ إلا بسبب الانحراف الكبير الذي حصل لديهم على مستوى الرؤية الشرعية، فكثير من المفاهيم صارت مغلوطة في أذهان المسلمين، ما أدى إلى وجود مواقف خاطئة اتجاه الأمور، بل إلى وجود مناهج منحرفة على المستوى النظري والتطبيقي على حد سواء.
فضاعت العقيدة الصحيحة وسط زخم من البدع والانحرافات، كما ضاعت الأمة وسط أعدائها، حيث أنها لم تعد تستطيع التمييز بين العدو والصديق، ولا بين الكافر والمؤمن، ولا بين المنافق والصادق، كل هذا بسبب انتشار مذاهب البدعة بدلاً من مذهب أهل السنة والجماعة.
فلا غرابة أن ترى أن من بين أهم أهداف الإسلام هو التفريق يبن سبيل الحق وأهله وبين سبل الباطل وأهله {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَ لِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ المُجْرِمِين} [الأنعام 55]، لكي يعلم المسلمون أين يضعون أقدامهم وهم يتحركون بهذا الدين، ومع من ينبغي التعاون وإعطاء الولاء وعلى من ينبغي إعلان العداء. هذه من أهم المحطات الإيمانية وأخطرها على الإطلاق في عقيدتنا الغراء.
فمفهوم الردة عند المسلمين قد أصابه انحراف كبير، حيث أصبح المرتد عند الغالبية شيء مستحيل الحدوث، ذلك أن عقيدة الإرجاء المترسخة في النفوس والعقول، تأبى أن نتصور مسلماً يخرج من دينه بسبب اقترافه بعض الأعمال الكفرية، فالردة أبعد منا بُعد السماء عن الأرض، فالمسلم يبقى مسلماً حتى وإن قال أو عمل ما هو كفر ألف مرة في اليوم والليلة، حيث حصرنا مفهوم الكفر أو الردة في الجحود أو الاستحلال، وليس في القول والعمل كما هو مفهوم الإيمان عند أهل السنة والجماعة.
حكم الردة أغلظ من حكم الكفر الأصلي:
بسبب خطورة الردة والمرتد على ديننا، نجد أن الشارع الحكيم قد أغلظ العقوبة للمرتد، بخلاف الكافر الأصلي، فالمرتد يُقتل في كل حال ولا يُدفن في مقابر المسلمين ولا يُصلى عليه ولا يُورَّث، كما تسبى نساء وذراري المرتدين المحاربين للمسلمين، ويجهز على جريحهم.
قال ابن تيمية رحمه الله تعالى: (وكفر الردّة أغلظ بالإجماع من الكفر الأصلي) [مجموع الفتاوى، 28/478].
وقال كذلك: (وقد استقرّت السنّة بأنّ عقوبة المرتدّ أعظم من عقوبة الكافر الأصلي من وجوه متعدّدة، منها أنّ المرتدّ يُقتل بكلّ حال ولا يُضرب عليه جزية، ولا تُعقَد له ذمّة، بخلاف الكافر الأصلي الذي ليس هو من أهل القتال، فإنّه لا يُقتل عند أكثر العلماء كأبي حنيفة ومالك وأحمد، ولهذا كان مذهب الجمهور أنّّ المرتدّ يُقتل كما هو مذهب مالك والشافعي وأحمد، ومنها أنّ المرتدّ لا يرث ولا يناكح ولا تؤكل ذبيحته، بخلاف الكافر الأصلي إلى غير ذلك من الأحكام) [مجموع الفتاوى، 28/534].
بل إنّهم رأوا في المرتدّ أن لا يُدفن: قال إسحق بن منصور: (قلت لأحمد: المرتدّ إذا قُتل ما يُصنع بجيفته؟ قال: يُقال: يُترك حيث ضُرب عنقه كأنّما كان ذاك المكان قبره. يُعجبني هذا) [السابق، فقرة 1301].
وقال ابن تيمية: (والصدّيق رضي الله عنه وسائر الصحابة بدأوا بجهاد المرتدّين قبل جهاد الكفّار من أهل الكتاب، فإنّ جهاد هؤلاء حفظ لما فُتح من بلاد المسلمين وأن يدخل فيه من أراد الخروج عنه، وجهاد من لم يقاتلنا من المشركين وأهل الكتاب من زيادة إظهار الدين، وحفظ رأس المال مقدّم على الربح) [مجموع الفتاوى، 35/158-159].
