كحيلآن الحمادي
11-12-2011, 08:21 PM
http://ArabAlsahel.com/vb//uploaded/2946_01299222122.gif
وقفات تربوية مع قصة موسى والخضر
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد...
كم أقف مشدوهاً أمام هذه القصة، ففي كل مرة أجد نفسي في مواجهة كم هائل وزخم من المواقف والعبر مدفونا في خبايا هذه القصة الفريدة العجيبة، وأقول في نفسي؛ تلك هي الحكمة وذلك هو مربط الفرس، فلابد أن يجد المؤمن وكل باحث عن الحق ضالته في القصص القرآني بعامة، وفي هذه القصة بخاصة.
مما يدفعني دوماً إلى اختزال هذه الوقفات وجمعها إلى حين، ووفقني الله لتسطيرها في هذه الورقات، لعل الله يكتب لي عليها أجراً ومغنماً، وينتفع بها من يقرأها، خاصة ونحن نعيش غربة الإسلام الثانية، وسط واقع غريب وأناس غرباء، في أشد الحاجة إلى زاد قرآني يكون لنا بمثابة الرفيق على الطريق، والزاد الجسدي والروحي على المسير، لمسيرتنا إلى الله، وما أطولها وما أوحشها بدون كتاب الله وتوجيهاته النورانية، لعل الله يجتبينا وينتقينا ويهدينا إلى سواء السبيل.
قصة موسى مع بني إسرائيل:
لعلها من أطول وأهم القصص القرآني على الإطلاق، وهو دليل على ثقل الرسالة التي حملها موسى إلى بني إسرائيل وأهمية الدور المنوط بها في سلسلة الدعوات، ودليل على أهمية التجربة الدعوية لموسى عليه السلام، وكثرة الدروس والعبر الكامنة في طياتها.
سنقف في هذه السورة المباركة على جانب من هذه التجربة التي لم تُذكر في مواضع أخرى من كتاب الله تعالى، وهي جانب من تجربة موسى عليه السلام مع العبد الصالح، وما فيها من وقفات عظيمة المنفعة للدعاة وطلبة العلم، سواء في مسائل العقيدة أو مسائل التعامل مع المدعوين بصفة عامة ومع المقربين والصفوة من الأتباع بصفة خاصة. وفوق كل ذي علم عليم
بعد إلقاء خطبة بليغة الأثر على النفوس، سئل موسى عليه السلام عن أعلم أهل الأرض، فقال: (أنا) ، وهي إجابة حسبها موسى صائبة نظراً للقرائن والميزات المتوفرة فيه، حيث كان رسولاً من أولي العزم، وكليم الله تعالى، وصاحب معجزات عديدة لم تكن للرسل والأنبياء من قبله، وصاحب كتاب منزل فيه الكثير من التوجيهات الربانية والعلم الذي لم يكن لمن قبله.
ولكن هذا لا يحق لأحد مهما كانت درجته ونوعية شخصيته، لأن العلم نسبي ويتفاوت فيه الناس، كما أن لكل واحد نوع من العلم قد يتميز به عن الآخرين، ولا ضير في هذا ما دام أن هناك تكامل وتعاون وملء للثغرات من قبل هؤلاء العلماء، وليس التضاد والاختلاف والعياذ بالله.
التواضع في طلب العلم:
وهي من الصفات الضرورية لكي تتحقق الاستفادة ويتم التحصيل، إلى جانب عدم الاستحياء في مقابل التكبر والحياء وهما الصفتان اللتان تكبلان المرء عن التعلم وتجعله دوماً مغروراً بنفسه يحسب أنه على شيء وهو أبعد ما يكون عن طالب العلم الحقيقي فضلاً عن أن يكون ذلك العالم الموهوم.
والعالم الحقيقي يكون متواضعاً بطبعه ويكون أخشى الناس وأبعدهم عن الرياء والزهو وحب الظهور، ومهما بلغ المرء من درجة العلم فإنه يبقى محدوداً وغير ذي قيمة مقارنة مع علم الله الواسع {وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} ، والله تعالى أراد لعبده موسى عليه السلام أن يتعلم من خلال ما أودعه الله في قلوب عباده، والعلم مثله مثل الرزق، هناك ما يحصل عليه المرء بالكدح واتخاذ الأسباب، وهناك نوع يهبه الله لمن يشاء من عباده لكي يكون حجة على بقية عباده، ولحكمة لا يعلمها إلا هو سبحانه وتعالى، ومنه ما آتاه عبده الصالح الخضر، الذي طلب من موسى أن يذهب للقائه، فكان منه ما كان.
فما كان من موسى إلا أن يستجيب لأمر ربه، وينطلق للبحث عن العبد الصالح، من أجل تحصيل ما خفي عنه من علم والاستفادة من غيره.
من هنا ينبغي على العلماء وطلبة العلم أن يقتدوا بموسى عليه السلام في تعاملهم مع غيرهم بعدم ادعاء العلم المطلق والتواضع في طلب ما خفي عنهم من أوجه العلم المختلفة، ولن يستطيعوا إدراك ذلك ولو حرصوا، لأن العلم أوسع من أن يُدرك كله، ولكن ما لا يُدرك كله لا يُترك جله، بل ينبغي الاجتهاد في التحصيل مع التواضع، واعتقاد أن ما عند الآخرين من علم ومعرفة يعتبر تكملة لما عندك ووجه آخر من أوجه العلم الواسع، فالله تعالى يفرق هذا العلم على عباده كل حسب طاقته ومدى تجاوبه وانتفاعه بهذا العلم، وكذلك حسب مدى خشيته لله تعالى وتقواه {وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ} ، فالعلم متكامل، ولا يمكن لبشر أن يحيط بكل العلوم والمعارف، ومن ادعى هذا فهو جاهل ومنكر لحقيقة قرآنية ثابتة، وسنة ربانية جارية، {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} .
التضحية في طلب العلم:
لقد تهيأ موسى عليه السلام وأخذ ما يلزمه من زاد ومتاع لرحلة طويلة وشاقة، وكان عليه أن يترك أهله وقومه ومكانته بين قومه - رسولاً ومعلماً - لينطلق في هذه الرحلة المجهولة - تابعاً ومتعلماً - وهو أمر قاس على النفس ولا شك، {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً} .
