خليل بوجيري
01-05-2013, 10:11 AM
كنت قد استمتعت قبل فترة ببحث رائع لأحد الأصدقاء المحامين عن القضاء الإداري في الإسلام، أحببت مشاركتكم بجزء منه.
...
أول من تكلم عن قضاء المظالم بتفصيل أبو الحسن البصري الماوردي في كتابه الأحكام السلطانية والولايات الدينية حيث أفرد فصلاً خاصاً لأحكامه، ومما جاء فيه: "ونظر المظالم هو قود المتظالمين إلى التناصف بالرهبة وزجر المتنازعين عن التجاحد بالهيبة، فكان من شروط الناظر فيها أن يكون جليل القدر نافذ الأمر، عظيم الهيبة، ظاهر العفة، قليل الطمع، كثير الورع، لأنه يحتاج في نظره إلى سطوة الحماة، وثبت القضاة، فيحتاج إلى الجمع بين صفات الفريقين، وأن يكون بجلالة القدر نافذ الأمر في الجهتين...فقد نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشرب الذي تنازعه الزبير بن العوام رضي الله عنه ورجل من الأنصار فحضره بنفسه... ولم ينتدب للمظالم من الخلفاء الأربعة أحد لأنهم في الصدر الأول مع ظهور الدين عليهم، بين من يقوده التناصف للحق أو يزجره الوعظ عن الظلم، وإنما كانت المنازعات تجري بينهم في أمور مشتبهة يوضحها حكم القضاء، فإن تجور من جفاة أعرابهم مجور ثناء الوعظ أن يدبر وقاده العنف أن يحسن، فاقتصر خلفاء السلف على التشاجر بينهم بالحكم والقضاء تعييناً للحق في جهته لانقيادهم إلى التزامه".
ويرى بعض المؤرخين أن نظر المظالم تمتد جذوره قبيل البعثة النبوية إلى ما يسمى بحلف الفضول، إذ أنه لما كثر في قريش الزعماء وانتشرت فيهم الرياسة وشاهدوا من التغالب والتجاذب ما لم يكفهم عن سلطان قاهر، عقدوا بينهم حلفاً على رد المظالم وإنصاف المظلوم من الظالم واجتمعت بطون قريش في بيت عبدالله بن جدعان وتعاهدوا فيما بينهم على أن لا يجدوا بمكة مظلوماً من مظلوماً من أهلها أو غيرهم ممن دخلها من سائر الناس إلا قاموا معه وكانوا على ممن ظلمه حتى يرد إليه مظلمته.
وقد شهد الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الحلف قبل الرسالة، ثم أقرها بعدها، وقال: (شهدت في دار عبدالله بن جدعان حلف الفضول، ولو دعيت إليه في الإسلام لأحببت، وما أحب أن لي به حمر النعم).
وقد مر القضاء الإداري في صدر الإسلام بمرحلتين: مرحلة القضاء الموحد، ثم مرحلة القضاء المزدوج، وسوف نتناول كل منهما في مبحث مستقل.
مرحلة القضاء الموحد
لم تكن ثمة حاجة إلى قضاء متخصص للمظالم في تلك الفترة التي تبدأ من عصر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى عهد عبدالملك بن مروان الذي يمكن اعتباره أول من باشر قضاء المظالم على وجه التخصيص ليتفرغ لما أسند إليه، والذي يقلد ولاية القضاء على وجه التحديد. وهذا يرجع إلى أن الدعوة في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم تغمر بنورها القلوب، فتحيي الضمائر وتضاعف الشعور بالإثم، فإذا وقع المحظور لجأ إلى صاحب الدعوة يستوضحه الغامض من الأمر ويستجليه ما خفي عليه، وكان قول الرسول صلى الله عليه وسلم عندئذ محترماً لذاته فينفذه الخصوم طواعية دون حاجة إلى جبر أو إكراه، لذلك فقد حرص الخلفاء والرعية على احترام مبدأ الشرعية باعتباره أحد المبادئ الأساسية التي قررتها الشريعة الإسلامية.
وسوف نقسم الحديث عن القضاء في تلك الفترة إلى مرحلتين: مرحلة القضاء في عهد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ومرحلة القضاء في عصر الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم.
القضاء في عهد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم
كان النبي صلى الله عليه وسلم يتولى بنفسه رفع المظالم التي تصل إليه من الولاة. ويروى في صحاح السنن أن خالد بن الوليد قتل مقتلة في خزيمة بعد أن أعلن أهلها الخضوع، فاستنكر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك وأرسل علياً بن أبي طالب رضي الله عنه إلى هذه القبيلة ليرفع عنها هذه المظلمة، بأن يدفع دية قتلاها على اعتبار أن القتل وقع خطأ رغم أنه حدث في ميدان القتال وأدى الرسول صلى الله عليه وسلم الدية ودفع بدل الأموال ثم اتجه إلى ربه يقول: (اللهم أني أبرأ إليك مما فعل خالد). وبذلك يكون الرسول صلى الله عليه وسلم قد مارس هنا سلطته القضائية التي تتضمن رد المظالم والتي تجيز لصاحبها تتبع مظالم الولاة بدون التوقف على رفع المظلمة.
ويعتبر الرسول صلى الله عليه وسلم أول مشرع للإنصاف في الإسلام وفي انتصافه للناس من نفسه أمثلة كثيرة حفلت بها مسيرته المشرفة، منها في ما ذكره القاضي عياض في كتابه "الشفا" حيث جاء زيد بن سعنة قبل إسلامه يتقاضى النبي صلى الله عليه وسلم ديناً عليه، فجذب ثوبه عن منكبه وأخذ بمجامع ثيابه وأغلظ له، ثم قال: إنكم يا بني عبدالمطلب مطل – أي أهل مطال وتأخير الديون – فانتهره عمر بن الخطاب رضي الله عنه وشدد له في القول، والنبي صلى الله عليه وسلم يبتسم ويقول: أنا وهو كنا إلى غير هذا منك أحوج يا عمر، تأمرني بحسن القضاء وتأمره بحسن التقاضي، ثم قال صلى الله عليه وسلم: لقد بقى من أجله ثلاث، وأمر عمر يقضيه ماله ويزيده عشرين صاعاً لما روعه، فكان ذلك سبب إسلامه".
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يستمع إلى كل شكوى تأتيه عن أي عامل من عماله، ويتابع حسن تنفيذهم لأعمالهم، ويقف على ما ينقل من أخبارهم، فقد عزل العلاء الحضرمي عامله على البحرين عندما شكاه وفد عبدالقيس وثبتت صحة الشكوى، وولى بدلاً منه إبان بن سعيد، وقال له صلى الله عليه وسلم: "استوصي بعبدالقيس خيراً وأكرم سراتهم".
وقد ثبت أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يتخير لولاية الولايات أصلح المسلمين ويمنع عنها من يرى أنه غير أهل لحكمها، ويقول صلى الله عليه وسلم: "من ولي من أمر المسلمين شيئاً، فولى رجلاً وهو يجد من هو أصلح منه، فقد خان الله ورسوله".
ويذكر المواردي وأبويعلى الفراء، أن الرسول صلى الله عليه وسلم نظر المظالم في الشرب الذي تنازعه الزبير بن العوام ورجل من الأنصار فحضره بنفسه وقال للزبير "أسق أنت يا زبير ثم الأنصاري" فقال الأخير: إن ابن عمتك يا رسول الله، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: يا زبير أجره على بطنه حتى يبلغ الماء الكعبين".
وكان قضاء الرسول صلى الله عليه وسلم اجتهاداً لا وحياً، فقد روى أنه قال لرجلين اختصما إليه: "إنما أنا بشر مثلكم، وإنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له بشيء من حق أخيه فإنما أقضي له قطعة من النار".
وكانت طرق الإثبات عند الرسول صلى الله عليه وسلم: الإقرار والبينة واليمين وشهادة الشهود والقسامة والفراسة، وغيرها. فقد روي عنه أنه قال: "البينة على من ادعى واليمين على من أنكر". وقال صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أحكم بالظاهر والله يتولى السرائر".