فالتعامل الشرعي مع المرتدين هو القتل والقتال، بينما ينبغي دعوة الكافر الأصلي إلى الإسلام وعرض الجزية عليه، قبل الإقدام على عملية القتال في المطاف الأخير.
هذا هو الحكم الشرعي المنسي فيما يخص المرتد، والذي حلًّ محله الحكم الوضعي الذي يساوي بين المسلم والمرتد، بل تراه يعظِّم المرتد ويعلي من شأنه ويقلِّده المناصب الكبرى والحساسة في الحكم والتسيير.
العلاقة التاريخية بين المرتدين والمحتلين:
لا شك أن من أعظم أسباب كفر هؤلاء المرتدين بعد تركهم لحكم الله تعالى واستبداله بحكم الطاغوت وعدم اتباعهم لشرع الله جملة وتفصيلاً، هو موالاتهم للكفار الأصليين وتبعيتهم لهم حذو القذة بالقذة، بالإضافة إلى الخضوع التام لأوامرهم وقوانينهم الكفرية.
فهذه العلاقة المحرمة نشأت منذ فجر ما يسمى كذباً وزوراً ب"استقلال بلداننا" أو ما اصطلح على تسميته "بحروب التحرير"، فالمحتل الصليبي ما استطاع أن يتمكن من بلداننا إلا بفضل التعاون المتين لهؤلاء المرتدين، حيث رضعوا من لبن ثقافته حتى الثمالة، وخضعوا لعملية تربية دقيقة في بلدان الكفر أو في بلداننا على أيدي الخبراء الصليبيين واليهود، لكي يقوموا بأدوار طلائعية في الحفاظ على مصالح أعدائنا، مقابل الفوز بمناصب الحكم.
لقد قامت نخبة الردة في بلداننا بخداع الشعوب - أثناء ما يسمى بحرب التحرير - فتسلقوا على جهاد الشعوب الغافلة، واستغلوا دماءها وتضحياتها، ليقطفوا ثمرة جهادها المرير، ويجعلوا من جماجم وأشلاء الآلاف من الشهداء سلماً للوصول إلى مناصب الحكم، وقد ساعدهم على ذلك أعداؤنا، بالتمكين لهم وتصويرهم للشعوب على أنهم أبطال وقيادات لهذا الجهاد. فخرج المحتل من الباب ليدخل هؤلاء المرتدون من ألف نافذة، وليتمكنوا من خيرات البلاد ورقاب العباد، كما لو كان المحتل موجوداً حالاً وفعلاً.
لقد تربى هؤلاء المرتدون على موائد الكفار من صليبيين ويهود، ليقوموا بدور الخلفاء لهؤلاء، فقاموا بهذا الدور الخبيث خير قيام، فجمعوا ثروات شعوبنا وخيرات بلداننا - تحت مسميات عدة وعبر وسائل مختلفة - ليقدموها في أطباق من ذهب لأعدائنا أو يدَّخروها في بنوكهم ليتم استغلالها هناك بعيداً عن أصحابها الحقيقيين، كما ساهموا في ترويج ثقافة الفساد والكفر والفسوق في بلداننا تحت مسمى الانفتاح والتبادل الثقافي، وهو في حقيقة الأمر احتلال جديد للعقول، وهدم للعقيدة والقيم.
ما حاربوا - بأيديهم وأفواههم - كل من يدعو الأمة إلى دينها من المصلحين والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، فطاردوهم أو هجَّروهم أو سجنوهم أو قتلوهم، بعدما أدركوا خطرهم على مصائرهم ومخططاتهم الشيطانية.
ولقد تعاونوا مع أعدائنا في هذا المجال تعاوناً وثيقاً ولا يزالون، فسعوا إلى ما أسموه بتجفيف منابع الإصلاح والتضييق على الدعاة والمصلحين، بينما فتحوا أبواب الإفساد على مصراعيها لكل المفسدين لتنفيذ مهامهم وقدَّموا لهم كل الوسائل اللازمة لنشر مذاهبهم الهدامة.
إن الله سبحانه وتعالى يخبرنا عن هذه العلاقة الجدلية والوطيدة بين الكفار الأصليين وهؤلاء المرتدين في قوله {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}، بل إن هؤلاء المرتدين لديهم درجة أعلى في الكفر، يستحقون بسببها أشد أنواع العذاب في الدنيا والآخرة، ومن لم يفهم هذه العلاقة وهذه الحقيقة ويدركها فلا زال في ضلال مبين، ولا يزال بحاجة إلى إعادة الفهم لدينه على ضوء فهم السلف الصالح.