فخرج موسى مع فتاه في رحلة مجهولة الأمد ولكنها معلومة الوجهة - مجمع البحرين - هكذا هو طلب العلم يأخذ من الإنسان كل وقته ولا يعطيه إلا بعضه، فالعلم غير محدود ومتشعب الاختصاصات لا يكاد يحصل المرء على جزء منه حتى يكتشف أنه لم يدرك شيئاً وبأن عليه أن يطلب أكثر فأكثر، فكلما تعلم الإنسان أدرك انه يجهل أموراً كثيرة، وهكذا يظل المرء في هذه الحياة حتى يلقى ربه.
ولعل هذا جزء من مفهوم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اُطلبوا العلم من المهد إلى اللحد).
والتضحية تكون أولا ًبالوقت، حيث ينبغي أن يفرغ المرء نفسه لطلب العلم وعدم الاهتمام بأي شيء آخر معه، وذلك حتى تتم عملية التركيز والتحصيل على أتم وجه.
وتكون التضحية بالمال، ذلك أن العلم يحتاج إلى عمليات الانتقال والتنقل والوسائل اللازمة تحتاج إلى مال كاف لتغطية كل هذه المصاريف. فالعلم لابد أن تسعى إليه لكي تكون الفائدة المرجوة ويبارك الله فيه وليس العكس.
وتكون التضحية بالاستقرار الذي اعتاد عليه المرء في محيطه الذي يعيش فيه، من معارف يضطر عند قراره التنقل لطلب العلم إلى تركها والابتعاد عنها، وارتباطات ومصالح مادية إلى حين، وهذه عملية قاسية على النفس لا يتجاوزها إلا ذوو الهمم العالية والإرادات القوية.
الصبر في طلب العلم:
تكاد تكون من أهم الصفات التي ينبغي أن يتحلى بها طالب العلم، وهي بمثابة السلاح الأمضى الذي يشق به بحور العلم الواسعة والغامضة؛ {قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً، وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً} .
إن صبرنا محدود، ولابد أن ينفذ في لحظة من لحظات رحلة العلم الطويلة، وهاهو موسى عليه السلام، وهو كليم الله ورسول من أولي العزم يحتاج إلى هذا الصبر الواسع والطويل لكي تتم عملية الاستفادة من ذلك العبد الصالح المجهول، فكيف بنا ونحن المهازيل الضعفاء، لا نريد أن نصبر لكي نحصل على ما نريد، بل ترانا نشترط على أساتذتنا وشيوخنا ولا نعير لهم الاهتمام والاحترام اللازمين والمطلوبين في حقهم، بل في حق العلم الذي يحملونه.
والصبر المطلوب هو الذي لا يحرمنا من التعلم والتحصيل، ويجعلنا نتحمل المشاق والصعاب في ذلك، كما يجعلنا نتحمل شيوخنا وأساتذتنا ونتأدب معهم ونصبر على تصرفاتهم غير العادية بالنسبة لنا.
فالصبر مطلوب في العلم العادي المعروف، فكيف بالعلم الذي يتطلب تفسيراً وتأويلاً خاصاً؟! ومن ضعف الإنسان ونقصه أنه عجول، ويرغب في كشف الأشياء ومعرفتها قبل وقتها، وفي قطف الثمار قبل ينعها، وهذا من شأنه أن يضيع عليه كل شيء ويحرمه من كل شيء كذلك.
أصحاب السفينة:
ما يهمنا هنا هو الوقوف على بعض الدروس والعبر في هذه القصة ومثيلاتها وليس سرد القصة ذاتها.
أقول - وبالله التوفيق -: لقد انطلق موسى مع العبد الصالح في رحلة مجهولة الوجهة بالنسبة لموسى عليه السلام، وكذلك تكون رحلة العلم، قد يتحتم على المرء أن يجول بحثاً عن الحكمة وعن العلم النافع وهو لا يدري شيئاً عن الوجهة ولا عما يمكن أن يلاقيه في الطريق من عقبات ومصاعب، فلابد أن يتهيأ منذ البدء، حتى لا يصطدم.
كان اللقاء الأول مع أصحاب السفينة، وهو الدرس الأول في العلم الجديد، معروف من أصحاب السفينة يقابله العبد الصالح بخرق السفينة، يتبعه تعجب واستنكار من موسى عليه السلام، وهو موقف طبيعي سيتخذه كل امرئ في مكان موسى عليه السلام.
لا ينبغي السرعة في الحكم على شيء لم تظهر بوادره بعد، فكم من كلمة تخرج من أفواهنا في حالات التعجب والغضب، سرعان ما نندم عليها حينما تظهر لنا نتائج عكسية لظنوننا فالظاهر لا يعبر عن الحقيقة دائماً، وإن عبر عنها فيكون بشكل ناقص وغير كامل، مما ينبغي أن يدفعنا للتريث والبحث عن الصورة كاملة، وذلك بقراءة ما وراء الخبر أو ما بين السطور، وعدم التسرع على إطلاق الأحكام تحت أي مبرر، فالتأخير في إدراك الحقيقة خير من التسرع في الخطأ.
فكانت المفاجأة بالنسبة لموسى عليه السلام، وكان الدرس الأول الذي يتلقاه في هذه الرحلة، كما كان السقوط الأول في سلسلة الامتحانات التي سيتعرض لها في هذه الرحلة العجيبة الغريبة؛ {قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً} ، فكان الجواب مباشرة ودون إبطاء: {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً} .
وهنا أدرك موسى أنه قد أخلف وعده ولم يف بالشرط، لقد كان الأمر أكثر مما يطيق، وهو دافع نبيل بلا شك، دافع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي جُبل عليه موسى عليه السلام، والذي من أجله حمل الرسالة ولقي ما لقيه من عنت وتكذيب وعداوة.
لكن المرء عند شرطه، وليس له مبرر لمخالفة ما اتفق عليه مع الطرف الآخر؛ {قَالَ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ صَابِراً وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْراً} .
شرط صعب التنفيذ، وهو ربما من حكمة الله تعالى البالغة، درس لموسى على أن علمه محدود، بسبب صبره المحدود، وبأن الناس متفاوتون في العلم بسبب تفاوتهم في الصبر، فالمرء يُعطى من الرزق والعلم على قدر صبره، فالعلم والرزق فتنة، لا يُؤتى منهما المرء إلا بقدر ما يستطيع الاستفادة والصبر على تحملهما وأداء حقهما.
