خليل بوجيري
01-28-2013, 01:53 AM
نظرية الضرورة في الفقه الإسلامي:
صاغ الفقه الإسلامي فكرة الضرورة ، وجعل لها نظرية متكاملة تستند إلى أصول كلية مأخوذة من القرآن الكريم والسنة النبوية ، وفي بيان ذلك قال إسحاق الشاطبي في كتابة " الموافقات في أصول الشريعة " : تكاليف الشريعة ترجع إلى حفظ مقاصدها في الخلق . وهذه المقاصد لا تعدو ثلاثة أقسام أن تكون ضرورية وثانيهما أن تكون حاجية والثالث أن تكون تحسينية ، فأما الضرورية فمعناها أنها لابد منها في قيام مصالح الدين والدنيا بحيث إن فقدت لم تجر مصالح الدنيا على استقامة بل على فساد وتهارج وفوت حياة ، وفي الآخرة النجاة والنعيم والرجوع بالخسران المبين . والحفظ لها يكون بأمرين أحدهما ما يقيم أركانها ويثبت قواعدها وذلك عبارة عن مراعاتها من جانب الوجود ، والثاني ما يدرأ عنها الاختلال الواقع أو المتوقع فيها ، وذلك عبارة عن مراعاتها من جانب العدم ... ومجموع الضروريات خمسة وهي : حفظ الدين ، والنفس ، والمال ، والنسل ، والعقل .
ويختصر بعض الفقهاء تعريف فكرة الضرورة في الفقه الإسلامي بأنها خوف من الهلاك على النفس أو المال سواء أكان هذه الخوف علماً أي أمراً متيقناً أو ظنناً يراد به الظن الراجح وهو المبني على أسباب معقولة، وقد بنى الفقه الإسلامي نظرية للضرورة في مجال كل من العبادات والمعاملات قائمة على قاعدتين المشقة تجلب التيسير ولا ضرر ولا ضرار .
ويقصد بالقاعدة الأولى أن المشقة التي تخرج عن المعتاد تجلب التيسير ، وتتحقق هذه المشقة إذا كان على المكلف به من شأنه أن يؤدي الى الانقطاع عنه أو بعضه أو إلحاق الضرر بالمكلف في نفسه وماله أو حال من أحواله .
والدليل الشرعي لهذه القاعدة في القرآن الكريم :
(1) ((يُرِيدُ الله بِكُمُ اليُسرَ ولا يُرِيدُ بِكُمُ العُسرَ)): (البقرة :185)
(2) ((ما يُرِيدُ الله لِيَجعَل عَلَيكُم مِن حَرَجٍ)): (المائدة :6)
(3) ((وَمَا جَعَلَ عَلَيكُم فِى الدِينِ مِن حَرجٍ)): (الحج :87)
والدليل الشرعي للقاعدة آنفة الذكر في الحديث النبوي :
(1) في تقرير فعال رسول الله صلى الله عليه وسلم قول عائشة رضي الله عنها : "ماخير الرسول صلى الله عليه وسلم بين شيئين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً"
(2) " إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين"
(3) قال الرسول صلى الله عليه وسلم : "إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه".
ويتفرع عن هذه القاعدة الأصولية عدد من القواعد أهمها :
- الضرورات تبيح المحظورات : ومشروعية هذه القاعدة من القرآن الكريم :
((فَمَنِ اضطُرَ غَيرَ بَاغٍ ولاَ عَادٍ فَلاَ إِثمَ عَلَيهِ إِنَ اللَهَ غَفُورُُ رَحِيمُُ )): (البقرة : 173)
((فَمَنِ اضطُرَ فِى مَخمَصَةٍ غَيرَ مُتَجَانِفٍ)): ( المائدة :3)
ومن التطبيقات العملية لهذه القاعدة : جواز النطق بكلمة الكفر للمضطر ، إباحة أكل الميتة عند الضرورة ، إباحة شرب الخمر لإزالة العطش لمن أشرف على الهلاك ولم يجد سوى الخمر ، جواز إتلاف مال الغير بإلقاء بعض حمولة السفينة في الماء إذا ما أشرفت على الغرق وهذا كله وغيره يجوز بشرط عدم نقصان الضرورة عن المحظور .