المفهوم المغلوط وتأثيره على العمل الإسلامي:
بسبب خلل في عقيدتها، وانتشار عقيدة غلاة المرجئة في مسمى الإيمان والكفر، اعتبرت شعوبنا هذه الفئات المرتدة، فئات مسلمة بمجرد نطقها بالشهادتين أو في أغلب الأحيان بمجرد شهادة الميلاد، وهذه هي الطامة الكبرى، فمكنتها من الوصول إلى مناصب الحكم والقرار والتوجيه وما زالت هذه العقيدة منتشرة ومستشرية في الكثير من النفوس، بل ما زالت هي التي تطغى على مناهج وبرامج العمل لدى الكثير من الحركات الإسلامية في الساحة.
فمنذ فجر ما يسمى بالصحوة الإسلامية، والساحة تعرف هذا النوع من الفرق الإسلامية، التي تعتقد أن الإيمان هو مجرد النطق بالشهادتين أو هو عبارة عن اعتقاد محض، لا علاقة له بالعمل البتة.
مما أدى إلى اختلاط المؤمن بالكافر، والصادق بالمنافق، والعدو بالولي، فصار الجميع مسلماً ينبغي التعاون معه، لمصلحة البلاد والعباد، وصار الجميع صديقاً وولياً ولا وجود لشيء يسمى البراء والعداء، ولا داعي لما يسمى بالجهاد، خاصة جهاد الطلب للتمكين لدين الله تعالى، فالجهاد أصبح للدفع ونُسخ جهاد الطلب، بل إننا وجدنا من أوقف حتى جهاد الدفع بدعوى أن الإسلام دين السلام والتسامح، ويحرص على دماء الأبرياء.
أما الكفار، فيعتبرهم هؤلاء أصدقاء، بل إنهم أهل كتاب ينبغي التعامل معهم بالتي هي أحسن، ولم لا، اعتبارهم إخوة لنا في الدين ينبغي التعاون معهم وفتح أبواب الحوار فيما بيننا، وتسمية ذلك بحوار الأديان أو حوار الحضارات بدلاً من تصادمها.
أما على المستوى الداخلي، وبخاصة التعامل مع الفئات الحاكمة في بلداننا، فإن الطامة أكبر، والمصيبة أعظم، حيث أننا نرى فقهاً جديداً يسمى بفقه المصالح المرسلة أو كما يعبرون عنه بقولهم المشهور "حيثما كانت مصلحة فثم دين الله"، بمعنى أن الدين ينبغي أن يدور مع مصالح القوم، وليس العكس، وكل ما يتعارض مع هذه المصالح فليس من دين الله تعالى في اعتقادهم.
هذه هي القاعدة البدعية الجديدة التي بنوا عليها فقهاً عريضاً وطويلاً، ما شهدنا مثله من قبل في سلفنا.
الشيء الذي انبثق عنه نتائج وخيمة وغريبة، مفادها أن الحاكم - بالرغم من ردته - يعتبر ولي الأمر الشرعي ينبغي الخضوع له واتباع أوامره ومبايعته على السمع والطاعة في المنشط والمكره.
وفي أسوأ حالات التعامل مع هؤلاء الحكام، فإنه لا يجوز الخروج عليه أو اعتباره كافراً مرتداً، بل أقصى ما يستطيعون وصفهم به، هو الظلم أو الانحراف، والصبر على أذاهم حتى لو جلدوا ظهورهم أو أخذوا أموالهم.
ألا ترون ذلك في كل بلداننا، بدءاً من بلاد المشرق العربي، وبخاصة بلاد الحجاز وبلاد الشام و في بلاد المغرب العربي، ثم في بلدان آسيا المسلمة خاصة جنوب شرقي آسيا، حيث انتشرت عقيدة غلاة المرجئة في مسمى الإيمان والكفر، فسارعت هذه الطوائف والفرق للدخول في دين الحكام أفواجاً، فشاركوهم طقوسهم السياسية، فدخلوا في لعبة الانتخابات أو ما يسمى باللعبة الديموقراطية، وساهموا مع بقية الأحزاب المرتدة - طوعاً لا كرهاً - في تزيين صورة الأنظمة الحاكمة، بل إن من هذه الطوائف المبتدعة من قدَّم ولاءه وشارك مباشرة في هذه الحكومات، بحجة الإصلاح وجمع ذات البين وتوحيد كلمة المسلمين ومحاربة التشدد والتطرف.