وقد كان الجميع لدى رسول الله صلى الله عليه وسلم أمام الشريعة الغراء سواء، يسري على الحاكم منها ما يسري على المحكوم، وتطبق احكامها على الكبير والصغير، دون أدنى تمييز اجتماعي أو اعتبار وظيفي، وهذا واضح فيما قاله صلى الله عليه وسلم: "أيها الناس من كنت جلدت له ظهراً فهذا ظهري، فلستقد مني، ومن كنت شتمت له عرضاً، فهذا عرضي فليستقد مني، ومن أخذت ماله، فهذا مالي فيأخذ منه ولا يخشى الشحناء، فهذه ليست من شأني". وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إنما أهلك الذي من قبلكم أنهم إذا سرق فيهم الشريف، تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، والذي نفسي بيده لو ان فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها".
القضاء في عهد الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم
تصدى الخلفاء الراشدون لنظر المظالم بعد الرسول صلى الله عليه وسلم، بتتبع مظالم الولاة بدون التوقف على رفع مظلمة. فكان أبوبكر الصديق رضي الله عنه يكشف أحوال عماله، ويختار أكثرهم علماً وعملاً ويحاسبهم بعد فراغهم من عملهم. وثبت عنه أنه قال لرجل شكا إليه عاملاً قطع يده "لئن كنت صادقاً لأقيدنك منه".
ولقد ظل القضاء في عهد ابوبكر كما كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لانشغاله عن تنظيمه بحروب الردة ومانعي الزكاة.
وأبرز الصديق رضي الله عنه خصائص الحاكم المثالي في خطبته الأولى إثر توليه أمر المسلمين، فقال: "أيها الناس، إني وليت عليكم ولست بخيركم، إن أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوموني، ألا إن الضعيف فيكم قوي عندي حتى آخذ الحق له، ألا إن القوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيته فلا طاعة لي عليكم".
وبهذه الكلمات يضع أبوبكر في إطار من الذمة والصدق مسئوليات الحاكم الأمين، ويكشف عن جوهر ولاة الأمور الصالحين المقسطين، فأعطى بذلك عهداً للناس بأن يعدل فيهم، فلا تمنعه سطوة الظالم من أن ينصف منه المظلوم، ولا يحول ضعف المظلوم أن ينصفه ممن ظلمه، لأنه إذا صلح الرعاة صلحت الرعية، وإذا أعطى الحاكم القدوة الحسنة من نفسه.
وقد عهد الصديق إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنهما بولاية القضاء، فظل سنتين لا يلجأ إليه متخاصمان. لما عرف عنه الحزم والقوة والعدل حتى قيل في حقه: "حكمت فعدلت فأمنت فنمت يا عمر".
وحين تولى عمر بن الخطاب الخلافة عمل على إصلاح القضاء بما يتماشى مع حاجة الدولة الإسلامية وما وصلت إليه من اتساع الرقعة وزيادة المسلمين واحتياجاتهم إلى من يقض بينهم، فعين قضاة وأناب الولاة لتوليه القضاء أو للقيام بوظيفة القضاء كما وجه اهتمامه أيضاً إلى تنظيم القضاء بكل أبعاده، فكان أول من استحدث السجن في الإسلام وبين مدلول الاختصاص المكاني والموضوعي للقضاة الذين كانوا مستقلين عن الخليفة أو الوالي، فإذا حدث لأحد الولاة خصومة أو منازعة فإنما ينزل إلى ساحة القضاء مع خصمه كبقية أفراد الرعية. وكان القضاة يحكمون بكتاب الله وسنة رسوله إن كان هناك نص، وإلا فالإجماع إن وجد وإلا ولو وجوههم شطر إعمال الرأي والاجتهاد لاستنباط الأحكام وإيجاد الحلول المناسبة للمنازعة المعروضة عليهم.
وقد تجلت أبرز صور الاجتهاد في أعمال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه نظراً لاتساع رقعة الدولة الإسلامية في عهده، وحاجة الدولة إلى تشريعات جديدة مبتكرة لمواجهة المشاكل الطارئة والأوضاع المستجدة.
ويعتبر الفاروق عمر بن الخطاب من أبرز الخلفاء الراشدين في تتبع المظالم الوقعة من الولاة، وكان عندما يختار الوالي يأخذ بيده ويقول له: "إني لم أستعملك على دماء المسلمين ولا على أعراضهم، ولكني أستعملك لتقيم فيهم الصلاة وتقسم بينهم وتحكم فيهم بالعدل". لذلك كان أول عمل تولاه في خلافته هو عزل خالد بن الوليد عن قيادة الجيش، مع ماله من مكانة في قيادة الحروب الإسلامية وانتصاراته الرائعة وذلك لقتله مالك بن نويرة بعد ان نطق بالشهادة، وقد أعطى أبوبكر قبل موته ديته من بيت مال المسلمين، بيد أن عمر لم يعتبر ذلك رفعاً للظلم الذي حاق بالقتيل وبأوليائه فعزله وهو يقول: "إن في سيف خالد لرهقا".
ولم تقف مسئولية عمر عن ولاته عند حسن اختيارهم وتوجيههم، بل تنهض إلى إقامة كل الضمانات التي تجعل ولايتهم على الناس رخاء وأمناً، وسبيله أن يجعل الحاكم تحت رقابة المحكوم ويتصدى بنفسه وعلى الفور للتحقيق في كل شكوى يجأر بها مواطن من حاكم، وأن يتابع في يقظة سلوك ولاته في كل زمان ومكان، ويرسل العيون للكشف عن أحوالهم، وتلمس أخبارهم حتى قيل إنه كان علمه بمن نأى عن من عماله ورعيته كعلمه بمن بات معه في مهاد واحد!.
وفي موسم الحج وعلى ملأ الأعداد الكثيرة من حجاج المسلمين جمع عمر ولاته ووقف يخطب فيهم قائلاً: "أيها الناس إني والله لا أبعث عمالي إليكم ليضربوا أبشاركم ولا ليأخذوا أموالكم، ولكن أبعثهم إليكم ليعلموكم دينكم وسنة نبيكم، فمن فعل به سوى ذلك فليرفعه إلي، فو الذي نفسي بيده لأمكننه من القصاص" ثم يقف عمرو بن العاص ويقول: أرأيت إن كان رجل من المسلمين والياً على رعيته فأدب بعضهم أفتقتص منه؟! فيقول عمر: "إي والذي نفسي بيده لأفعلن، فقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقتص من نفسه ويقول: "من كنت جلدت له ظهراً فهذا ظهري فليستقد منه".
فكان عمر رضي الله عنه يرى أن تقام العقوبة على من يخطئ من الأمة لا فرق بين حاكم ومحكوم، وأن الأمة يجب أن تعاون المجني عليه حتى ينفذ حكم الشرع.
ومن الصور العملية لعدل عمر ما روي من قضائه للضحاك بن خليفة الأنصاري بإعداد الخليج في أرض محمد بن مسلمة، حيث أراد الضحاك أن يشرع في عمل خليج لكي تروى منه أرض يملكها، ولا يمكن أن يصل هذا الخليج إلا بمروره بالأرض التي يمتلكها محمد بن مسلمة. وعندما عرض الأمر على هذا الأخير رفض، فقال له الضحاك: لم تمنعني وهو لك منفعة تشرب منه أولاً وآخراً لا يضرك؟!، وعندما أصر محمد بن مسلمة على موقفه من رفض مرور الخليج على أرضه، رفع الضحاك الأمر إلى أمير المؤمنين عمر، الذي دعا على الفور مسلمة، وسأله لم تمنع أخاك ما ينفعه ولا يضرك؟ فإذا به يقول: هذا ملكي وأنا صاحب الحق، فقال له عمر: والله ليمرن الماء ولو على بطنك، ثم أمر الضحاك بأن يجعل القناة التي يريد حفرها تمر في أرض محمد بن مسلمة، وقد فعل الضحاك ما أمره الحاكم عمر بن الخطاب به.