- الضرورة تقدر بقدرها ، وتطبيق ذلك أن المضطر لا يأكل ولا يشرب من الشيء المحرم إلا ما يسد به رمقه .
- الحاجة تنزل منزل الضرورة ، وتتميز الضرورة عن الحاجة بأن الضرورة هي ما يترتب على فقدها ضرر جسيم ، بينما الحاجة ما يترتب على عدمها العسر والصعوبة .
- أما القاعدة الثانية وهي (لاضرر ولا ضرار)
فإن دليل مشروعيتها الحديث الذي رواه أبو سعيد الخدري عن النبي "صلى الله عليه وسلم" أنه قال : " لا ضرر ولا ضرار " وقد تتفرع عن هذه القاعدة مجموعة من القواعد هي
(1) الضرر يزال بقدر الإمكان .
(2) يتحمل الضرر الخاص لدفع ضرر عام .
(3) الضرر الأشد يزال بالضرر الأخف .
(4) الضرر لا يزال بالضرر .
(5) درء المفاسد مقدم على جلب المصالح .
على ضوء ما سبق يمكن اختصار فكرة الضرورة في الفقه الإسلامي في أن المحافظة على الضروريات الخمس وهي حفظ الدين والنفس والمال والعقل والنسل تبيح مخالفة التكاليف الشرعية ، لكن بشرط الالتزام بالضوابط أو القيود التالية
- أن يكون الخطر الذي يهدد إحدى الضروريات الخمس يتصف بان يكون جسيماً وحالاً وأن تكون مخالفة القواعد الشرعية هي الطريق الوحيد لدفع هذا الخطر .
- أن تقدر الضرورة بقدرها أي أن تقتصر مخالفة القواعد الشرعية الحد الأدنى اللازم لمواجهة هذا الخطر
- أن تكون المخالفة مؤقتة بحيث العودة للقواعد العادية بمجرد زوال الخطر ، فما جاز لضرورة يبطل لغيرها .
ومما لا يجعل مجالاً للشك أن هذه المبادئ قابلة للتطبيق ، فيما يخص حماية مصلحة الجماعة أو الدولة ، كما هي قابلة للتطبيق لحماية مصلحة الأفراد .
وتستند فكرة الضرورة أيضا إلى مبدأ تغير الأحكام بتغير المصالح التي يقوم على جواز تغير النصوص لتغير علتها أو لتغير الظروف التي بنيت عليها أو الظروف التي تطبق فيها أو لاقتضاء الضرورة أو المصلحة ، وهو من النتائج التي تترتب على قاعدة دفع الضرر وأن المشقة تجلب التيسير .
وتطبيقاً للمبدأ السابق أجاز الفقهاء بناء على ذلك اتساع سلطة الدولة في أوقات الأزمات ومن ذلك حقها في فرض التسعير الجبري ، كما أمر الرسول "صلى الله عليه وسلم" بعدم قطع اليد في الحرب بقوله "صلى الله عليه وسلم": "لا تقطع الأيدي في السفر" وقد علل الفقهاء بناء على هذا الحكم بألا يلحق المقطوع يده بأرض العدو فيلحق الضرر بالجيش الإسلامي ، ومن المعروف أن الخليفة عمر بن الخطاب رضى الله عنه قد أوقف تطبيق حد السرقة في عام الرمادة أو المجاعة .
نظرية الضرورة في الفقه الوضعي
أما بالنسبة لنظرية الضرورة في الفقه القانوني الوضعي ، فإن الفقهاء ، قد اختلفوا حول هذه النظرية ، وبيان الأساس الذي تقوم عليه قبل أن تستقر في قضاء مجلس الدولة الفرنسي .