لقد ابتلينا بهكذا جماعات، انحراف في العقيدة وانحراف في التطبيق، وقلب للموازين والمفاهيم الصحيحة اتجاه أعدى وأخطر فئة على الدين، إلا وهي فئة الردة والنفاق.
فلا يمكننا والحالة هذه، أن نتعامل مع هذه الطوائف إلا بمزيد من الحذر، واعتبارها أنصاراً مباشرين لهؤلاء المرتدين، وسياجهم الذي يتحصنون به في مواجهة جماعات الجهاد أو ما يسمونه بالجماعات الإرهابية.
لقد التقت مصالحهم على محاربة الجهاد والمجاهدين وكل من يحرض عليه من الدعاة والعلماء والمصلحين، وساهموا جميعاً في نشر دينهم الجديد، المبني على ما يسمى بتحقيق المصالح المرسلة، والحرص على إرضاء العباد على حساب إسخاط رب العباد، والحرص على إتباع الظن و إرضاء الهوى بدلاً من اتباع الحق وإرضاء الرب.
لقد أصبحت مهمة جماعات الجهاد صعبة ومتشعبة، حيث لابد من مواجهة هذه الطوائف وإزالتها من الطريق، وهدم أصنامها المتمثلة في هذه المفاهيم المغلوطة اتجاه الكثير من المصطلحات والمسائل الشرعية.
لن تكون بالمهمة الصعبة على عصابات الحق والجهاد، فالزبد يذهب جفاء وحده وبلا جهد يُذكر، بفضل توفيق الله تعالى وإرادته بإحقاق الحق ولو كره المجرمون والكافرون والمشركون {وَيُحِقُّ اللهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاِتهِ وَلَوْ كَرِهَ المُجْرِمُون} [الأعراف]، ثم بفضل العزيمة الكبيرة التي يتمتع بها هؤلاء المؤمنون.
فكل المؤشرات الحالية تبشر ببداية النهاية لهذه الطوائف البدعية، وبقرب زوال هذه المفاهيم المغلوطة من عقول الناس، حيث أن المفاهيم الشرعية قد بدأت تكتسح الساحة وتنتشر في أوساط العمل الإسلامي، وأخذت جماعات الجهاد مواقع متقدمة في مواجهة أعداء الأمة، من كفار أصليين ومرتدين ومنافقين، وأصبحت هذه الجماعات بمثابة رأس الحربة في حربنا الطويلة الأمد مع الأعداء، فلم يعد هناك مكان لمثل هؤلاء المبتدعة في مواصلة حضورهم على الساحة من أجل التأثير على مجريات الأمور، فمكانهم هو المؤخرة والقعود مع القاعدين، في انتظار قطف الثمرة بجهد بسيط، ومحاولة الركوب على موجة الجهاد المبارك كما فعلت الفئات الحاكمة مع جهاد أجدادنا في مواجهة المحتل بالأمس القريب.
لن تتكرر التجربة بإذن الله، وسوف يعرف المجاهدون هذه المرة كيف يقطفون ثمرة جهادهم بأيديهم، فلم يعودوا قاصرين سياسياً - كما كان حال أجدادنا وآبائنا عقب ما يسمى بالاستقلال الصوري - بل إن جيل الجهاد اليوم، يتمتع بوعي رفيع وفهم سليم وفقه رشيد، يمكِّنهم من قيادة البشرية جمعاء، فضلاً عن قيادة دولة أو قطر من أقطار عالمنا الإسلامي الفسيح.
وخير دليل على ما نقول، هو هذه الصور من التحدي الصارخ، وهذه الملامح الجهادية المباركة في مواجهة العالم أجمع، وعجز الأعداء عن تفادي هذه الضربات الجهادية فضلاً عن القضاء على هذه الجماعات المباركة.
لقد انتهى عهد البدعة وحل محله عهد السنة، وسوف نرى قريباً تحقيق وعد الله لعباده ولدينه بالتمكين، {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ}.
أبي سعد العاملي
مجلة الانصار
1 / شوال / 1423 هـ
الردة والمفهوم المغلوط
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.