ولقد وصل اجتهاد عمر بن الخطاب إلى أن أسقط عقوبة حد السرقة في عام المجاعة. وكان عمر رحيماً بالناس مهتماً بمشاكلهم بصورة أبهرت الأبصار، وتلك ممارسة خارقة لمسئولية الحكم التي حملها أمير المؤمنين عمر بأمانة.
وقصة عمر بن الخطاب مع الأمير الغساني جبلة بن الأيهم، حيث حكم عليه بالقصاص للأعرابي الذي اعتدى جبلة حينما وطئ الأعرابي إزاره خطأ أثناء الطواف، ولم ينقذه من العقاب – وهو أمير والشاكي من السوقة والرعية – إلا هربه من قبضة الحاكم عمر بن الخطاب إلى خارج البلاد الإسلامية حينذاك. كما أن قصة ابن عمرو بن العاص حاكم مصر آنذاك الذي ضرب قبطياً مصرياً تشهد بعدل عمر وحرصه على أمانة القضاء ونصفه المظلوم، حيث ترك المصري أن يقتص من ابن الحاكم بعد ان ثبت لديه صدق الواقعة، وقال قولته الشهيرة لعمرو بن العاص: "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً".
ونختم حديثنا عن عدل الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي يحتاج لمجلدات ولن نوفيه حقه، بكتابه الذي أرسله إلى أبي موسى الأشعري فهذا الكتاب يعد بحق من جوامع الكلم التي أرسى فيها عمر نظام القضاء وقواعده حيث جاء فيه: "إن القضاء فريضة محكمة وسنة متبعة، فافهم إذا أدلى إليك وأنفذ إذا تبين لك، فإنه لا ينفع حق لا نفاذ له، آسي بين الناس في مجلسك وفي وجهك وعدلك حتى لا يطمع شريف في حيفك ولا ييأس ضعيف من عدلك، البينة على من أدعى واليمين على من أنكر، والصلح جائز بين المسلمين إلا صلحاً أحل حراماً أو حرم حلالاً، ولا يمنعك قضاء قضيته بالأمس فراجعت فيه نفسك وهويت فيه لرشدك أن ترجع إلى الحق، فإن الحق قديم ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل، الفهم، الفهم، فيما تلجلج في صدرك مما ليس في كتاب ولا سنة، ثم اعرف الأمثال والأشياء، وقس الأمور بنظائرها، واجعل للمدعي حقاً غائباً أو بينة أمداً ينتهي إليه. فإن أحضر بينة خذ بحقه، وإلا وجهت القضاء عليه، فإن ذلك أجلى للعمى وأبلغ للعذر، المسلمون عدول بعضهم على بعضإلا مجلوداً في حد أو مجرباً عليه شهادة زور أو ظنيناً في ولاء أو قرابة، فإن الله عزوجل تولى منكم السرائر ودرأ عنكم الشبهات، وإياك والقلق والضجر والتأذي للناس، والتنكر للخصوم في مواطن الحق التي يوجب الله بها الأجر ويحسن الذخر، فإنه من يخلص نيته بينه وبين الله، ولو على نفسه يكفه الله ما بينه وبين الناس، ومن تزين للناس بما يعلم الله فيه غير ذلك شأنه لله".
ويقول العميد الطماوي تعليقاً على رسالة عمر لأبي موسى الأشعري في كتابه (عمر بن الخطاب وأصول السياسة): "...وتلقاء ما سبق يتضح أن فترة حكم الفاروق عمر بن الخطاب، تعتبر المثل الأعلى للفكر الإسلامي من حيث نظام الحكم سواء على الصعيد النظري أو التطبيق العملي. وإذا كان كل من القرآن والسنة قد أرسى الكثير لنظام الحكم، فإن تفصيل هذه الأسس وملاءمتها للظروف المتغيرة كان عملاً شخصياً لأمير المؤمنين، يكشف عن عبقرية فذة، واستعداد فطري للقيادة".
ويستطرد الطماوي رحمه الله: "وقيام عمر بذلك كله، مع تمسكه بحكم الإسلام نصاً وروحاً فيه أبلغ الرد على الدعوى المغرضة بأن الإسلام يحول دون التحضر ودون الأخذ بالأساليب العلمية، فالعيب لا يكمن في تعاليم الإسلام السمحة، ولكن يرجع إلى الجمود الذهني وإلى العجز عن بلوغ مراتب الاجتهاد، التي تكفل استعداد ما يناسب ظروف المجتمع الإسلامي المتغيرة من أصول الإسلام الثابتة".
ويعلق الأستاذ عباس محمود العقاد في كتابه (عبقرية عمر) بقوله: "ندر في الدولة الإسلامية من نظام لم تكن له – عمر- أولوية فيه، فافتتح تاريخاً واستهل حضارة، وأنشأ حكومة ورتب لها الدواوين ونظم فيها أصول القضاء والإدارة واتخذ لها بيت مال، ووصل بين أجزائها بالبريد وحمى ثغورها بالمرابطين، وصنع كل شيء في الوقت الذي ينبغي أن يصنع فيه وعلى الوجه الذي يحسن به الابتداء. فأوجز ما يقال فيه: أنه وضع دستوراً لكل شيء، وتركه قائماً على أساس لمن شاء أن يبني عليه".
وجاء الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه محافظاً على الأوضاع التي سنها عمر بن الخطاب، واعتمد في مشورته على من اعتمد عليهما الشيخان من قبل، وفي الولايات على بعض من كانوا عمالاً لعمر بن الخطاب، ثم على أناس من أهله وعشيرته، فلم يكن مبتدعاً، بل كان متبعاً، فواصل السير الذي بدأه عمر واستمر في تطوير القضاء، حيث يروى أنه أول من اتخذ للقضاء داراً بعد أن كان يعقد في المسجد، وكان أول ما كتب إلى أمراء الأجناد: "قد وضع لكم عمر ما لم يغب عنا، بل على ملأ منا، ولا يبلغني عن أحد منكم تغيير ولا تبديل فيغير الله ما بكم ويستبدل بكم غيركم".
وعلى هذا السلوك القويم درج الخليفة الرابع علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فقد جلس بانتظام للنظر في المظالم، وراقب عماله وولاهم بالنصح والإرشاد، حيث لم يخالف منهجه في القضاء منهج أسلافه الثلاثة في الاعتماد على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فإن لم يجد عول على ما اتفق عليه الصحابة، فإن لم يجد اجتهد، وكان اجتهاده مضرب المثل في القوة والتمكن من استخراج الحكم واستنباطه.
لقد كان القضاء في عصر الخلفاء الراشدين قاصراً على الفصل في الخصومات المدنية، أما القصاص والحدود فكانت ترجع إلى الخلفاء وولاة الأمصار. وكانت العقوبات التأديبية من اختصاص الخليفة أو عامله، فكانت الدائرة القضائية ضيقة.
وبهذا يكون التاريخ الإسلامي قد عرف القضاء الإداري، الذي لم يظهر كجهة قضائية تقوم عليها محكمة عليا توجه وترسي مبادئه، وترفع ما قد يقع من التضارب فيما تصدره المحاكم الدنيا من أحكام أو تنقض ما يتسم منها بالإفراط او التفريط، وإنما كانت تتولاه هيئتان تتوازيان حيث أن كلتيهما كانت تختص بنظر المنازعة الإدارية وتتشابكان حيث لم يكن هناك حد فاصل يحدد صلاحية كلاً منهما وهما الخليفة ويدوان المظالم، فقد قام الخليفة في جميع العصور بدور القاضي الإداري، بل كان القاضي الإداري الأول في الإسلام، وما روي عن الفاروق عمر بن الخطاب يؤكد هذا المعنى، فهو يعلن أن صلاحيات الوالي ليست مطلقة، إذ عليه أن يستعملها لما فيه الخير العام، أي أنها محددة حسب التعبير القانوني الحديث بقيد عدم الانحراف بالسلطة. ثم يطلب من الناس بعد ذلك أن يرفعوا إليه ما خرج من أعمال الولاة عن القواعد الشرعية حتى يجازي الآثم بما ارتكبه. وذهب عمر إلى أبعد من ذلك، فكان يستدعي الولاة في مواسم الحج ليفضح الجائر منهم على رؤوس الأشهاد أو يبعث من يتحرى عنهم ويعزل من تثبت عدم كفاءته ويكافئ المخلص منهم.