كما أنه درس لنا جميعاً وللعلماء بوجه خاص، على أن العلم اختصاص، وبأن كل عالم له ملكاته التي يتفوق فيها على الآخرين، وله ميدانه الذي يحسنه دون الميادين الأخرى، وعليه فإنه ينبغي احترام الآخر وعدم الادعاء بامتلاك جميع العلوم والاختصاصات، وعدم الخوض والإفتاء في غير الاختصاص الذي يحسنه العالم، وترك المجال لذوي الاختصاص حتى لا تتميع الأمور، وتعم الفتنة، ويسترخص العلم وتسقط قيمة العلماء.
وهنا اعترف موسى بعجزه وسقوطه في هذا الامتحان الأول؛ {قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً} ، إنه النسيان وسط هول الموقف، وصدمة لم يكن ينتظرها أحد، في مقابل ذلك الموقف الطيب والنبيل لأصحاب السفينة.
ولكن حينما يعرف المرء السبب والدافع النبيل والرحيم للعبد الصالح، سيدرك الحكمة وسيندم على تفاعله وغضبته حتى وإن كانت من أجل نصرة الحق.
{أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً}
إنه حفظ لرزق هؤلاء المساكين، سفينة لا يملكون غيرها من أجل العيش، فأرسل الله تعالى العبد الصالح ليخرقها، وليرفضها جنود الملك الظالم - بسبب عيبها - لتبقى بين أيديهم ويبقى الرزق مضموناً ومحفوظاً من الله عز وجل.
ألا يحصل لنا هذا في كثير من المواقف في حياتنا؟ كم من مصيبة - صغيرة كانت أو كبيرة - نتعرض لها فنسارع إلى الضجر والتذمر والحزن والأسى، بل كم من أمر يخالف أهواءنا وعقولنا يمر أمامنا - علينا أو على غيرنا - لا نرى سوى جانبه السلبي الآني والظاهر، ولكن مع مرور الوقت تنجلي الحكمة والنتائج ونقف مشدوهين ومندهشين، وقد اعترانا الندم والخجل من الله ومن أنفسنا، فلا نملك بعد ذلك إلا التسبيح والتحميد لعالم الغيب والشهادة، الحكيم العليم.
علينا أن نتعلم من هذه القصة كيف نتمالك أنفسنا عند الصدمة الأولى، وكيف نتسلح بالصبر على المجهول والمخبوء فالحياة مليئة بالمفاجآت والغيبيات، وليست دائماً موافقة لأهوائنا ورغباتنا، بل بالعكس تماماً، فنادراً ما تأتي الأمور بما نشتهيه، والحياة في آخر المطاف كلها كدح وتضحية وعطاء بصفة عامة، وحياة المسلم المطيع لربه، والمخالف لأهواء الناس على وجه الخصوص.
حدث في ظاهره مضرة ومفسدة، ولكن في باطنه منفعة ومصلحة، حفظ لأرزاق هؤلاء المساكين، وكم من مسكين ومستضعف يحميه رب العزة، بطرق نحسبها ابتلاء أو عقوبة لهؤلاء، فالعبرة بالخواتيم و {عَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً} .
قصة الفتى وقتله:
ويأتي الموقف الثاني والمشهد التالي من هذه الرحلة العجيبة، والدرس الثاني من الدروس الغريبة التي تجهز موسى لتعلمها، وهاهو بعد أن أخفق في الامتحان الأول، في مواجهة الامتحان الثاني من هذه الرحلة التعليمية، هاهما يواصلان الرحلة ويلتقيان بغلام بريء، سرعان ما انقض عليه العبد الصالح فقتله دون سابق إنذار.
كيف سيكون موقف موسى وهو يرى مقتل غلام صغير لا حول له ولا قوة، ولم يقترف - على الأقل في علمه عليه السلام - ما يستحق به عقوبة القتل على حين غرة؟ كيف سيقبل هذه الجريمة وهو الذي أرسله الله تعالى برسالة الحق لإحياء البشرية والدفاع عن النفس وحمايتها من الاعتداء والظلم - مهما كان نوعه - هاهو يرى هذه الجريمة الشنعاء أمام عينيه، كيف يمكنه السكوت يا ترى؟
وكيف يا ترى سيبرر العبد الصالح لموسى هذه الجريمة الشنعاء - في ظاهرها - وهل سيقبل موسى هذا التبرير؟
أما موسى فلم يتمالك نفسه، كما لم يتمالكها في الموقف الأول وهو أقل شأنا وجرماً من هذا الموقف، حيث صاح في وجه العبد الصالح قائلاً: {قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُّكْراً} ، وكلمة نكراً أعظم من كلمة إمراً في حادثة خرق السفينة.
فكان جواب المعلم هو تذكيره بشرط المتابعة: {قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْراً} ، لكن المسألة أكبر من أن تتذكر الشرط، المسألة أعظم وأكبر من هذا، لكنه اعترف بنسيانه وإخفاقه في الامتحان الثاني، وهاهو يضع شرطاً فرضه على نفسه لكي يحاول تغطية هذا الإخفاق والنسيان، لعله يشفع له عند العبد الصالح فيواصل معه المسير؛ {قَالَ إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّي عُذْراً} .
ولكننا نقف ونسبق الأحداث لنعلم سبب هذه الجريمة والحكمة الكامنة وراءها، {وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً} ، لقد سبق في علم الله الواسع أن هذا الغلام - لو عاش - فلسوف يملأ حياة أبويه طغياناً وكفراً، وسيكون عاقاً لهما ومصدر إزعاج دائم، فكان أمر الله تعالى للعبد الصالح أن يقتله ليريحهما ويستريح هو الآخر، فكان في هذا الأمر خير للأبوين الصالحين المؤمنين وللغلام نفسه، فسبحان الله الخلاق العليم الرحيم.
من هنا تتجلى حكمة الله الواسعة في الكثير من الأحداث، نعيشها أو نراها أمام أعيننا في الواقع المعيش، وعليه ينبغي أن نستسلم لقدر الله وحكمه في كل الأمور، وخاصة ما يتعلق بالمصائب التي تصيبنا.