وبعد:
لم يكن المسلمون ليصلوا إلى هذا التدني والضعف الصارخ إلا بسبب الانحراف الكبير الذي حصل لديهم على مستوى الرؤية الشرعية، فكثير من المفاهيم صارت مغلوطة في أذهان المسلمين، ما أدى إلى وجود مواقف خاطئة اتجاه الأمور، بل إلى وجود مناهج منحرفة على المستوى النظري والتطبيقي على حد سواء.
فضاعت العقيدة الصحيحة وسط زخم من البدع والانحرافات، كما ضاعت الأمة وسط أعدائها، حيث أنها لم تعد تستطيع التمييز بين العدو والصديق، ولا بين الكافر والمؤمن، ولا بين المنافق والصادق، كل هذا بسبب انتشار مذاهب البدعة بدلاً من مذهب أهل السنة والجماعة.
فلا غرابة أن ترى أن من بين أهم أهداف الإسلام هو التفريق يبن سبيل الحق وأهله وبين سبل الباطل وأهله {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَ لِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ المُجْرِمِين} [الأنعام 55]، لكي يعلم المسلمون أين يضعون أقدامهم وهم يتحركون بهذا الدين، ومع من ينبغي التعاون وإعطاء الولاء وعلى من ينبغي إعلان العداء. هذه من أهم المحطات الإيمانية وأخطرها على الإطلاق في عقيدتنا الغراء.
فمفهوم الردة عند المسلمين قد أصابه انحراف كبير، حيث أصبح المرتد عند الغالبية شيء مستحيل الحدوث، ذلك أن عقيدة الإرجاء المترسخة في النفوس والعقول، تأبى أن نتصور مسلماً يخرج من دينه بسبب اقترافه بعض الأعمال الكفرية، فالردة أبعد منا بُعد السماء عن الأرض، فالمسلم يبقى مسلماً حتى وإن قال أو عمل ما هو كفر ألف مرة في اليوم والليلة، حيث حصرنا مفهوم الكفر أو الردة في الجحود أو الاستحلال، وليس في القول والعمل كما هو مفهوم الإيمان عند أهل السنة والجماعة.
حكم الردة أغلظ من حكم الكفر الأصلي:
بسبب خطورة الردة والمرتد على ديننا، نجد أن الشارع الحكيم قد أغلظ العقوبة للمرتد، بخلاف الكافر الأصلي، فالمرتد يُقتل في كل حال ولا يُدفن في مقابر المسلمين ولا يُصلى عليه ولا يُورَّث، كما تسبى نساء وذراري المرتدين المحاربين للمسلمين، ويجهز على جريحهم.
قال ابن تيمية رحمه الله تعالى: (وكفر الردّة أغلظ بالإجماع من الكفر الأصلي) [مجموع الفتاوى، 28/478].
وقال كذلك: (وقد استقرّت السنّة بأنّ عقوبة المرتدّ أعظم من عقوبة الكافر الأصلي من وجوه متعدّدة، منها أنّ المرتدّ يُقتل بكلّ حال ولا يُضرب عليه جزية، ولا تُعقَد له ذمّة، بخلاف الكافر الأصلي الذي ليس هو من أهل القتال، فإنّه لا يُقتل عند أكثر العلماء كأبي حنيفة ومالك وأحمد، ولهذا كان مذهب الجمهور أنّّ المرتدّ يُقتل كما هو مذهب مالك والشافعي وأحمد، ومنها أنّ المرتدّ لا يرث ولا يناكح ولا تؤكل ذبيحته، بخلاف الكافر الأصلي إلى غير ذلك من الأحكام) [مجموع الفتاوى، 28/534].
بل إنّهم رأوا في المرتدّ أن لا يُدفن: قال إسحق بن منصور: (قلت لأحمد: المرتدّ إذا قُتل ما يُصنع بجيفته؟ قال: يُقال: يُترك حيث ضُرب عنقه كأنّما كان ذاك المكان قبره. يُعجبني هذا) [السابق، فقرة 1301].
وقال ابن تيمية: (والصدّيق رضي الله عنه وسائر الصحابة بدأوا بجهاد المرتدّين قبل جهاد الكفّار من أهل الكتاب، فإنّ جهاد هؤلاء حفظ لما فُتح من بلاد المسلمين وأن يدخل فيه من أراد الخروج عنه، وجهاد من لم يقاتلنا من المشركين وأهل الكتاب من زيادة إظهار الدين، وحفظ رأس المال مقدّم على الربح) [مجموع الفتاوى، 35/158-159].