مرحلة القضاء المزدوج
اتسعت رقعة البلاد الإسلامية بعد قيام الدولة الأموية نتيجة للفتوحات المتعددة، ودخلت بلاد عربية سواء في الشرق أو الغرب تحت لوائها، وتطلب ذلك اتساع نشاطها، فتعددت ولايات القضاء تبعاً لتعدد إدارة الولايات المكونة للدولة الإسلامية.
ولما تجاهر الناس بالظلم والتغالب، ولم تكفهم زواجر العظة عن التمانع والتجاذب فاحتاجوا في ردع المتغلبين وإنصاف المظلومين إلى نظر المظالم، فكان أول من أفرد للظلامات يوماً يتصفح فيه قصص المتظلمين هو عبدالملك بن مروان، فكان إذا وقف فيها على مشكل أو احتاج فيها إلى حكم رده إلى قاضيه أبي إدريس الأودي فينفذ فيه أحكامه، فكان أبو إدريس هو المباشر وعبدالملك هو الآمر.
وروى أن عبدالملك بن مروان بلغه أن بعض كتابه قبل هدية، فأحضره وقال له: "والله إن كنت قبلت هدية لا تنوي بها مكافأة المهدي لها إنك لئيم دنيء، وإن كنت قبلتها تستكفي رجلاً لم تكن تستكفيه لولاها إنك لخائن، وإن كنت نويت تعويض المهدي عن هديته وأن لا تخون له أمانة ولا تعلم له ديناً، فلقد قبلت ما بسط عليك لسان معامليك وأجمع فيك سائر مجاوريك وسلبك هيبة سلطانك، ثم صرفه عن عمله".
وإذا كان الإسلام لم يعرف بعد الخلفاء الراشدين من بلغ قدرهم من الحس المرهف للعدل، فليس المسئول عن ذلك النظام الإسلامي، وإنما المسئول الأول هو المسلم الذي يطبقه، إذ عادت الدنيا تتغلب على القلوب وتسيطر على النفوس كلما بعد العهد بالنبوة، وزاد من جور الولاة، وظلم العتاه، واغتصاب الأموال في دولة بني أمية ما لم يكفهم عنه إلا أقوى الأيدي وأنفذ الأوامر.
فكان عمر بن عبدالعزيز الذي أعاد إلى الأذهان سيرة السلف، فكان إذا جلس مجلس الإدارة، أمر فألقى لرجلين وسادة قبالته، ويقول: لهما إنه مجلس شر وفتنة، فلا يكن لكما عمل إلا النظر إلي، فإذا رأيتما في شيئاً لا يوافق الحق، فخوفاني وذكراني بالله عزوجل.
ويعتبر عمر بن عبدالعزيز أول من ندب نفسه للنظر في المظالم فردها، وراعى السنن العادلة فأعادها، ورد مظالم بني أمية على أهلها حتى قيل له – وقد شدد عليهم وأغلظ- إنا نخاف عليك من ردها العواقب، فقال: "كل يوم أتقيه وأخافه دون يوم القيامة".
وأنصف عمر بن عبدالعزيز الذميين من ظلم قرابته، فروي أنه جاء إليه رجل ذمي من أهل حمص، فقال: يا أمير المؤمنين أسألك كتاب الله، قال: وما ذاك؟!، قال: العباس بن الوليد بن عبدالملك اغتصب أرضي – والعباس جالس – فقال للعباس: ما تقول؟، فقال: أقطعنيها أمير المؤمنين الوليد بن عبدالملك، وكتب لي بها سجلاً، فقال: ما تقول يا ذمي؟ فقال: يا أمير المؤمنين أسألك كتاب الله عزوجل، فقال عمر: نعم كتاب الله أحق أن يتبع من كتاب الوليد بن عبدالملك، وأمر العباس بأن يرد ضيعة الذمي عليه.
لقد كان عمر بن عبدالعزيز أكثر خلفاء بني أمية اهتماماً بأمر القضاء والقضاة، فقد روي أنه تولى القضاء بنفسه، ولم يخصص مكاناً للتقاضي بين يديه، فحيثما انتقل كان قاضياً، وهو الذي يقول: "لا يصلح القاضي إلا أن يكون فيه خمس خصال: عفيف، حليم، عالم بما كان قبله من القضاء، يستشير ذوي الألباب، ولا يخاف في الله لومة لائم، فإن أخطأته واحدة كانت فيه وصمة، وإن أخطاته اثنتان كان فيه وصمتان.
وظل القضاء في عهد الدولة الأموية كما كان في عهد الخلفاء الراشدين قاصراً على إصدار الأحكام فيما لهم اختصاص فيه، أما تنفيذها فهو من اختصاص الخليفة أو نوابه من الولاة، وكذلك إقامة الحدود وتطبيق التعزيرات، ما عدا بعض الآراء والتي تطوراً ضئيلاً مما كان يجب أن يكون عليه القضاء حينذاك، مما يتناسب مع اتساع الدولة وتطور ظروفها الاقتصادية والاجتماعية، وبذلك يتميز القضاء في هذا العهد بشيئين هما: أن القاضي كان يحكم بما يوحي إليه اجتهاده، وأنه لم يكن متأثراً بالسياسة.
وفي عهد الدولة العباسية أخذ القضاء يتطور تبعاً لتطور العلوم، ولاسيما الفقهية، لكثرة ما وجد من الفقهاء وتعدد مذاهبهم، وما ألفوه من كتب، فأصبح القضاء مادة حيوية ذات شأن، حتى احتل مكاناً بارزاً لدى أصحاب هذه المذاهب. لذلك فقد أناب الخلفاء قضاة ليحكموا بين الناس واستبقوا لأنفسهم الحكم فيما يعجز عنه القاضي، وهو النظر في المظالم. فكانوا يباشرون ذلك بأنفسهم أو بمن يختارونه من ذوي القوة والسطورة.
يقول الماوردي: ثم جلسها لها – المظالم – من خلفاء بني العباس جماعة، فكان أول من جلس لها المهدي، ثم الهادي، ثم الرشيد، ثم المأمون، وآخر من جلس لها المهتدي، حتى عادت الأملاك إلى مستحقيها.
وقد عني المهدي بالمظالم عناية فائقة، وقد عرف أنه كان إذا جلس للمظالم قال: "ادخلوا علي القضاة، فلو لم يكن ردي للمظالم إلا للحياء منهم لكفى".
وقد أخذ نظام المظالم شكلاً ثابتاً محدداً في عهد المهدي، حيث عمل على أن يسود الأمن أرجاء الدولة العباسية، وينتشر العدل بين جميع رعاياه الذين كسب محبتهم ورضاهم، فبدأ عهده بالتسامح والعفو، وأمر بإطلاق سراح كل مسجون في جريمة سياسية عدا نفر قليل بقوله: "إلا من كان قبله تباعة من دم او قتل، ومن كان معروفاً بالسعي في الأرض فساداً".
فكان المهدي محبباً إلى الخاص والعام، لأنه افتتح عهده بالنظر في المظالم والكف عن القتل وأمن الخائف وأنصف المظلوم وبسط يده في الإعطاء.
وقد اتسعت سلطة القاضي في العصر العباسي فشملت – بالإضافة إلى الدعاوى المدنية والجنائية – دعاوى الأوقاف وتنصيب الأوصياء والمظالم والشرطة والحسبة وبيت المال وغير ذلك.
وإذا كان قد تولى في أواخر العصر العباسي القضاء أناس ينتمون إلى مذاهب شتى، وضعف فيهم جانب الرأي والاجتهاد، إلا أن تدوين علوم الفقه وأصوله والتفسير وجميع الأحاديث وشرحها قد عبّد الطريق أمامهم لظهور فكرة تقنين الأحكام وجعلها مرجعاً للقضاة.
