خليل بوجيري
12-25-2012, 07:04 AM
من أهم ما ترتبط به قضايا التنمية السياسية فيما يتصل بالعولمة وعلاقاتها بالنظم في الثقافة والاقتصاد والاتصالات، هو تأثيراتها على قوة الدولة الوطنية والدولة القومية في العالم الثالث.
وعليه سنعمد في القراءات التالية لمقاربة المفاهيم السابقة مقاربة تستقيم مع رأينا المتواضع إزاء الفكر التنموي السياسي.
حيث أن ظاهرة الانشغال بالهوية القومية ، وتطوير الخطاب السياسي حول الهوية القومية، يمكن رصده بوضوح في مراحل الفكر السياسي ، وهي بارزة بحدة في الأدبيات السياسية المعاصرة التي تختص في حل النزاعات الإثنية والقومية والدينية، وقد أصبح هذا الموضوع يثير اهتمام الباحثين بفعل اتساع دائرة التطورات كبيرة الأثر على الساحة الدولية.
أولا: العولمة وارتباطها بالثقافة والاقتصاد والاتصالات:
لاشك إن العولمة ظاهرة متعددة الأوجه ومعقدة للغاية. ومن المستحيل الخوض في التفاصيل. ولكن سنحاول الوقوف على بعض الجوانب الرئيسية والمفتاحية، من وجهة نظرنا، والتي ستقدم تصوراً كافياً عن هذه العملية ككل.
إن نشوء وتمكن الأفكار ما فوق الوطنية لمفكرين اشتراكيين من أمثال سان -سيمون وفورييه أو الشيوعيون كماركس ولينين. فبالنسبة لهؤلاء حلّت "فخامة البروليتاريا" مكان الإله كمركز موحّد جامع للعالم، وتحت هذا الشعار انطلقت أضخم واغرب تجربة سياسية أممية في التاريخ: بداية في جمهورية فرنسا القرن التاسع عشر، ومن ثم على سدس الكرة الأرضية ـ روسيا وبعدها كل العالم.
واليوم بدلاً من الاشتراكيين - الامميين جاء العولميون - المحدثون من "موجة جديدة"، مع أفكارهم الخاصة حول الاقتصاد الأممي ومع فكرة حكومة عالمية واحدة.
الملفت للنظر انه مع كل انقلاب سياسي جديد نرى المنتصرين يلجؤون فقط إلى تغيير الغطاء الإيديولوجي للإصلاحات الجارية. في حين إن جوهر هذه الأخيرة هو هو ذاته: السيطرة "ما فوق الحكومية"، و"ما فوق الوطنية"، والكاملة للأقلية الشوفينية على شعب بلد معين، ومن ثم على شعوب كل العالم.
كما قال أحد المفكرين إن السياسة هي تكثيف للاقتصاد، حيث أن من خصوصيات العولمة الحالية هو حصول تبدلات بنيوية في سوق الاستهلاك في البلدان الغربية المتطورة اقتصادياً. ذلك إن البضائع والخدمات التي كانت متوفرة للأغنياء فقط في السابق كانت تدريجياً تصبح في متناول الطبقة الوسطى. أما الآن يجري تناقص فعلي في الموارد والخدمات ذات الطابع الشعبي الواسع.. بينما النخبة تسبح في سوق السلع المترفة، هذا من جانب، أما على صعيد الاتصالات فإن الصحف وقنوات التلفزة كما هو الحال قديما مع مراكز البريد والهاتف والقطارات، كلها وسائل يتم تجييرها والسيطرة عليها كوسائل اتصال بعضها جماهيري والآخر فردي، وذلك بغية خلق أيدلوجيا فكرية تتسم بطابع عبر وطني، ولا يمكن بأية حال صنع ذلك وتكريسه إلا عبر وسائل الاتصال الجماهيري.
ثانيا: ثأثيرات العولمة على قوة الدولة القومية فى العالم الثالث.