فالتعامل الشرعي مع المرتدين هو القتل والقتال، بينما ينبغي دعوة الكافر الأصلي إلى الإسلام وعرض الجزية عليه، قبل الإقدام على عملية القتال في المطاف الأخير.
هذا هو الحكم الشرعي المنسي فيما يخص المرتد، والذي حلًّ محله الحكم الوضعي الذي يساوي بين المسلم والمرتد، بل تراه يعظِّم المرتد ويعلي من شأنه ويقلِّده المناصب الكبرى والحساسة في الحكم والتسيير.
العلاقة التاريخية بين المرتدين والمحتلين:
لا شك أن من أعظم أسباب كفر هؤلاء المرتدين بعد تركهم لحكم الله تعالى واستبداله بحكم الطاغوت وعدم اتباعهم لشرع الله جملة وتفصيلاً، هو موالاتهم للكفار الأصليين وتبعيتهم لهم حذو القذة بالقذة، بالإضافة إلى الخضوع التام لأوامرهم وقوانينهم الكفرية.
فهذه العلاقة المحرمة نشأت منذ فجر ما يسمى كذباً وزوراً ب"استقلال بلداننا" أو ما اصطلح على تسميته "بحروب التحرير"، فالمحتل الصليبي ما استطاع أن يتمكن من بلداننا إلا بفضل التعاون المتين لهؤلاء المرتدين، حيث رضعوا من لبن ثقافته حتى الثمالة، وخضعوا لعملية تربية دقيقة في بلدان الكفر أو في بلداننا على أيدي الخبراء الصليبيين واليهود، لكي يقوموا بأدوار طلائعية في الحفاظ على مصالح أعدائنا، مقابل الفوز بمناصب الحكم.
لقد قامت نخبة الردة في بلداننا بخداع الشعوب - أثناء ما يسمى بحرب التحرير - فتسلقوا على جهاد الشعوب الغافلة، واستغلوا دماءها وتضحياتها، ليقطفوا ثمرة جهادها المرير، ويجعلوا من جماجم وأشلاء الآلاف من الشهداء سلماً للوصول إلى مناصب الحكم، وقد ساعدهم على ذلك أعداؤنا، بالتمكين لهم وتصويرهم للشعوب على أنهم أبطال وقيادات لهذا الجهاد. فخرج المحتل من الباب ليدخل هؤلاء المرتدون من ألف نافذة، وليتمكنوا من خيرات البلاد ورقاب العباد، كما لو كان المحتل موجوداً حالاً وفعلاً.
لقد تربى هؤلاء المرتدون على موائد الكفار من صليبيين ويهود، ليقوموا بدور الخلفاء لهؤلاء، فقاموا بهذا الدور الخبيث خير قيام، فجمعوا ثروات شعوبنا وخيرات بلداننا - تحت مسميات عدة وعبر وسائل مختلفة - ليقدموها في أطباق من ذهب لأعدائنا أو يدَّخروها في بنوكهم ليتم استغلالها هناك بعيداً عن أصحابها الحقيقيين، كما ساهموا في ترويج ثقافة الفساد والكفر والفسوق في بلداننا تحت مسمى الانفتاح والتبادل الثقافي، وهو في حقيقة الأمر احتلال جديد للعقول، وهدم للعقيدة والقيم.
ما حاربوا - بأيديهم وأفواههم - كل من يدعو الأمة إلى دينها من المصلحين والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، فطاردوهم أو هجَّروهم أو سجنوهم أو قتلوهم، بعدما أدركوا خطرهم على مصائرهم ومخططاتهم الشيطانية.
ولقد تعاونوا مع أعدائنا في هذا المجال تعاوناً وثيقاً ولا يزالون، فسعوا إلى ما أسموه بتجفيف منابع الإصلاح والتضييق على الدعاة والمصلحين، بينما فتحوا أبواب الإفساد على مصراعيها لكل المفسدين لتنفيذ مهامهم وقدَّموا لهم كل الوسائل اللازمة لنشر مذاهبهم الهدامة.