إن أمر المؤمن كله خير، فإن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له، فالله سبحانه لا يفعل إلا خيراً وإن كان ظاهر هذا الأمر شراً أو مضرة في أعيننا القاصرة، فهؤلاء الأطفال الذين نراهم في المقابر وقد وارت أجسادهم التراب ورحلوا عن هذه الدنيا وهم بعد في أعمار الزهور، قد نتساءل عن الحكمة وراء هذا الغياب المبكر، ونجد في هذه القصة جواباً على هذا التساؤل وإزالة لهذا اللبس.
وقد يكون المرء حريصاً على بلوغ مقام ما ويتحسر على فوات هذا الأمر عنه، ولكن حينما يمر الزمن يكتشف أنه لو بلغه لحصل له مكروه لن يستطيع الصبر عليه أو تحمله، وهكذا في أمور كثيرة، يتحسر المرء على فقدانها ولكن في ذلك الحرمان الخير العميم.
وهذا ما حصل لهذين الأبوين المؤمنين، حيث أبدلهما الله خيراً من هذا الغلام، وبصرف النظر عن صحة الروايات التي وردت في تفسير هذه الآية، فقد رزقهما الله غلاماً خرج من صلبه العديد من الأنبياء، كانوا دعاة إلى الحق والخير بدلاً من الدعوة إلى الطغيان والكفر.
{فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِّنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً} .
قصة الغلامين والكنز المدفون:
نواصل مع آخر محطة من محطات هذه الرحلة العجيبة الغريبة، حيث نتلقى مع موسى عليه السلام نوعاً جديداً من العلم، تمنينا لو طالت هذه الرحلة حتى لا تنقضي هذه الحلقات، وهذه العبر والعظات.
ولكن موسى عليه السلام حكم على نفسه بذلك الشرط المتعجل: {قَالَ إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّي عُذْراً} ، فليته سكت - كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - لنتعلم أكثر.
{فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَن يُضَيِّفُوهُمَا} ، رحلة طويلة ومتعبة، تنتهي بهم في قرية، فطلبا من أهل القرية أن يضيفوهما لأخذ قسط من الراحة، قبل مواصلة المسير.
لقد طافا على كل البيوت في القرية، ولم يستضفهما أحد، فأهلها - كما يبدو - من أبخل الخلق وأكثرهم شحاً، غريبين في القرية، قد بلغ بهما الإعياء والجوع مبلغهما، لم يجدا سوى الرفض والجفاء من أهل هذه القرية.
وحينما يئسا من كرم القوم، لجئا إلى جدار قديم يكاد يتهدم، ليستريحا قبل مواصلة الرحلة، ولكن العبد الصالح قام على وجه السرعة وفي هذه الحالة من الإعياء والإحباط النفسي من تعامل سكان القرية معهما، فبدأ في إعادة بناء هذا الجدار.
فكان موقف موسى عليه السلام هو الآخر سريعاً أنساه كل شروط الاتباع وحتى الشرط الذي وضعه بنفسه بعد حادث قتل الغلام: {قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً} ، وهو يقول بلسان حاله؛ كيف تبني هذا الجدار لهؤلاء القوم، وهم رفضوا ضيافتنا وإكرامنا، وهم لم يطلبوا منك ذلك، وحتى لو فعلت ذلك فعليك أن تطلب عليه أجراً، وهذا أقل الواجب؟!
وجاء الرد حاسماً وصارماً من قبل العبد الصالح: {قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ} ، هنا تنتهي الرحلة، وتنتهي معها مرحلة التعليم والتحصيل من هذا العلم الجديد، هنا سنفترق، وقبلها لابد من تأويل وتفسير ما خفي عنك، فهذا حقك؛ {سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْراً} .
{وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْراً} .
كان في القرية البخيلة غلامين يتيمين، وكان أبوهما - الجد السابع كما ورد في التفاسير - صالحاً، فأراد الله تعالى أن يكرمهما ويحفظ لهما رزقاً مدفوناً تحت ذلك الجدار، وقد ورد في التفاسير أنه عبارة عن لوح من الذهب كتب عليه حكم وعلم نافع إلى جانب مال وفير، فالعلم رزق سيرثه الغلامان ويجعلهما صالحين مثل أبيهما، وأما المال فهو رزق آخر يمكنهما من تغطية مصاريفهما دون الرجوع إلى مساعدة الآخرين، وتكون أيديهما عالية.
فالعلم والمال وجهان لعملة واحدة، فكلاهما رزق، ونعم المال الصالح للرجل الصالح، فالعلم بدون مال يكون ناقصاً، وكذلك مال بدون علم من شأنه أن يقود صاحبه إلى التبذير وسوء التصرف، وربما إلى المعاصي وإلى الكفر والعياذ بالله.
هنا أيضاً تجلت رحمة الله تعالى بهذين الغلامين، وحفظ لهما رزقهما كما حفظه من قبل لأصحاب السفينة وللأبوين المؤمنين الصالحين، فالرزق قد يكون مالاً حلالاً وقد يكون علماً نافعاً وقد يكون ذرية صالحة، وفي كل الأحوال فهو محفوظ من قبل الله عز وجل ومضمون حينما يتوفر شرط الصلاح.
{وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} ، فالعبد الصالح كان مأموراً ومسيراً من صاحب الخلق والأمر، ما كان له أن يعلم الغيب، ولا أن يفرق الأرزاق ويضمنها، ولا أن يمنع هذا ويعطي ذاك، فكل شيء بيد الله، وكل شيء بأمره وقضائه، وحكمته البالغة تبهر الخلق، ورحمته الواسعة وسعت كل شيء، {فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} .
تلك بعض الوقفات التربوية والإيمانية أردت أن أسجلها، لنذكر بها أنفسنا القاصرة، لتعلم قدر ربها المتعال، وتعود إلى نهجه القويم، راضية وقانعة بما قسم الله لها في هذه الحياة الفانية، فلا تنزعج ولا تتذمر ولا تتحسر على ما يصيبها من بلاء، فليس وراءه سوى الخير والفرج، ولا يتبعه سوى النصر والتمكين، {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً، إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً} ، ولا يغلب عسر يسرين كما أخبر الصادق المصدوق عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم.
{وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ}
أبو سعد العاملي
صفر/1427 هـ
وقفات تربوية مع قصة موسى والخضر
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد...
كم أقف مشدوهاً أمام هذه القصة، ففي كل مرة أجد نفسي في مواجهة كم هائل وزخم من المواقف والعبر مدفونا في خبايا هذه القصة الفريدة العجيبة، وأقول في نفسي؛ تلك هي الحكمة وذلك هو مربط الفرس، فلابد أن يجد المؤمن وكل باحث عن الحق ضالته في القصص القرآني بعامة، وفي هذه القصة بخاصة.
مما يدفعني دوماً إلى اختزال هذه الوقفات وجمعها إلى حين، ووفقني الله لتسطيرها في هذه الورقات، لعل الله يكتب لي عليها أجراً ومغنماً، وينتفع بها من يقرأها، خاصة ونحن نعيش غربة الإسلام الثانية، وسط واقع غريب وأناس غرباء، في أشد الحاجة إلى زاد قرآني يكون لنا بمثابة الرفيق على الطريق، والزاد الجسدي والروحي على المسير، لمسيرتنا إلى الله، وما أطولها وما أوحشها بدون كتاب الله وتوجيهاته النورانية، لعل الله يجتبينا وينتقينا ويهدينا إلى سواء السبيل.
قصة موسى مع بني إسرائيل:
لعلها من أطول وأهم القصص القرآني على الإطلاق، وهو دليل على ثقل الرسالة التي حملها موسى إلى بني إسرائيل وأهمية الدور المنوط بها في سلسلة الدعوات، ودليل على أهمية التجربة الدعوية لموسى عليه السلام، وكثرة الدروس والعبر الكامنة في طياتها.
سنقف في هذه السورة المباركة على جانب من هذه التجربة التي لم تُذكر في مواضع أخرى من كتاب الله تعالى، وهي جانب من تجربة موسى عليه السلام مع العبد الصالح، وما فيها من وقفات عظيمة المنفعة للدعاة وطلبة العلم، سواء في مسائل العقيدة أو مسائل التعامل مع المدعوين بصفة عامة ومع المقربين والصفوة من الأتباع بصفة خاصة. وفوق كل ذي علم عليم
بعد إلقاء خطبة بليغة الأثر على النفوس، سئل موسى عليه السلام عن أعلم أهل الأرض، فقال: (أنا) ، وهي إجابة حسبها موسى صائبة نظراً للقرائن والميزات المتوفرة فيه، حيث كان رسولاً من أولي العزم، وكليم الله تعالى، وصاحب معجزات عديدة لم تكن للرسل والأنبياء من قبله، وصاحب كتاب منزل فيه الكثير من التوجيهات الربانية والعلم الذي لم يكن لمن قبله.
ولكن هذا لا يحق لأحد مهما كانت درجته ونوعية شخصيته، لأن العلم نسبي ويتفاوت فيه الناس، كما أن لكل واحد نوع من العلم قد يتميز به عن الآخرين، ولا ضير في هذا ما دام أن هناك تكامل وتعاون وملء للثغرات من قبل هؤلاء العلماء، وليس التضاد والاختلاف والعياذ بالله.
التواضع في طلب العلم:
وهي من الصفات الضرورية لكي تتحقق الاستفادة ويتم التحصيل، إلى جانب عدم الاستحياء في مقابل التكبر والحياء وهما الصفتان اللتان تكبلان المرء عن التعلم وتجعله دوماً مغروراً بنفسه يحسب أنه على شيء وهو أبعد ما يكون عن طالب العلم الحقيقي فضلاً عن أن يكون ذلك العالم الموهوم.
والعالم الحقيقي يكون متواضعاً بطبعه ويكون أخشى الناس وأبعدهم عن الرياء والزهو وحب الظهور، ومهما بلغ المرء من درجة العلم فإنه يبقى محدوداً وغير ذي قيمة مقارنة مع علم الله الواسع {وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} ، والله تعالى أراد لعبده موسى عليه السلام أن يتعلم من خلال ما أودعه الله في قلوب عباده، والعلم مثله مثل الرزق، هناك ما يحصل عليه المرء بالكدح واتخاذ الأسباب، وهناك نوع يهبه الله لمن يشاء من عباده لكي يكون حجة على بقية عباده، ولحكمة لا يعلمها إلا هو سبحانه وتعالى، ومنه ما آتاه عبده الصالح الخضر، الذي طلب من موسى أن يذهب للقائه، فكان منه ما كان.
فما كان من موسى إلا أن يستجيب لأمر ربه، وينطلق للبحث عن العبد الصالح، من أجل تحصيل ما خفي عنه من علم والاستفادة من غيره.
من هنا ينبغي على العلماء وطلبة العلم أن يقتدوا بموسى عليه السلام في تعاملهم مع غيرهم بعدم ادعاء العلم المطلق والتواضع في طلب ما خفي عنهم من أوجه العلم المختلفة، ولن يستطيعوا إدراك ذلك ولو حرصوا، لأن العلم أوسع من أن يُدرك كله، ولكن ما لا يُدرك كله لا يُترك جله، بل ينبغي الاجتهاد في التحصيل مع التواضع، واعتقاد أن ما عند الآخرين من علم ومعرفة يعتبر تكملة لما عندك ووجه آخر من أوجه العلم الواسع، فالله تعالى يفرق هذا العلم على عباده كل حسب طاقته ومدى تجاوبه وانتفاعه بهذا العلم، وكذلك حسب مدى خشيته لله تعالى وتقواه {وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ} ، فالعلم متكامل، ولا يمكن لبشر أن يحيط بكل العلوم والمعارف، ومن ادعى هذا فهو جاهل ومنكر لحقيقة قرآنية ثابتة، وسنة ربانية جارية، {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} .
التضحية في طلب العلم:
لقد تهيأ موسى عليه السلام وأخذ ما يلزمه من زاد ومتاع لرحلة طويلة وشاقة، وكان عليه أن يترك أهله وقومه ومكانته بين قومه - رسولاً ومعلماً - لينطلق في هذه الرحلة المجهولة - تابعاً ومتعلماً - وهو أمر قاس على النفس ولا شك، {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً} .