العولمة الاقتصادية تهدف إلى إضعاف الدولة ، بحيث لاتصبح هي المسيّرة للاقتصاد الوطني، بل بدل ذلك أداة لتكييف هذا الاقتصاد مع متطلبات وشروط الاقتصاد العالمي ، خاصة وإن التحولات في مجالات الرأسمال ، الإنتاج ، العمل ، والأسواق المعولمة أوجدت شبكات من العلاقات الاقتصادية التي ليس للدولة عليها سيطرة لوقوعها خارج اختصاصها الإقليمي ، ويتجسد ذلك في النفوذ المتصاعد للشركات العابرة للأوطان والقوميات التي باتت أقوى فعليا من الدولة الوطنية ، بل وتتحكم في أوضاع السياسة والاقتصاد في هذه الدولة أو تلك..!
ويرى كثير من الباحثين أن نظام الدولة في طريقه للاختفاء أمام العولمة، وأن السيادة الإقليمية تتناقص وتتضاءل بشكل جدي ممايقلل من قدرة الدولة على السيطرة وحماية الحياة المحلية أو الوطنية .
ولعل أكثر الانتقادات قوة في مجال العلاقة بين العولمة والدولة الوطنية هي أن من شأن الأولى القضاء على الثانية. إن دعوة العولمة إلى إلغاء الحواجز والقيود ورفض كل تدخل وتعميم الفردية وإقالة الدولة من مهامها الاجتماعية من شأنه في نظر البعض تأميم المجال الحيوي للدولة لصالح العولمة ، ان ذلك سيقود في رأي هؤلاء حتماً لا إلى تقلص وظائف الدولة فقط بل إلى نهايتها الحاسمة. وكأن العولمة هنا تقوم بتصديق نبوءة أو تحليلات الماركسية الجدلية عن اختفاء الدولة.
وإذا ما اعتبرنا الدولة أداة للهيمنة والتسلط بيد الطبقات المسيطرة ، فإن قيامها بهذا الدور لم يكن دوماً بالطريقة أو المحتوى نفسه ، وبالتالي كان ذلك وراء تغير وظائف الدولة باستمرار أو التغير في سلم ترتيبها من حيث الأهمية .
ففي عصر الرأسمالية التجارية تدخلت الدولة بشكل فعال في الاقتصاد القومي الذي كان يمر بمرحلة النشأة ، بعد الاتفاق التاريخي الضمني بين الملوك و التجار الرأسماليين كنوع من الاعتراف المتبادل بينهما في ظل الوضع الجديد ، و كان على الدولة » أن تنشئ هذا الاقتصاد القومي إنشاء بتوحيد السوق القومية ، وإزالة العقبات أمام انتقال السلع من مقاطعة إلى أخرى ومن دولة إلى أخرى ، وتوفير الأمن اللازم لهذا الانتقال. كما أن الدولة كانت توفر البيئة المحلية وتسعى لتوفير البيئة الدولية المناسبة، بل وتتدخل بفاعلية في عملية الإنتاج نفسها، وتنشئ الجيوش لتنفيذ مهام الاستعمار لتسويق الإنتاج .أما في عصر الثورة الصناعية فلم يعد ذلك كله ضرورياً، لم تعد الدولة تتدخل في عملية الإنتاج وترك المنتجون وشأنهم ، أي حرية التجارة الدولية والداخلية ، لكن الدولة حافظت على قيامها بمهمة تسهيل النشاط الاقتصادى في الداخل والخارج عن طريق تدشين العهد الاستعمارى ، في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، والنصف الأول من القرن العشرين .
وعندما حدث تطور مهم في نمو القدرة الإنتاجية بعد الحرب العالمية الأولى بشكل لاتستوعبه السوق ، ظهرت دولة الرفاهية التي ساد نمطها في الغرب منذ الثلاثينيات وحتى نهاية الستينيات ، هذه الدولة أصبحت لها وظائف جديدة ولكن قهر العمال لم يعد من وظائفها الأساسية، بل على العكس كان من السمات الأساسية لدولة الرفاهية هذه تدليل العمال ، والانصياع لرغبات نقاباتهم ، إذ أصبح هذا من مستلزمات التسويق الواسع للمنتجات الآخذة في التزايد .