خالص المودة
...
أول من تكلم عن قضاء المظالم بتفصيل أبو الحسن البصري الماوردي في كتابه الأحكام السلطانية والولايات الدينية حيث أفرد فصلاً خاصاً لأحكامه، ومما جاء فيه: "ونظر المظالم هو قود المتظالمين إلى التناصف بالرهبة وزجر المتنازعين عن التجاحد بالهيبة، فكان من شروط الناظر فيها أن يكون جليل القدر نافذ الأمر، عظيم الهيبة، ظاهر العفة، قليل الطمع، كثير الورع، لأنه يحتاج في نظره إلى سطوة الحماة، وثبت القضاة، فيحتاج إلى الجمع بين صفات الفريقين، وأن يكون بجلالة القدر نافذ الأمر في الجهتين...فقد نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشرب الذي تنازعه الزبير بن العوام رضي الله عنه ورجل من الأنصار فحضره بنفسه... ولم ينتدب للمظالم من الخلفاء الأربعة أحد لأنهم في الصدر الأول مع ظهور الدين عليهم، بين من يقوده التناصف للحق أو يزجره الوعظ عن الظلم، وإنما كانت المنازعات تجري بينهم في أمور مشتبهة يوضحها حكم القضاء، فإن تجور من جفاة أعرابهم مجور ثناء الوعظ أن يدبر وقاده العنف أن يحسن، فاقتصر خلفاء السلف على التشاجر بينهم بالحكم والقضاء تعييناً للحق في جهته لانقيادهم إلى التزامه".
ويرى بعض المؤرخين أن نظر المظالم تمتد جذوره قبيل البعثة النبوية إلى ما يسمى بحلف الفضول، إذ أنه لما كثر في قريش الزعماء وانتشرت فيهم الرياسة وشاهدوا من التغالب والتجاذب ما لم يكفهم عن سلطان قاهر، عقدوا بينهم حلفاً على رد المظالم وإنصاف المظلوم من الظالم واجتمعت بطون قريش في بيت عبدالله بن جدعان وتعاهدوا فيما بينهم على أن لا يجدوا بمكة مظلوماً من مظلوماً من أهلها أو غيرهم ممن دخلها من سائر الناس إلا قاموا معه وكانوا على ممن ظلمه حتى يرد إليه مظلمته.
وقد شهد الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الحلف قبل الرسالة، ثم أقرها بعدها، وقال: (شهدت في دار عبدالله بن جدعان حلف الفضول، ولو دعيت إليه في الإسلام لأحببت، وما أحب أن لي به حمر النعم).
وقد مر القضاء الإداري في صدر الإسلام بمرحلتين: مرحلة القضاء الموحد، ثم مرحلة القضاء المزدوج، وسوف نتناول كل منهما في مبحث مستقل.
مرحلة القضاء الموحد
لم تكن ثمة حاجة إلى قضاء متخصص للمظالم في تلك الفترة التي تبدأ من عصر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى عهد عبدالملك بن مروان الذي يمكن اعتباره أول من باشر قضاء المظالم على وجه التخصيص ليتفرغ لما أسند إليه، والذي يقلد ولاية القضاء على وجه التحديد. وهذا يرجع إلى أن الدعوة في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم تغمر بنورها القلوب، فتحيي الضمائر وتضاعف الشعور بالإثم، فإذا وقع المحظور لجأ إلى صاحب الدعوة يستوضحه الغامض من الأمر ويستجليه ما خفي عليه، وكان قول الرسول صلى الله عليه وسلم عندئذ محترماً لذاته فينفذه الخصوم طواعية دون حاجة إلى جبر أو إكراه، لذلك فقد حرص الخلفاء والرعية على احترام مبدأ الشرعية باعتباره أحد المبادئ الأساسية التي قررتها الشريعة الإسلامية.
وسوف نقسم الحديث عن القضاء في تلك الفترة إلى مرحلتين: مرحلة القضاء في عهد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ومرحلة القضاء في عصر الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم.
القضاء في عهد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم
كان النبي صلى الله عليه وسلم يتولى بنفسه رفع المظالم التي تصل إليه من الولاة. ويروى في صحاح السنن أن خالد بن الوليد قتل مقتلة في خزيمة بعد أن أعلن أهلها الخضوع، فاستنكر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك وأرسل علياً بن أبي طالب رضي الله عنه إلى هذه القبيلة ليرفع عنها هذه المظلمة، بأن يدفع دية قتلاها على اعتبار أن القتل وقع خطأ رغم أنه حدث في ميدان القتال وأدى الرسول صلى الله عليه وسلم الدية ودفع بدل الأموال ثم اتجه إلى ربه يقول: (اللهم أني أبرأ إليك مما فعل خالد). وبذلك يكون الرسول صلى الله عليه وسلم قد مارس هنا سلطته القضائية التي تتضمن رد المظالم والتي تجيز لصاحبها تتبع مظالم الولاة بدون التوقف على رفع المظلمة.
ويعتبر الرسول صلى الله عليه وسلم أول مشرع للإنصاف في الإسلام وفي انتصافه للناس من نفسه أمثلة كثيرة حفلت بها مسيرته المشرفة، منها في ما ذكره القاضي عياض في كتابه "الشفا" حيث جاء زيد بن سعنة قبل إسلامه يتقاضى النبي صلى الله عليه وسلم ديناً عليه، فجذب ثوبه عن منكبه وأخذ بمجامع ثيابه وأغلظ له، ثم قال: إنكم يا بني عبدالمطلب مطل – أي أهل مطال وتأخير الديون – فانتهره عمر بن الخطاب رضي الله عنه وشدد له في القول، والنبي صلى الله عليه وسلم يبتسم ويقول: أنا وهو كنا إلى غير هذا منك أحوج يا عمر، تأمرني بحسن القضاء وتأمره بحسن التقاضي، ثم قال صلى الله عليه وسلم: لقد بقى من أجله ثلاث، وأمر عمر يقضيه ماله ويزيده عشرين صاعاً لما روعه، فكان ذلك سبب إسلامه".
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يستمع إلى كل شكوى تأتيه عن أي عامل من عماله، ويتابع حسن تنفيذهم لأعمالهم، ويقف على ما ينقل من أخبارهم، فقد عزل العلاء الحضرمي عامله على البحرين عندما شكاه وفد عبدالقيس وثبتت صحة الشكوى، وولى بدلاً منه إبان بن سعيد، وقال له صلى الله عليه وسلم: "استوصي بعبدالقيس خيراً وأكرم سراتهم".
وقد ثبت أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يتخير لولاية الولايات أصلح المسلمين ويمنع عنها من يرى أنه غير أهل لحكمها، ويقول صلى الله عليه وسلم: "من ولي من أمر المسلمين شيئاً، فولى رجلاً وهو يجد من هو أصلح منه، فقد خان الله ورسوله".
ويذكر المواردي وأبويعلى الفراء، أن الرسول صلى الله عليه وسلم نظر المظالم في الشرب الذي تنازعه الزبير بن العوام ورجل من الأنصار فحضره بنفسه وقال للزبير "أسق أنت يا زبير ثم الأنصاري" فقال الأخير: إن ابن عمتك يا رسول الله، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: يا زبير أجره على بطنه حتى يبلغ الماء الكعبين".
وكان قضاء الرسول صلى الله عليه وسلم اجتهاداً لا وحياً، فقد روى أنه قال لرجلين اختصما إليه: "إنما أنا بشر مثلكم، وإنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له بشيء من حق أخيه فإنما أقضي له قطعة من النار".
وكانت طرق الإثبات عند الرسول صلى الله عليه وسلم: الإقرار والبينة واليمين وشهادة الشهود والقسامة والفراسة، وغيرها. فقد روي عنه أنه قال: "البينة على من ادعى واليمين على من أنكر". وقال صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أحكم بالظاهر والله يتولى السرائر".