إن الله سبحانه وتعالى يخبرنا عن هذه العلاقة الجدلية والوطيدة بين الكفار الأصليين وهؤلاء المرتدين في قوله {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}، بل إن هؤلاء المرتدين لديهم درجة أعلى في الكفر، يستحقون بسببها أشد أنواع العذاب في الدنيا والآخرة، ومن لم يفهم هذه العلاقة وهذه الحقيقة ويدركها فلا زال في ضلال مبين، ولا يزال بحاجة إلى إعادة الفهم لدينه على ضوء فهم السلف الصالح.
المفهوم المغلوط وتأثيره على العمل الإسلامي:
بسبب خلل في عقيدتها، وانتشار عقيدة غلاة المرجئة في مسمى الإيمان والكفر، اعتبرت شعوبنا هذه الفئات المرتدة، فئات مسلمة بمجرد نطقها بالشهادتين أو في أغلب الأحيان بمجرد شهادة الميلاد، وهذه هي الطامة الكبرى، فمكنتها من الوصول إلى مناصب الحكم والقرار والتوجيه وما زالت هذه العقيدة منتشرة ومستشرية في الكثير من النفوس، بل ما زالت هي التي تطغى على مناهج وبرامج العمل لدى الكثير من الحركات الإسلامية في الساحة.
فمنذ فجر ما يسمى بالصحوة الإسلامية، والساحة تعرف هذا النوع من الفرق الإسلامية، التي تعتقد أن الإيمان هو مجرد النطق بالشهادتين أو هو عبارة عن اعتقاد محض، لا علاقة له بالعمل البتة.
مما أدى إلى اختلاط المؤمن بالكافر، والصادق بالمنافق، والعدو بالولي، فصار الجميع مسلماً ينبغي التعاون معه، لمصلحة البلاد والعباد، وصار الجميع صديقاً وولياً ولا وجود لشيء يسمى البراء والعداء، ولا داعي لما يسمى بالجهاد، خاصة جهاد الطلب للتمكين لدين الله تعالى، فالجهاد أصبح للدفع ونُسخ جهاد الطلب، بل إننا وجدنا من أوقف حتى جهاد الدفع بدعوى أن الإسلام دين السلام والتسامح، ويحرص على دماء الأبرياء.
أما الكفار، فيعتبرهم هؤلاء أصدقاء، بل إنهم أهل كتاب ينبغي التعامل معهم بالتي هي أحسن، ولم لا، اعتبارهم إخوة لنا في الدين ينبغي التعاون معهم وفتح أبواب الحوار فيما بيننا، وتسمية ذلك بحوار الأديان أو حوار الحضارات بدلاً من تصادمها.
أما على المستوى الداخلي، وبخاصة التعامل مع الفئات الحاكمة في بلداننا، فإن الطامة أكبر، والمصيبة أعظم، حيث أننا نرى فقهاً جديداً يسمى بفقه المصالح المرسلة أو كما يعبرون عنه بقولهم المشهور "حيثما كانت مصلحة فثم دين الله"، بمعنى أن الدين ينبغي أن يدور مع مصالح القوم، وليس العكس، وكل ما يتعارض مع هذه المصالح فليس من دين الله تعالى في اعتقادهم.
هذه هي القاعدة البدعية الجديدة التي بنوا عليها فقهاً عريضاً وطويلاً، ما شهدنا مثله من قبل في سلفنا.
الشيء الذي انبثق عنه نتائج وخيمة وغريبة، مفادها أن الحاكم - بالرغم من ردته - يعتبر ولي الأمر الشرعي ينبغي الخضوع له واتباع أوامره ومبايعته على السمع والطاعة في المنشط والمكره.
وفي أسوأ حالات التعامل مع هؤلاء الحكام، فإنه لا يجوز الخروج عليه أو اعتباره كافراً مرتداً، بل أقصى ما يستطيعون وصفهم به، هو الظلم أو الانحراف، والصبر على أذاهم حتى لو جلدوا ظهورهم أو أخذوا أموالهم.
ألا ترون ذلك في كل بلداننا، بدءاً من بلاد المشرق العربي، وبخاصة بلاد الحجاز وبلاد الشام و في بلاد المغرب العربي، ثم في بلدان آسيا المسلمة خاصة جنوب شرقي آسيا، حيث انتشرت عقيدة غلاة المرجئة في مسمى الإيمان والكفر، فسارعت هذه الطوائف والفرق للدخول في دين الحكام أفواجاً، فشاركوهم طقوسهم السياسية، فدخلوا في لعبة الانتخابات أو ما يسمى باللعبة الديموقراطية، وساهموا مع بقية الأحزاب المرتدة - طوعاً لا كرهاً - في تزيين صورة الأنظمة الحاكمة، بل إن من هذه الطوائف المبتدعة من قدَّم ولاءه وشارك مباشرة في هذه الحكومات، بحجة الإصلاح وجمع ذات البين وتوحيد كلمة المسلمين ومحاربة التشدد والتطرف.