لكن التطور التقني والنجاح في إعادة إعمار أوروبا واليابان بعد الحرب العالمية الثانية ودخولها سوق المنافسة مع الولايات المتحدة وغيرها من الدول الصناعية أدت إلى حدوث تحول في حاجات المنتجين ، لقد أصبحت الأسواق الوطنية غير قادرة على استيعاب منتجات القدرات التقنية الجديدة ، ولذلك بزغ عصر الشركات العملاقة المتعدية للجنسيات التي بدأت في ممارسة نشاط مجاله العالم بأسره ، كان من الطبيعي أن يقود ذلك إلى أن تجعل هذه الشركات العالم كله سوقاً لها ، ومجالاً لنظام جديد لتقسيم العمل ، وكان من الطبيعي وفقاً لذلك أن يُجرى تعديل جديد على طبيعة وحجم وظائف الدولة. وهكذا حلت الدولة التدخلية محل دولة الرفاه أو الدولة ، الدولة الجديدة مهامها كانت تماماً عكسا لمهام دولة الرفاه ... لامجال الآن لتدليل العمال لتوسيع السوق الذى يمكن توسيعه في الخارج ، بل لابد من وضع كل القيود على حركة العمال أو قمعهم. لامجال إلا التقليل من الإنفاق الحكومي ولامجال للأفكار الداعية إلى التوزيع العادل للثروة ، بل أن هناك حاجة إلى أفكار تقدم التبرير النظري لكل هذا ، بما في ذلك تبرير مستوى مرتفع من البطالة.
وفي البلدان النامية التي لم تتمكن بعد من إنجاز مهمة بناء الدولة الوطنية ذاتها أو النجاح في تحقيق الاندماج السياسي ناهيك عن أداء المهام التطويرية والتنموية ، فإن الصورة يمكن أن تكون أشد قسوة ، إن العالم النامي مايزال الإنسان فيه يعاني الفقر ، وماتزال اقتصادات بلدانه تعاني من الآثار السلبية للاستقطاب ، ومن النظام الجائر لتقسيم العمل الدولي، إن تقليص مهام ووظائف الدولة وجعلها مجرد أداة لتسهيل العولمة من شأنه أن يزيد صورة البؤس قتامة ، ويزيد من حجم مأساة الإنسان ، إن تراجع الدولة في العالم النامي عن أداء دور تدخلي، أو القيام بوظائفها الاجتماعية التي كانت الدولة في الغرب قد قامت بها في السابق ، يعني في الواقع أن يفلت زمام الأمور من أية سيطرة وطنية لتحقيق أي نوع من العدالة والمساواة ، إن من شأن ذلك أن يقضي على فرص التطور والتقدم ، خاصة وإن العولمة تقوم أساسا على اعتبارات الكفاءة والإنتاجية والمنافسة الحرة .
ثالثا: أزمة القوميات وتأثرها بالعولمة.
وما يهمنا في كل ذلك هو انعكاس العولمة على القضايا القومية ذات الطبيعة الخاصة، كقضية عرب الساحل الشرقي والجزر باعتبارهم قومية عربية لها ظروف خاصة في ظل أزمة القوميات التي يعانيها النظام الإيراني، فكل امتداد سياسي يحاول فرض هيمنته على الهوية القومية يعاني ضعفا باطنيا خاصة في ظل عدم قدرته على محو الهوية، ثم نجده يعاني ضعفا خارجيا بسبب سياسة العولمة وتحول الدولة من منتج للاقتصاد إلى مسهل عبور لأقطاب اقتصادية أخرى في العالم.
مما ينتج عنه لا محالة أزمة اقتصادية تنموية شاملة على كافة الأصعدة والمستويات، وبطبيعة الحال فإن الأزمة لا تكون في الأطراف البعيدة عن رعائية الدولة كعرب الساحل من جهة وعرب الأحواز من جهة وإقليم مكران من جهة أخرى، بل تمتد لتنال من مركز الدولة الاقتصادي حتى في موائلها الأصيلة ومقار التداول المالي كطهران وغيرها،وسوف نفرد مقالا خاصا لبحث أزمة القوميات التي يفرض النظام الإيراني هيمنته عليها جبرا وقسرا في ظل الاتجاه العالمي الجديد الذي ظنوا أنه عون لهم في بداية الأمر .. ولكنه انقلب إلى هاجس مؤرق.