فخرج موسى مع فتاه في رحلة مجهولة الأمد ولكنها معلومة الوجهة - مجمع البحرين - هكذا هو طلب العلم يأخذ من الإنسان كل وقته ولا يعطيه إلا بعضه، فالعلم غير محدود ومتشعب الاختصاصات لا يكاد يحصل المرء على جزء منه حتى يكتشف أنه لم يدرك شيئاً وبأن عليه أن يطلب أكثر فأكثر، فكلما تعلم الإنسان أدرك انه يجهل أموراً كثيرة، وهكذا يظل المرء في هذه الحياة حتى يلقى ربه.
ولعل هذا جزء من مفهوم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اُطلبوا العلم من المهد إلى اللحد).
والتضحية تكون أولا ًبالوقت، حيث ينبغي أن يفرغ المرء نفسه لطلب العلم وعدم الاهتمام بأي شيء آخر معه، وذلك حتى تتم عملية التركيز والتحصيل على أتم وجه.
وتكون التضحية بالمال، ذلك أن العلم يحتاج إلى عمليات الانتقال والتنقل والوسائل اللازمة تحتاج إلى مال كاف لتغطية كل هذه المصاريف. فالعلم لابد أن تسعى إليه لكي تكون الفائدة المرجوة ويبارك الله فيه وليس العكس.
وتكون التضحية بالاستقرار الذي اعتاد عليه المرء في محيطه الذي يعيش فيه، من معارف يضطر عند قراره التنقل لطلب العلم إلى تركها والابتعاد عنها، وارتباطات ومصالح مادية إلى حين، وهذه عملية قاسية على النفس لا يتجاوزها إلا ذوو الهمم العالية والإرادات القوية.
الصبر في طلب العلم:
تكاد تكون من أهم الصفات التي ينبغي أن يتحلى بها طالب العلم، وهي بمثابة السلاح الأمضى الذي يشق به بحور العلم الواسعة والغامضة؛ {قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً، وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً} .
إن صبرنا محدود، ولابد أن ينفذ في لحظة من لحظات رحلة العلم الطويلة، وهاهو موسى عليه السلام، وهو كليم الله ورسول من أولي العزم يحتاج إلى هذا الصبر الواسع والطويل لكي تتم عملية الاستفادة من ذلك العبد الصالح المجهول، فكيف بنا ونحن المهازيل الضعفاء، لا نريد أن نصبر لكي نحصل على ما نريد، بل ترانا نشترط على أساتذتنا وشيوخنا ولا نعير لهم الاهتمام والاحترام اللازمين والمطلوبين في حقهم، بل في حق العلم الذي يحملونه.
والصبر المطلوب هو الذي لا يحرمنا من التعلم والتحصيل، ويجعلنا نتحمل المشاق والصعاب في ذلك، كما يجعلنا نتحمل شيوخنا وأساتذتنا ونتأدب معهم ونصبر على تصرفاتهم غير العادية بالنسبة لنا.
فالصبر مطلوب في العلم العادي المعروف، فكيف بالعلم الذي يتطلب تفسيراً وتأويلاً خاصاً؟! ومن ضعف الإنسان ونقصه أنه عجول، ويرغب في كشف الأشياء ومعرفتها قبل وقتها، وفي قطف الثمار قبل ينعها، وهذا من شأنه أن يضيع عليه كل شيء ويحرمه من كل شيء كذلك.
أصحاب السفينة:
ما يهمنا هنا هو الوقوف على بعض الدروس والعبر في هذه القصة ومثيلاتها وليس سرد القصة ذاتها.
أقول - وبالله التوفيق -: لقد انطلق موسى مع العبد الصالح في رحلة مجهولة الوجهة بالنسبة لموسى عليه السلام، وكذلك تكون رحلة العلم، قد يتحتم على المرء أن يجول بحثاً عن الحكمة وعن العلم النافع وهو لا يدري شيئاً عن الوجهة ولا عما يمكن أن يلاقيه في الطريق من عقبات ومصاعب، فلابد أن يتهيأ منذ البدء، حتى لا يصطدم.
كان اللقاء الأول مع أصحاب السفينة، وهو الدرس الأول في العلم الجديد، معروف من أصحاب السفينة يقابله العبد الصالح بخرق السفينة، يتبعه تعجب واستنكار من موسى عليه السلام، وهو موقف طبيعي سيتخذه كل امرئ في مكان موسى عليه السلام.
لا ينبغي السرعة في الحكم على شيء لم تظهر بوادره بعد، فكم من كلمة تخرج من أفواهنا في حالات التعجب والغضب، سرعان ما نندم عليها حينما تظهر لنا نتائج عكسية لظنوننا فالظاهر لا يعبر عن الحقيقة دائماً، وإن عبر عنها فيكون بشكل ناقص وغير كامل، مما ينبغي أن يدفعنا للتريث والبحث عن الصورة كاملة، وذلك بقراءة ما وراء الخبر أو ما بين السطور، وعدم التسرع على إطلاق الأحكام تحت أي مبرر، فالتأخير في إدراك الحقيقة خير من التسرع في الخطأ.
فكانت المفاجأة بالنسبة لموسى عليه السلام، وكان الدرس الأول الذي يتلقاه في هذه الرحلة، كما كان السقوط الأول في سلسلة الامتحانات التي سيتعرض لها في هذه الرحلة العجيبة الغريبة؛ {قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً} ، فكان الجواب مباشرة ودون إبطاء: {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً} .
وهنا أدرك موسى أنه قد أخلف وعده ولم يف بالشرط، لقد كان الأمر أكثر مما يطيق، وهو دافع نبيل بلا شك، دافع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي جُبل عليه موسى عليه السلام، والذي من أجله حمل الرسالة ولقي ما لقيه من عنت وتكذيب وعداوة.
لكن المرء عند شرطه، وليس له مبرر لمخالفة ما اتفق عليه مع الطرف الآخر؛ {قَالَ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ صَابِراً وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْراً} .
شرط صعب التنفيذ، وهو ربما من حكمة الله تعالى البالغة، درس لموسى على أن علمه محدود، بسبب صبره المحدود، وبأن الناس متفاوتون في العلم بسبب تفاوتهم في الصبر، فالمرء يُعطى من الرزق والعلم على قدر صبره، فالعلم والرزق فتنة، لا يُؤتى منهما المرء إلا بقدر ما يستطيع الاستفادة والصبر على تحملهما وأداء حقهما.