لقد ابتلينا بهكذا جماعات، انحراف في العقيدة وانحراف في التطبيق، وقلب للموازين والمفاهيم الصحيحة اتجاه أعدى وأخطر فئة على الدين، إلا وهي فئة الردة والنفاق.
فلا يمكننا والحالة هذه، أن نتعامل مع هذه الطوائف إلا بمزيد من الحذر، واعتبارها أنصاراً مباشرين لهؤلاء المرتدين، وسياجهم الذي يتحصنون به في مواجهة جماعات الجهاد أو ما يسمونه بالجماعات الإرهابية.
لقد التقت مصالحهم على محاربة الجهاد والمجاهدين وكل من يحرض عليه من الدعاة والعلماء والمصلحين، وساهموا جميعاً في نشر دينهم الجديد، المبني على ما يسمى بتحقيق المصالح المرسلة، والحرص على إرضاء العباد على حساب إسخاط رب العباد، والحرص على إتباع الظن و إرضاء الهوى بدلاً من اتباع الحق وإرضاء الرب.
لقد أصبحت مهمة جماعات الجهاد صعبة ومتشعبة، حيث لابد من مواجهة هذه الطوائف وإزالتها من الطريق، وهدم أصنامها المتمثلة في هذه المفاهيم المغلوطة اتجاه الكثير من المصطلحات والمسائل الشرعية.
لن تكون بالمهمة الصعبة على عصابات الحق والجهاد، فالزبد يذهب جفاء وحده وبلا جهد يُذكر، بفضل توفيق الله تعالى وإرادته بإحقاق الحق ولو كره المجرمون والكافرون والمشركون {وَيُحِقُّ اللهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاِتهِ وَلَوْ كَرِهَ المُجْرِمُون} [الأعراف]، ثم بفضل العزيمة الكبيرة التي يتمتع بها هؤلاء المؤمنون.
فكل المؤشرات الحالية تبشر ببداية النهاية لهذه الطوائف البدعية، وبقرب زوال هذه المفاهيم المغلوطة من عقول الناس، حيث أن المفاهيم الشرعية قد بدأت تكتسح الساحة وتنتشر في أوساط العمل الإسلامي، وأخذت جماعات الجهاد مواقع متقدمة في مواجهة أعداء الأمة، من كفار أصليين ومرتدين ومنافقين، وأصبحت هذه الجماعات بمثابة رأس الحربة في حربنا الطويلة الأمد مع الأعداء، فلم يعد هناك مكان لمثل هؤلاء المبتدعة في مواصلة حضورهم على الساحة من أجل التأثير على مجريات الأمور، فمكانهم هو المؤخرة والقعود مع القاعدين، في انتظار قطف الثمرة بجهد بسيط، ومحاولة الركوب على موجة الجهاد المبارك كما فعلت الفئات الحاكمة مع جهاد أجدادنا في مواجهة المحتل بالأمس القريب.
لن تتكرر التجربة بإذن الله، وسوف يعرف المجاهدون هذه المرة كيف يقطفون ثمرة جهادهم بأيديهم، فلم يعودوا قاصرين سياسياً - كما كان حال أجدادنا وآبائنا عقب ما يسمى بالاستقلال الصوري - بل إن جيل الجهاد اليوم، يتمتع بوعي رفيع وفهم سليم وفقه رشيد، يمكِّنهم من قيادة البشرية جمعاء، فضلاً عن قيادة دولة أو قطر من أقطار عالمنا الإسلامي الفسيح.
وخير دليل على ما نقول، هو هذه الصور من التحدي الصارخ، وهذه الملامح الجهادية المباركة في مواجهة العالم أجمع، وعجز الأعداء عن تفادي هذه الضربات الجهادية فضلاً عن القضاء على هذه الجماعات المباركة.
لقد انتهى عهد البدعة وحل محله عهد السنة، وسوف نرى قريباً تحقيق وعد الله لعباده ولدينه بالتمكين، {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ}.
أبي سعد العاملي
مجلة الانصار
1 / شوال / 1423 هـ