خالص المودة
وعليه سنعمد في القراءات التالية لمقاربة المفاهيم السابقة مقاربة تستقيم مع رأينا المتواضع إزاء الفكر التنموي السياسي.
حيث أن ظاهرة الانشغال بالهوية القومية ، وتطوير الخطاب السياسي حول الهوية القومية، يمكن رصده بوضوح في مراحل الفكر السياسي ، وهي بارزة بحدة في الأدبيات السياسية المعاصرة التي تختص في حل النزاعات الإثنية والقومية والدينية، وقد أصبح هذا الموضوع يثير اهتمام الباحثين بفعل اتساع دائرة التطورات كبيرة الأثر على الساحة الدولية.
أولا: العولمة وارتباطها بالثقافة والاقتصاد والاتصالات:
لاشك إن العولمة ظاهرة متعددة الأوجه ومعقدة للغاية. ومن المستحيل الخوض في التفاصيل. ولكن سنحاول الوقوف على بعض الجوانب الرئيسية والمفتاحية، من وجهة نظرنا، والتي ستقدم تصوراً كافياً عن هذه العملية ككل.
إن نشوء وتمكن الأفكار ما فوق الوطنية لمفكرين اشتراكيين من أمثال سان -سيمون وفورييه أو الشيوعيون كماركس ولينين. فبالنسبة لهؤلاء حلّت "فخامة البروليتاريا" مكان الإله كمركز موحّد جامع للعالم، وتحت هذا الشعار انطلقت أضخم واغرب تجربة سياسية أممية في التاريخ: بداية في جمهورية فرنسا القرن التاسع عشر، ومن ثم على سدس الكرة الأرضية ـ روسيا وبعدها كل العالم.
واليوم بدلاً من الاشتراكيين - الامميين جاء العولميون - المحدثون من "موجة جديدة"، مع أفكارهم الخاصة حول الاقتصاد الأممي ومع فكرة حكومة عالمية واحدة.
الملفت للنظر انه مع كل انقلاب سياسي جديد نرى المنتصرين يلجؤون فقط إلى تغيير الغطاء الإيديولوجي للإصلاحات الجارية. في حين إن جوهر هذه الأخيرة هو هو ذاته: السيطرة "ما فوق الحكومية"، و"ما فوق الوطنية"، والكاملة للأقلية الشوفينية على شعب بلد معين، ومن ثم على شعوب كل العالم.
كما قال أحد المفكرين إن السياسة هي تكثيف للاقتصاد، حيث أن من خصوصيات العولمة الحالية هو حصول تبدلات بنيوية في سوق الاستهلاك في البلدان الغربية المتطورة اقتصادياً. ذلك إن البضائع والخدمات التي كانت متوفرة للأغنياء فقط في السابق كانت تدريجياً تصبح في متناول الطبقة الوسطى. أما الآن يجري تناقص فعلي في الموارد والخدمات ذات الطابع الشعبي الواسع.. بينما النخبة تسبح في سوق السلع المترفة، هذا من جانب، أما على صعيد الاتصالات فإن الصحف وقنوات التلفزة كما هو الحال قديما مع مراكز البريد والهاتف والقطارات، كلها وسائل يتم تجييرها والسيطرة عليها كوسائل اتصال بعضها جماهيري والآخر فردي، وذلك بغية خلق أيدلوجيا فكرية تتسم بطابع عبر وطني، ولا يمكن بأية حال صنع ذلك وتكريسه إلا عبر وسائل الاتصال الجماهيري.
ثانيا: ثأثيرات العولمة على قوة الدولة القومية فى العالم الثالث.