كما أنه درس لنا جميعاً وللعلماء بوجه خاص، على أن العلم اختصاص، وبأن كل عالم له ملكاته التي يتفوق فيها على الآخرين، وله ميدانه الذي يحسنه دون الميادين الأخرى، وعليه فإنه ينبغي احترام الآخر وعدم الادعاء بامتلاك جميع العلوم والاختصاصات، وعدم الخوض والإفتاء في غير الاختصاص الذي يحسنه العالم، وترك المجال لذوي الاختصاص حتى لا تتميع الأمور، وتعم الفتنة، ويسترخص العلم وتسقط قيمة العلماء.
وهنا اعترف موسى بعجزه وسقوطه في هذا الامتحان الأول؛ {قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً} ، إنه النسيان وسط هول الموقف، وصدمة لم يكن ينتظرها أحد، في مقابل ذلك الموقف الطيب والنبيل لأصحاب السفينة.
ولكن حينما يعرف المرء السبب والدافع النبيل والرحيم للعبد الصالح، سيدرك الحكمة وسيندم على تفاعله وغضبته حتى وإن كانت من أجل نصرة الحق.
{أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً}
إنه حفظ لرزق هؤلاء المساكين، سفينة لا يملكون غيرها من أجل العيش، فأرسل الله تعالى العبد الصالح ليخرقها، وليرفضها جنود الملك الظالم - بسبب عيبها - لتبقى بين أيديهم ويبقى الرزق مضموناً ومحفوظاً من الله عز وجل.
ألا يحصل لنا هذا في كثير من المواقف في حياتنا؟ كم من مصيبة - صغيرة كانت أو كبيرة - نتعرض لها فنسارع إلى الضجر والتذمر والحزن والأسى، بل كم من أمر يخالف أهواءنا وعقولنا يمر أمامنا - علينا أو على غيرنا - لا نرى سوى جانبه السلبي الآني والظاهر، ولكن مع مرور الوقت تنجلي الحكمة والنتائج ونقف مشدوهين ومندهشين، وقد اعترانا الندم والخجل من الله ومن أنفسنا، فلا نملك بعد ذلك إلا التسبيح والتحميد لعالم الغيب والشهادة، الحكيم العليم.
علينا أن نتعلم من هذه القصة كيف نتمالك أنفسنا عند الصدمة الأولى، وكيف نتسلح بالصبر على المجهول والمخبوء فالحياة مليئة بالمفاجآت والغيبيات، وليست دائماً موافقة لأهوائنا ورغباتنا، بل بالعكس تماماً، فنادراً ما تأتي الأمور بما نشتهيه، والحياة في آخر المطاف كلها كدح وتضحية وعطاء بصفة عامة، وحياة المسلم المطيع لربه، والمخالف لأهواء الناس على وجه الخصوص.
حدث في ظاهره مضرة ومفسدة، ولكن في باطنه منفعة ومصلحة، حفظ لأرزاق هؤلاء المساكين، وكم من مسكين ومستضعف يحميه رب العزة، بطرق نحسبها ابتلاء أو عقوبة لهؤلاء، فالعبرة بالخواتيم و {عَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً} .
قصة الفتى وقتله:
ويأتي الموقف الثاني والمشهد التالي من هذه الرحلة العجيبة، والدرس الثاني من الدروس الغريبة التي تجهز موسى لتعلمها، وهاهو بعد أن أخفق في الامتحان الأول، في مواجهة الامتحان الثاني من هذه الرحلة التعليمية، هاهما يواصلان الرحلة ويلتقيان بغلام بريء، سرعان ما انقض عليه العبد الصالح فقتله دون سابق إنذار.
كيف سيكون موقف موسى وهو يرى مقتل غلام صغير لا حول له ولا قوة، ولم يقترف - على الأقل في علمه عليه السلام - ما يستحق به عقوبة القتل على حين غرة؟ كيف سيقبل هذه الجريمة وهو الذي أرسله الله تعالى برسالة الحق لإحياء البشرية والدفاع عن النفس وحمايتها من الاعتداء والظلم - مهما كان نوعه - هاهو يرى هذه الجريمة الشنعاء أمام عينيه، كيف يمكنه السكوت يا ترى؟
وكيف يا ترى سيبرر العبد الصالح لموسى هذه الجريمة الشنعاء - في ظاهرها - وهل سيقبل موسى هذا التبرير؟
أما موسى فلم يتمالك نفسه، كما لم يتمالكها في الموقف الأول وهو أقل شأنا وجرماً من هذا الموقف، حيث صاح في وجه العبد الصالح قائلاً: {قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُّكْراً} ، وكلمة نكراً أعظم من كلمة إمراً في حادثة خرق السفينة.
فكان جواب المعلم هو تذكيره بشرط المتابعة: {قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْراً} ، لكن المسألة أكبر من أن تتذكر الشرط، المسألة أعظم وأكبر من هذا، لكنه اعترف بنسيانه وإخفاقه في الامتحان الثاني، وهاهو يضع شرطاً فرضه على نفسه لكي يحاول تغطية هذا الإخفاق والنسيان، لعله يشفع له عند العبد الصالح فيواصل معه المسير؛ {قَالَ إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّي عُذْراً} .
ولكننا نقف ونسبق الأحداث لنعلم سبب هذه الجريمة والحكمة الكامنة وراءها، {وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً} ، لقد سبق في علم الله الواسع أن هذا الغلام - لو عاش - فلسوف يملأ حياة أبويه طغياناً وكفراً، وسيكون عاقاً لهما ومصدر إزعاج دائم، فكان أمر الله تعالى للعبد الصالح أن يقتله ليريحهما ويستريح هو الآخر، فكان في هذا الأمر خير للأبوين الصالحين المؤمنين وللغلام نفسه، فسبحان الله الخلاق العليم الرحيم.
من هنا تتجلى حكمة الله الواسعة في الكثير من الأحداث، نعيشها أو نراها أمام أعيننا في الواقع المعيش، وعليه ينبغي أن نستسلم لقدر الله وحكمه في كل الأمور، وخاصة ما يتعلق بالمصائب التي تصيبنا.