وقد كان الجميع لدى رسول الله صلى الله عليه وسلم أمام الشريعة الغراء سواء، يسري على الحاكم منها ما يسري على المحكوم، وتطبق احكامها على الكبير والصغير، دون أدنى تمييز اجتماعي أو اعتبار وظيفي، وهذا واضح فيما قاله صلى الله عليه وسلم: "أيها الناس من كنت جلدت له ظهراً فهذا ظهري، فلستقد مني، ومن كنت شتمت له عرضاً، فهذا عرضي فليستقد مني، ومن أخذت ماله، فهذا مالي فيأخذ منه ولا يخشى الشحناء، فهذه ليست من شأني". وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إنما أهلك الذي من قبلكم أنهم إذا سرق فيهم الشريف، تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، والذي نفسي بيده لو ان فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها".
القضاء في عهد الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم
تصدى الخلفاء الراشدون لنظر المظالم بعد الرسول صلى الله عليه وسلم، بتتبع مظالم الولاة بدون التوقف على رفع مظلمة. فكان أبوبكر الصديق رضي الله عنه يكشف أحوال عماله، ويختار أكثرهم علماً وعملاً ويحاسبهم بعد فراغهم من عملهم. وثبت عنه أنه قال لرجل شكا إليه عاملاً قطع يده "لئن كنت صادقاً لأقيدنك منه".
ولقد ظل القضاء في عهد ابوبكر كما كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لانشغاله عن تنظيمه بحروب الردة ومانعي الزكاة.
وأبرز الصديق رضي الله عنه خصائص الحاكم المثالي في خطبته الأولى إثر توليه أمر المسلمين، فقال: "أيها الناس، إني وليت عليكم ولست بخيركم، إن أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوموني، ألا إن الضعيف فيكم قوي عندي حتى آخذ الحق له، ألا إن القوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيته فلا طاعة لي عليكم".
وبهذه الكلمات يضع أبوبكر في إطار من الذمة والصدق مسئوليات الحاكم الأمين، ويكشف عن جوهر ولاة الأمور الصالحين المقسطين، فأعطى بذلك عهداً للناس بأن يعدل فيهم، فلا تمنعه سطوة الظالم من أن ينصف منه المظلوم، ولا يحول ضعف المظلوم أن ينصفه ممن ظلمه، لأنه إذا صلح الرعاة صلحت الرعية، وإذا أعطى الحاكم القدوة الحسنة من نفسه.
وقد عهد الصديق إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنهما بولاية القضاء، فظل سنتين لا يلجأ إليه متخاصمان. لما عرف عنه الحزم والقوة والعدل حتى قيل في حقه: "حكمت فعدلت فأمنت فنمت يا عمر".
وحين تولى عمر بن الخطاب الخلافة عمل على إصلاح القضاء بما يتماشى مع حاجة الدولة الإسلامية وما وصلت إليه من اتساع الرقعة وزيادة المسلمين واحتياجاتهم إلى من يقض بينهم، فعين قضاة وأناب الولاة لتوليه القضاء أو للقيام بوظيفة القضاء كما وجه اهتمامه أيضاً إلى تنظيم القضاء بكل أبعاده، فكان أول من استحدث السجن في الإسلام وبين مدلول الاختصاص المكاني والموضوعي للقضاة الذين كانوا مستقلين عن الخليفة أو الوالي، فإذا حدث لأحد الولاة خصومة أو منازعة فإنما ينزل إلى ساحة القضاء مع خصمه كبقية أفراد الرعية. وكان القضاة يحكمون بكتاب الله وسنة رسوله إن كان هناك نص، وإلا فالإجماع إن وجد وإلا ولو وجوههم شطر إعمال الرأي والاجتهاد لاستنباط الأحكام وإيجاد الحلول المناسبة للمنازعة المعروضة عليهم.
وقد تجلت أبرز صور الاجتهاد في أعمال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه نظراً لاتساع رقعة الدولة الإسلامية في عهده، وحاجة الدولة إلى تشريعات جديدة مبتكرة لمواجهة المشاكل الطارئة والأوضاع المستجدة.
ويعتبر الفاروق عمر بن الخطاب من أبرز الخلفاء الراشدين في تتبع المظالم الوقعة من الولاة، وكان عندما يختار الوالي يأخذ بيده ويقول له: "إني لم أستعملك على دماء المسلمين ولا على أعراضهم، ولكني أستعملك لتقيم فيهم الصلاة وتقسم بينهم وتحكم فيهم بالعدل". لذلك كان أول عمل تولاه في خلافته هو عزل خالد بن الوليد عن قيادة الجيش، مع ماله من مكانة في قيادة الحروب الإسلامية وانتصاراته الرائعة وذلك لقتله مالك بن نويرة بعد ان نطق بالشهادة، وقد أعطى أبوبكر قبل موته ديته من بيت مال المسلمين، بيد أن عمر لم يعتبر ذلك رفعاً للظلم الذي حاق بالقتيل وبأوليائه فعزله وهو يقول: "إن في سيف خالد لرهقا".
ولم تقف مسئولية عمر عن ولاته عند حسن اختيارهم وتوجيههم، بل تنهض إلى إقامة كل الضمانات التي تجعل ولايتهم على الناس رخاء وأمناً، وسبيله أن يجعل الحاكم تحت رقابة المحكوم ويتصدى بنفسه وعلى الفور للتحقيق في كل شكوى يجأر بها مواطن من حاكم، وأن يتابع في يقظة سلوك ولاته في كل زمان ومكان، ويرسل العيون للكشف عن أحوالهم، وتلمس أخبارهم حتى قيل إنه كان علمه بمن نأى عن من عماله ورعيته كعلمه بمن بات معه في مهاد واحد!.
وفي موسم الحج وعلى ملأ الأعداد الكثيرة من حجاج المسلمين جمع عمر ولاته ووقف يخطب فيهم قائلاً: "أيها الناس إني والله لا أبعث عمالي إليكم ليضربوا أبشاركم ولا ليأخذوا أموالكم، ولكن أبعثهم إليكم ليعلموكم دينكم وسنة نبيكم، فمن فعل به سوى ذلك فليرفعه إلي، فو الذي نفسي بيده لأمكننه من القصاص" ثم يقف عمرو بن العاص ويقول: أرأيت إن كان رجل من المسلمين والياً على رعيته فأدب بعضهم أفتقتص منه؟! فيقول عمر: "إي والذي نفسي بيده لأفعلن، فقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقتص من نفسه ويقول: "من كنت جلدت له ظهراً فهذا ظهري فليستقد منه".
فكان عمر رضي الله عنه يرى أن تقام العقوبة على من يخطئ من الأمة لا فرق بين حاكم ومحكوم، وأن الأمة يجب أن تعاون المجني عليه حتى ينفذ حكم الشرع.
ومن الصور العملية لعدل عمر ما روي من قضائه للضحاك بن خليفة الأنصاري بإعداد الخليج في أرض محمد بن مسلمة، حيث أراد الضحاك أن يشرع في عمل خليج لكي تروى منه أرض يملكها، ولا يمكن أن يصل هذا الخليج إلا بمروره بالأرض التي يمتلكها محمد بن مسلمة. وعندما عرض الأمر على هذا الأخير رفض، فقال له الضحاك: لم تمنعني وهو لك منفعة تشرب منه أولاً وآخراً لا يضرك؟!، وعندما أصر محمد بن مسلمة على موقفه من رفض مرور الخليج على أرضه، رفع الضحاك الأمر إلى أمير المؤمنين عمر، الذي دعا على الفور مسلمة، وسأله لم تمنع أخاك ما ينفعه ولا يضرك؟ فإذا به يقول: هذا ملكي وأنا صاحب الحق، فقال له عمر: والله ليمرن الماء ولو على بطنك، ثم أمر الضحاك بأن يجعل القناة التي يريد حفرها تمر في أرض محمد بن مسلمة، وقد فعل الضحاك ما أمره الحاكم عمر بن الخطاب به.