العولمة الاقتصادية تهدف إلى إضعاف الدولة ، بحيث لاتصبح هي المسيّرة للاقتصاد الوطني، بل بدل ذلك أداة لتكييف هذا الاقتصاد مع متطلبات وشروط الاقتصاد العالمي ، خاصة وإن التحولات في مجالات الرأسمال ، الإنتاج ، العمل ، والأسواق المعولمة أوجدت شبكات من العلاقات الاقتصادية التي ليس للدولة عليها سيطرة لوقوعها خارج اختصاصها الإقليمي ، ويتجسد ذلك في النفوذ المتصاعد للشركات العابرة للأوطان والقوميات التي باتت أقوى فعليا من الدولة الوطنية ، بل وتتحكم في أوضاع السياسة والاقتصاد في هذه الدولة أو تلك..!
ويرى كثير من الباحثين أن نظام الدولة في طريقه للاختفاء أمام العولمة، وأن السيادة الإقليمية تتناقص وتتضاءل بشكل جدي ممايقلل من قدرة الدولة على السيطرة وحماية الحياة المحلية أو الوطنية .
ولعل أكثر الانتقادات قوة في مجال العلاقة بين العولمة والدولة الوطنية هي أن من شأن الأولى القضاء على الثانية. إن دعوة العولمة إلى إلغاء الحواجز والقيود ورفض كل تدخل وتعميم الفردية وإقالة الدولة من مهامها الاجتماعية من شأنه في نظر البعض تأميم المجال الحيوي للدولة لصالح العولمة ، ان ذلك سيقود في رأي هؤلاء حتماً لا إلى تقلص وظائف الدولة فقط بل إلى نهايتها الحاسمة. وكأن العولمة هنا تقوم بتصديق نبوءة أو تحليلات الماركسية الجدلية عن اختفاء الدولة.
وإذا ما اعتبرنا الدولة أداة للهيمنة والتسلط بيد الطبقات المسيطرة ، فإن قيامها بهذا الدور لم يكن دوماً بالطريقة أو المحتوى نفسه ، وبالتالي كان ذلك وراء تغير وظائف الدولة باستمرار أو التغير في سلم ترتيبها من حيث الأهمية .
ففي عصر الرأسمالية التجارية تدخلت الدولة بشكل فعال في الاقتصاد القومي الذي كان يمر بمرحلة النشأة ، بعد الاتفاق التاريخي الضمني بين الملوك و التجار الرأسماليين كنوع من الاعتراف المتبادل بينهما في ظل الوضع الجديد ، و كان على الدولة » أن تنشئ هذا الاقتصاد القومي إنشاء بتوحيد السوق القومية ، وإزالة العقبات أمام انتقال السلع من مقاطعة إلى أخرى ومن دولة إلى أخرى ، وتوفير الأمن اللازم لهذا الانتقال. كما أن الدولة كانت توفر البيئة المحلية وتسعى لتوفير البيئة الدولية المناسبة، بل وتتدخل بفاعلية في عملية الإنتاج نفسها، وتنشئ الجيوش لتنفيذ مهام الاستعمار لتسويق الإنتاج .أما في عصر الثورة الصناعية فلم يعد ذلك كله ضرورياً، لم تعد الدولة تتدخل في عملية الإنتاج وترك المنتجون وشأنهم ، أي حرية التجارة الدولية والداخلية ، لكن الدولة حافظت على قيامها بمهمة تسهيل النشاط الاقتصادى في الداخل والخارج عن طريق تدشين العهد الاستعمارى ، في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، والنصف الأول من القرن العشرين .
وعندما حدث تطور مهم في نمو القدرة الإنتاجية بعد الحرب العالمية الأولى بشكل لاتستوعبه السوق ، ظهرت دولة الرفاهية التي ساد نمطها في الغرب منذ الثلاثينيات وحتى نهاية الستينيات ، هذه الدولة أصبحت لها وظائف جديدة ولكن قهر العمال لم يعد من وظائفها الأساسية، بل على العكس كان من السمات الأساسية لدولة الرفاهية هذه تدليل العمال ، والانصياع لرغبات نقاباتهم ، إذ أصبح هذا من مستلزمات التسويق الواسع للمنتجات الآخذة في التزايد .