إن أمر المؤمن كله خير، فإن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له، فالله سبحانه لا يفعل إلا خيراً وإن كان ظاهر هذا الأمر شراً أو مضرة في أعيننا القاصرة، فهؤلاء الأطفال الذين نراهم في المقابر وقد وارت أجسادهم التراب ورحلوا عن هذه الدنيا وهم بعد في أعمار الزهور، قد نتساءل عن الحكمة وراء هذا الغياب المبكر، ونجد في هذه القصة جواباً على هذا التساؤل وإزالة لهذا اللبس.
وقد يكون المرء حريصاً على بلوغ مقام ما ويتحسر على فوات هذا الأمر عنه، ولكن حينما يمر الزمن يكتشف أنه لو بلغه لحصل له مكروه لن يستطيع الصبر عليه أو تحمله، وهكذا في أمور كثيرة، يتحسر المرء على فقدانها ولكن في ذلك الحرمان الخير العميم.
وهذا ما حصل لهذين الأبوين المؤمنين، حيث أبدلهما الله خيراً من هذا الغلام، وبصرف النظر عن صحة الروايات التي وردت في تفسير هذه الآية، فقد رزقهما الله غلاماً خرج من صلبه العديد من الأنبياء، كانوا دعاة إلى الحق والخير بدلاً من الدعوة إلى الطغيان والكفر.
{فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِّنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً} .
قصة الغلامين والكنز المدفون:
نواصل مع آخر محطة من محطات هذه الرحلة العجيبة الغريبة، حيث نتلقى مع موسى عليه السلام نوعاً جديداً من العلم، تمنينا لو طالت هذه الرحلة حتى لا تنقضي هذه الحلقات، وهذه العبر والعظات.
ولكن موسى عليه السلام حكم على نفسه بذلك الشرط المتعجل: {قَالَ إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّي عُذْراً} ، فليته سكت - كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - لنتعلم أكثر.
{فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَن يُضَيِّفُوهُمَا} ، رحلة طويلة ومتعبة، تنتهي بهم في قرية، فطلبا من أهل القرية أن يضيفوهما لأخذ قسط من الراحة، قبل مواصلة المسير.
لقد طافا على كل البيوت في القرية، ولم يستضفهما أحد، فأهلها - كما يبدو - من أبخل الخلق وأكثرهم شحاً، غريبين في القرية، قد بلغ بهما الإعياء والجوع مبلغهما، لم يجدا سوى الرفض والجفاء من أهل هذه القرية.
وحينما يئسا من كرم القوم، لجئا إلى جدار قديم يكاد يتهدم، ليستريحا قبل مواصلة الرحلة، ولكن العبد الصالح قام على وجه السرعة وفي هذه الحالة من الإعياء والإحباط النفسي من تعامل سكان القرية معهما، فبدأ في إعادة بناء هذا الجدار.
فكان موقف موسى عليه السلام هو الآخر سريعاً أنساه كل شروط الاتباع وحتى الشرط الذي وضعه بنفسه بعد حادث قتل الغلام: {قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً} ، وهو يقول بلسان حاله؛ كيف تبني هذا الجدار لهؤلاء القوم، وهم رفضوا ضيافتنا وإكرامنا، وهم لم يطلبوا منك ذلك، وحتى لو فعلت ذلك فعليك أن تطلب عليه أجراً، وهذا أقل الواجب؟!
وجاء الرد حاسماً وصارماً من قبل العبد الصالح: {قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ} ، هنا تنتهي الرحلة، وتنتهي معها مرحلة التعليم والتحصيل من هذا العلم الجديد، هنا سنفترق، وقبلها لابد من تأويل وتفسير ما خفي عنك، فهذا حقك؛ {سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْراً} .
{وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْراً} .
كان في القرية البخيلة غلامين يتيمين، وكان أبوهما - الجد السابع كما ورد في التفاسير - صالحاً، فأراد الله تعالى أن يكرمهما ويحفظ لهما رزقاً مدفوناً تحت ذلك الجدار، وقد ورد في التفاسير أنه عبارة عن لوح من الذهب كتب عليه حكم وعلم نافع إلى جانب مال وفير، فالعلم رزق سيرثه الغلامان ويجعلهما صالحين مثل أبيهما، وأما المال فهو رزق آخر يمكنهما من تغطية مصاريفهما دون الرجوع إلى مساعدة الآخرين، وتكون أيديهما عالية.
فالعلم والمال وجهان لعملة واحدة، فكلاهما رزق، ونعم المال الصالح للرجل الصالح، فالعلم بدون مال يكون ناقصاً، وكذلك مال بدون علم من شأنه أن يقود صاحبه إلى التبذير وسوء التصرف، وربما إلى المعاصي وإلى الكفر والعياذ بالله.
هنا أيضاً تجلت رحمة الله تعالى بهذين الغلامين، وحفظ لهما رزقهما كما حفظه من قبل لأصحاب السفينة وللأبوين المؤمنين الصالحين، فالرزق قد يكون مالاً حلالاً وقد يكون علماً نافعاً وقد يكون ذرية صالحة، وفي كل الأحوال فهو محفوظ من قبل الله عز وجل ومضمون حينما يتوفر شرط الصلاح.
{وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} ، فالعبد الصالح كان مأموراً ومسيراً من صاحب الخلق والأمر، ما كان له أن يعلم الغيب، ولا أن يفرق الأرزاق ويضمنها، ولا أن يمنع هذا ويعطي ذاك، فكل شيء بيد الله، وكل شيء بأمره وقضائه، وحكمته البالغة تبهر الخلق، ورحمته الواسعة وسعت كل شيء، {فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} .
تلك بعض الوقفات التربوية والإيمانية أردت أن أسجلها، لنذكر بها أنفسنا القاصرة، لتعلم قدر ربها المتعال، وتعود إلى نهجه القويم، راضية وقانعة بما قسم الله لها في هذه الحياة الفانية، فلا تنزعج ولا تتذمر ولا تتحسر على ما يصيبها من بلاء، فليس وراءه سوى الخير والفرج، ولا يتبعه سوى النصر والتمكين، {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً، إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً} ، ولا يغلب عسر يسرين كما أخبر الصادق المصدوق عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم.
{وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ}
أبو سعد العاملي
صفر/1427 هـ