ولقد وصل اجتهاد عمر بن الخطاب إلى أن أسقط عقوبة حد السرقة في عام المجاعة. وكان عمر رحيماً بالناس مهتماً بمشاكلهم بصورة أبهرت الأبصار، وتلك ممارسة خارقة لمسئولية الحكم التي حملها أمير المؤمنين عمر بأمانة.
وقصة عمر بن الخطاب مع الأمير الغساني جبلة بن الأيهم، حيث حكم عليه بالقصاص للأعرابي الذي اعتدى جبلة حينما وطئ الأعرابي إزاره خطأ أثناء الطواف، ولم ينقذه من العقاب – وهو أمير والشاكي من السوقة والرعية – إلا هربه من قبضة الحاكم عمر بن الخطاب إلى خارج البلاد الإسلامية حينذاك. كما أن قصة ابن عمرو بن العاص حاكم مصر آنذاك الذي ضرب قبطياً مصرياً تشهد بعدل عمر وحرصه على أمانة القضاء ونصفه المظلوم، حيث ترك المصري أن يقتص من ابن الحاكم بعد ان ثبت لديه صدق الواقعة، وقال قولته الشهيرة لعمرو بن العاص: "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً".
ونختم حديثنا عن عدل الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي يحتاج لمجلدات ولن نوفيه حقه، بكتابه الذي أرسله إلى أبي موسى الأشعري فهذا الكتاب يعد بحق من جوامع الكلم التي أرسى فيها عمر نظام القضاء وقواعده حيث جاء فيه: "إن القضاء فريضة محكمة وسنة متبعة، فافهم إذا أدلى إليك وأنفذ إذا تبين لك، فإنه لا ينفع حق لا نفاذ له، آسي بين الناس في مجلسك وفي وجهك وعدلك حتى لا يطمع شريف في حيفك ولا ييأس ضعيف من عدلك، البينة على من أدعى واليمين على من أنكر، والصلح جائز بين المسلمين إلا صلحاً أحل حراماً أو حرم حلالاً، ولا يمنعك قضاء قضيته بالأمس فراجعت فيه نفسك وهويت فيه لرشدك أن ترجع إلى الحق، فإن الحق قديم ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل، الفهم، الفهم، فيما تلجلج في صدرك مما ليس في كتاب ولا سنة، ثم اعرف الأمثال والأشياء، وقس الأمور بنظائرها، واجعل للمدعي حقاً غائباً أو بينة أمداً ينتهي إليه. فإن أحضر بينة خذ بحقه، وإلا وجهت القضاء عليه، فإن ذلك أجلى للعمى وأبلغ للعذر، المسلمون عدول بعضهم على بعضإلا مجلوداً في حد أو مجرباً عليه شهادة زور أو ظنيناً في ولاء أو قرابة، فإن الله عزوجل تولى منكم السرائر ودرأ عنكم الشبهات، وإياك والقلق والضجر والتأذي للناس، والتنكر للخصوم في مواطن الحق التي يوجب الله بها الأجر ويحسن الذخر، فإنه من يخلص نيته بينه وبين الله، ولو على نفسه يكفه الله ما بينه وبين الناس، ومن تزين للناس بما يعلم الله فيه غير ذلك شأنه لله".
ويقول العميد الطماوي تعليقاً على رسالة عمر لأبي موسى الأشعري في كتابه (عمر بن الخطاب وأصول السياسة): "...وتلقاء ما سبق يتضح أن فترة حكم الفاروق عمر بن الخطاب، تعتبر المثل الأعلى للفكر الإسلامي من حيث نظام الحكم سواء على الصعيد النظري أو التطبيق العملي. وإذا كان كل من القرآن والسنة قد أرسى الكثير لنظام الحكم، فإن تفصيل هذه الأسس وملاءمتها للظروف المتغيرة كان عملاً شخصياً لأمير المؤمنين، يكشف عن عبقرية فذة، واستعداد فطري للقيادة".
ويستطرد الطماوي رحمه الله: "وقيام عمر بذلك كله، مع تمسكه بحكم الإسلام نصاً وروحاً فيه أبلغ الرد على الدعوى المغرضة بأن الإسلام يحول دون التحضر ودون الأخذ بالأساليب العلمية، فالعيب لا يكمن في تعاليم الإسلام السمحة، ولكن يرجع إلى الجمود الذهني وإلى العجز عن بلوغ مراتب الاجتهاد، التي تكفل استعداد ما يناسب ظروف المجتمع الإسلامي المتغيرة من أصول الإسلام الثابتة".
ويعلق الأستاذ عباس محمود العقاد في كتابه (عبقرية عمر) بقوله: "ندر في الدولة الإسلامية من نظام لم تكن له – عمر- أولوية فيه، فافتتح تاريخاً واستهل حضارة، وأنشأ حكومة ورتب لها الدواوين ونظم فيها أصول القضاء والإدارة واتخذ لها بيت مال، ووصل بين أجزائها بالبريد وحمى ثغورها بالمرابطين، وصنع كل شيء في الوقت الذي ينبغي أن يصنع فيه وعلى الوجه الذي يحسن به الابتداء. فأوجز ما يقال فيه: أنه وضع دستوراً لكل شيء، وتركه قائماً على أساس لمن شاء أن يبني عليه".
وجاء الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه محافظاً على الأوضاع التي سنها عمر بن الخطاب، واعتمد في مشورته على من اعتمد عليهما الشيخان من قبل، وفي الولايات على بعض من كانوا عمالاً لعمر بن الخطاب، ثم على أناس من أهله وعشيرته، فلم يكن مبتدعاً، بل كان متبعاً، فواصل السير الذي بدأه عمر واستمر في تطوير القضاء، حيث يروى أنه أول من اتخذ للقضاء داراً بعد أن كان يعقد في المسجد، وكان أول ما كتب إلى أمراء الأجناد: "قد وضع لكم عمر ما لم يغب عنا، بل على ملأ منا، ولا يبلغني عن أحد منكم تغيير ولا تبديل فيغير الله ما بكم ويستبدل بكم غيركم".
وعلى هذا السلوك القويم درج الخليفة الرابع علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فقد جلس بانتظام للنظر في المظالم، وراقب عماله وولاهم بالنصح والإرشاد، حيث لم يخالف منهجه في القضاء منهج أسلافه الثلاثة في الاعتماد على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فإن لم يجد عول على ما اتفق عليه الصحابة، فإن لم يجد اجتهد، وكان اجتهاده مضرب المثل في القوة والتمكن من استخراج الحكم واستنباطه.
لقد كان القضاء في عصر الخلفاء الراشدين قاصراً على الفصل في الخصومات المدنية، أما القصاص والحدود فكانت ترجع إلى الخلفاء وولاة الأمصار. وكانت العقوبات التأديبية من اختصاص الخليفة أو عامله، فكانت الدائرة القضائية ضيقة.
وبهذا يكون التاريخ الإسلامي قد عرف القضاء الإداري، الذي لم يظهر كجهة قضائية تقوم عليها محكمة عليا توجه وترسي مبادئه، وترفع ما قد يقع من التضارب فيما تصدره المحاكم الدنيا من أحكام أو تنقض ما يتسم منها بالإفراط او التفريط، وإنما كانت تتولاه هيئتان تتوازيان حيث أن كلتيهما كانت تختص بنظر المنازعة الإدارية وتتشابكان حيث لم يكن هناك حد فاصل يحدد صلاحية كلاً منهما وهما الخليفة ويدوان المظالم، فقد قام الخليفة في جميع العصور بدور القاضي الإداري، بل كان القاضي الإداري الأول في الإسلام، وما روي عن الفاروق عمر بن الخطاب يؤكد هذا المعنى، فهو يعلن أن صلاحيات الوالي ليست مطلقة، إذ عليه أن يستعملها لما فيه الخير العام، أي أنها محددة حسب التعبير القانوني الحديث بقيد عدم الانحراف بالسلطة. ثم يطلب من الناس بعد ذلك أن يرفعوا إليه ما خرج من أعمال الولاة عن القواعد الشرعية حتى يجازي الآثم بما ارتكبه. وذهب عمر إلى أبعد من ذلك، فكان يستدعي الولاة في مواسم الحج ليفضح الجائر منهم على رؤوس الأشهاد أو يبعث من يتحرى عنهم ويعزل من تثبت عدم كفاءته ويكافئ المخلص منهم.