لكن التطور التقني والنجاح في إعادة إعمار أوروبا واليابان بعد الحرب العالمية الثانية ودخولها سوق المنافسة مع الولايات المتحدة وغيرها من الدول الصناعية أدت إلى حدوث تحول في حاجات المنتجين ، لقد أصبحت الأسواق الوطنية غير قادرة على استيعاب منتجات القدرات التقنية الجديدة ، ولذلك بزغ عصر الشركات العملاقة المتعدية للجنسيات التي بدأت في ممارسة نشاط مجاله العالم بأسره ، كان من الطبيعي أن يقود ذلك إلى أن تجعل هذه الشركات العالم كله سوقاً لها ، ومجالاً لنظام جديد لتقسيم العمل ، وكان من الطبيعي وفقاً لذلك أن يُجرى تعديل جديد على طبيعة وحجم وظائف الدولة. وهكذا حلت الدولة التدخلية محل دولة الرفاه أو الدولة ، الدولة الجديدة مهامها كانت تماماً عكسا لمهام دولة الرفاه ... لامجال الآن لتدليل العمال لتوسيع السوق الذى يمكن توسيعه في الخارج ، بل لابد من وضع كل القيود على حركة العمال أو قمعهم. لامجال إلا التقليل من الإنفاق الحكومي ولامجال للأفكار الداعية إلى التوزيع العادل للثروة ، بل أن هناك حاجة إلى أفكار تقدم التبرير النظري لكل هذا ، بما في ذلك تبرير مستوى مرتفع من البطالة.
وفي البلدان النامية التي لم تتمكن بعد من إنجاز مهمة بناء الدولة الوطنية ذاتها أو النجاح في تحقيق الاندماج السياسي ناهيك عن أداء المهام التطويرية والتنموية ، فإن الصورة يمكن أن تكون أشد قسوة ، إن العالم النامي مايزال الإنسان فيه يعاني الفقر ، وماتزال اقتصادات بلدانه تعاني من الآثار السلبية للاستقطاب ، ومن النظام الجائر لتقسيم العمل الدولي، إن تقليص مهام ووظائف الدولة وجعلها مجرد أداة لتسهيل العولمة من شأنه أن يزيد صورة البؤس قتامة ، ويزيد من حجم مأساة الإنسان ، إن تراجع الدولة في العالم النامي عن أداء دور تدخلي، أو القيام بوظائفها الاجتماعية التي كانت الدولة في الغرب قد قامت بها في السابق ، يعني في الواقع أن يفلت زمام الأمور من أية سيطرة وطنية لتحقيق أي نوع من العدالة والمساواة ، إن من شأن ذلك أن يقضي على فرص التطور والتقدم ، خاصة وإن العولمة تقوم أساسا على اعتبارات الكفاءة والإنتاجية والمنافسة الحرة .
ثالثا: أزمة القوميات وتأثرها بالعولمة.
وما يهمنا في كل ذلك هو انعكاس العولمة على القضايا القومية ذات الطبيعة الخاصة، كقضية عرب الساحل الشرقي والجزر باعتبارهم قومية عربية لها ظروف خاصة في ظل أزمة القوميات التي يعانيها النظام الإيراني، فكل امتداد سياسي يحاول فرض هيمنته على الهوية القومية يعاني ضعفا باطنيا خاصة في ظل عدم قدرته على محو الهوية، ثم نجده يعاني ضعفا خارجيا بسبب سياسة العولمة وتحول الدولة من منتج للاقتصاد إلى مسهل عبور لأقطاب اقتصادية أخرى في العالم.
مما ينتج عنه لا محالة أزمة اقتصادية تنموية شاملة على كافة الأصعدة والمستويات، وبطبيعة الحال فإن الأزمة لا تكون في الأطراف البعيدة عن رعائية الدولة كعرب الساحل من جهة وعرب الأحواز من جهة وإقليم مكران من جهة أخرى، بل تمتد لتنال من مركز الدولة الاقتصادي حتى في موائلها الأصيلة ومقار التداول المالي كطهران وغيرها،وسوف نفرد مقالا خاصا لبحث أزمة القوميات التي يفرض النظام الإيراني هيمنته عليها جبرا وقسرا في ظل الاتجاه العالمي الجديد الذي ظنوا أنه عون لهم في بداية الأمر .. ولكنه انقلب إلى هاجس مؤرق.
خالص المودة