مرحلة القضاء المزدوج
اتسعت رقعة البلاد الإسلامية بعد قيام الدولة الأموية نتيجة للفتوحات المتعددة، ودخلت بلاد عربية سواء في الشرق أو الغرب تحت لوائها، وتطلب ذلك اتساع نشاطها، فتعددت ولايات القضاء تبعاً لتعدد إدارة الولايات المكونة للدولة الإسلامية.
ولما تجاهر الناس بالظلم والتغالب، ولم تكفهم زواجر العظة عن التمانع والتجاذب فاحتاجوا في ردع المتغلبين وإنصاف المظلومين إلى نظر المظالم، فكان أول من أفرد للظلامات يوماً يتصفح فيه قصص المتظلمين هو عبدالملك بن مروان، فكان إذا وقف فيها على مشكل أو احتاج فيها إلى حكم رده إلى قاضيه أبي إدريس الأودي فينفذ فيه أحكامه، فكان أبو إدريس هو المباشر وعبدالملك هو الآمر.
وروى أن عبدالملك بن مروان بلغه أن بعض كتابه قبل هدية، فأحضره وقال له: "والله إن كنت قبلت هدية لا تنوي بها مكافأة المهدي لها إنك لئيم دنيء، وإن كنت قبلتها تستكفي رجلاً لم تكن تستكفيه لولاها إنك لخائن، وإن كنت نويت تعويض المهدي عن هديته وأن لا تخون له أمانة ولا تعلم له ديناً، فلقد قبلت ما بسط عليك لسان معامليك وأجمع فيك سائر مجاوريك وسلبك هيبة سلطانك، ثم صرفه عن عمله".
وإذا كان الإسلام لم يعرف بعد الخلفاء الراشدين من بلغ قدرهم من الحس المرهف للعدل، فليس المسئول عن ذلك النظام الإسلامي، وإنما المسئول الأول هو المسلم الذي يطبقه، إذ عادت الدنيا تتغلب على القلوب وتسيطر على النفوس كلما بعد العهد بالنبوة، وزاد من جور الولاة، وظلم العتاه، واغتصاب الأموال في دولة بني أمية ما لم يكفهم عنه إلا أقوى الأيدي وأنفذ الأوامر.
فكان عمر بن عبدالعزيز الذي أعاد إلى الأذهان سيرة السلف، فكان إذا جلس مجلس الإدارة، أمر فألقى لرجلين وسادة قبالته، ويقول: لهما إنه مجلس شر وفتنة، فلا يكن لكما عمل إلا النظر إلي، فإذا رأيتما في شيئاً لا يوافق الحق، فخوفاني وذكراني بالله عزوجل.
ويعتبر عمر بن عبدالعزيز أول من ندب نفسه للنظر في المظالم فردها، وراعى السنن العادلة فأعادها، ورد مظالم بني أمية على أهلها حتى قيل له – وقد شدد عليهم وأغلظ- إنا نخاف عليك من ردها العواقب، فقال: "كل يوم أتقيه وأخافه دون يوم القيامة".
وأنصف عمر بن عبدالعزيز الذميين من ظلم قرابته، فروي أنه جاء إليه رجل ذمي من أهل حمص، فقال: يا أمير المؤمنين أسألك كتاب الله، قال: وما ذاك؟!، قال: العباس بن الوليد بن عبدالملك اغتصب أرضي – والعباس جالس – فقال للعباس: ما تقول؟، فقال: أقطعنيها أمير المؤمنين الوليد بن عبدالملك، وكتب لي بها سجلاً، فقال: ما تقول يا ذمي؟ فقال: يا أمير المؤمنين أسألك كتاب الله عزوجل، فقال عمر: نعم كتاب الله أحق أن يتبع من كتاب الوليد بن عبدالملك، وأمر العباس بأن يرد ضيعة الذمي عليه.
لقد كان عمر بن عبدالعزيز أكثر خلفاء بني أمية اهتماماً بأمر القضاء والقضاة، فقد روي أنه تولى القضاء بنفسه، ولم يخصص مكاناً للتقاضي بين يديه، فحيثما انتقل كان قاضياً، وهو الذي يقول: "لا يصلح القاضي إلا أن يكون فيه خمس خصال: عفيف، حليم، عالم بما كان قبله من القضاء، يستشير ذوي الألباب، ولا يخاف في الله لومة لائم، فإن أخطأته واحدة كانت فيه وصمة، وإن أخطاته اثنتان كان فيه وصمتان.
وظل القضاء في عهد الدولة الأموية كما كان في عهد الخلفاء الراشدين قاصراً على إصدار الأحكام فيما لهم اختصاص فيه، أما تنفيذها فهو من اختصاص الخليفة أو نوابه من الولاة، وكذلك إقامة الحدود وتطبيق التعزيرات، ما عدا بعض الآراء والتي تطوراً ضئيلاً مما كان يجب أن يكون عليه القضاء حينذاك، مما يتناسب مع اتساع الدولة وتطور ظروفها الاقتصادية والاجتماعية، وبذلك يتميز القضاء في هذا العهد بشيئين هما: أن القاضي كان يحكم بما يوحي إليه اجتهاده، وأنه لم يكن متأثراً بالسياسة.
وفي عهد الدولة العباسية أخذ القضاء يتطور تبعاً لتطور العلوم، ولاسيما الفقهية، لكثرة ما وجد من الفقهاء وتعدد مذاهبهم، وما ألفوه من كتب، فأصبح القضاء مادة حيوية ذات شأن، حتى احتل مكاناً بارزاً لدى أصحاب هذه المذاهب. لذلك فقد أناب الخلفاء قضاة ليحكموا بين الناس واستبقوا لأنفسهم الحكم فيما يعجز عنه القاضي، وهو النظر في المظالم. فكانوا يباشرون ذلك بأنفسهم أو بمن يختارونه من ذوي القوة والسطورة.
يقول الماوردي: ثم جلسها لها – المظالم – من خلفاء بني العباس جماعة، فكان أول من جلس لها المهدي، ثم الهادي، ثم الرشيد، ثم المأمون، وآخر من جلس لها المهتدي، حتى عادت الأملاك إلى مستحقيها.
وقد عني المهدي بالمظالم عناية فائقة، وقد عرف أنه كان إذا جلس للمظالم قال: "ادخلوا علي القضاة، فلو لم يكن ردي للمظالم إلا للحياء منهم لكفى".
وقد أخذ نظام المظالم شكلاً ثابتاً محدداً في عهد المهدي، حيث عمل على أن يسود الأمن أرجاء الدولة العباسية، وينتشر العدل بين جميع رعاياه الذين كسب محبتهم ورضاهم، فبدأ عهده بالتسامح والعفو، وأمر بإطلاق سراح كل مسجون في جريمة سياسية عدا نفر قليل بقوله: "إلا من كان قبله تباعة من دم او قتل، ومن كان معروفاً بالسعي في الأرض فساداً".
فكان المهدي محبباً إلى الخاص والعام، لأنه افتتح عهده بالنظر في المظالم والكف عن القتل وأمن الخائف وأنصف المظلوم وبسط يده في الإعطاء.
وقد اتسعت سلطة القاضي في العصر العباسي فشملت – بالإضافة إلى الدعاوى المدنية والجنائية – دعاوى الأوقاف وتنصيب الأوصياء والمظالم والشرطة والحسبة وبيت المال وغير ذلك.
وإذا كان قد تولى في أواخر العصر العباسي القضاء أناس ينتمون إلى مذاهب شتى، وضعف فيهم جانب الرأي والاجتهاد، إلا أن تدوين علوم الفقه وأصوله والتفسير وجميع الأحاديث وشرحها قد عبّد الطريق أمامهم لظهور فكرة تقنين الأحكام وجعلها مرجعاً للقضاة.
خالص المودة