أولا : الفقه الألماني
يتبنى الفقه الألماني نظرية الضرورة وجعل للضرورة مفهوماً يوسع من سلطات الدولة إلى مدى بعيد ، وتقوم النظرية الألمانية للضرورة على أنه يوجد بجانب القانون المكتوب قانون آخر غير مكتوب يعطي للدولة الحق في اتخاذ كافة الإجراءات اللازمة للمحافظة على سلامتها ، ولو أدى ذلك إلى مخالفة القوانين القائمة ، وتعد الإجراءات التي تتخذها الدولة في هذا الشأن مشروعة وسليمة قانوناً بذاتها دون حاجة إلى إقرار من أي سلطة كانت ، والأساس القانوني لذلك هو اضطرار الدولة لمخالفة الأنظمة القانونية القائمة ينشئ نظاماً قانونياً جديداً ، يختلف عن النظام القانوني السابق الذي ينطبق في ظل الظروف العادية ، ولما كانت الدولة تخضع للقانون بمحض إرادتها ، طبقاً لنظرية التحديد الذاتي للإرادة التي ابتدعها الفقه الألماني ، فإن الدولة إذا ما اضطرت تحت ضغط الأحداث ، إلى مخالفة القواعد القانونية القائمة تكون إرادتها قد اتجهت إلى إحلال قواعد أخرى تلائم ظروف الضرورة محل القواعد السابقة ، ولعل أهم ما في هذه النظرية الألمانية للضرورة هو أنها تعتبر جميع ما تقوم به الدولة بناء على حالة الضرورة يعد سليما ومشروعاً ، فالضرورة تعد مصدراً غير مشروط للقواعد القانونية ، ولذلك يطلق الفقه على هذه النظرية القانونية للضرورة.
وهذه النظرية تؤدي إلى نتيجة خطيرة هي إطلاق سلطة الدولة وإخضاع القانون لإرادتها فهي تؤدي إلى أن الدولة لا تخضع للقانون إلا حينما تريد ، وفي الحدود التي تريدها ، وخلال الفترة الزمنية التي تريدها .
وبناء عليه استندت الحكومة الألمانية لنظرية الضرورة بهذا المفهوم الواسع في علاقاتها الدولية ، وذلك حينما اخترقت حياد بلجيكا 1914 ، وحينها قامت بحملتها العسكرية بغزو النرويج والدنمارك وهولندا وبلجيكا في الحرب العالمية الثانية ، وحينما خرقت معاهدة التحالف التي كانت تربط بينها وبين روسيا وقامت بغزوها للأراضى الروسية بدون سابق إنذار في الحرب العالمية الثانية .
ثانيا : الفقه الفرنسي
أخذ الفقه الفرنسي أيضاً بنظرية الضرورة، ولكنه قام بتهذيبها بحيث أنه رفض المفهوم الذي تبناه الفقه الألماني ، وقد ظهر في الفقه الفرنسي اتجاهان حول نظرية الضرورة ، أحدهما يسبغ عليها مفهوماً قانونياً والآخر يسبغ عليها مفهوماً واقعياً ، ويتفق الاتجاهان على إخضاع نظرية الضرورة لعدد من الضوابط .
الاتجاه الأول : المفهوم القانوني
يمثل هذا الاتجاه كل دوجي وهوريو اللذان يقران بحق الحكومة في الظروف غير العادية الاستثنائية ، في إصدار لوائح لها قوة القانون بشرط أن تعرض هذه اللوائح على البرلمان . فمجرد أن يكون ذلك ممكناً ، من أجل الحصول على موافقته ، وحينما يقر البرلمان هذه اللوائح لا ينقلها من أعمال غير مشروعة إلى أعمال مشروعة ، وذلك أن هذه اللوائح تعد مشروعة منذ صدورها استناداً إلى الظروف غير العادية التي ألزمت إصدارها ، وينقلها بذلك من مجرد لوائح الى قوانين .
ويعتبر العلامة "دوجي من أوائل الفقهاء الفرنسيين الذين تعرضوا لصياغة نظرية الضرورة ، حيث تطلب عدة ضوابط وشروط لكي تكون اللوائح التي تصدرها الحكومة في الظروف الاستثنائية مشروعة :
1 - أن يكون هناك ظرف استثنائى كالحرب أو العصيان المسلح أو الإضراب العام .
ألا يكون البرلمان مجتمعاً
- أن تكون الحكومة معتزمة على عرض الأمر على البرلمان في أو اجتماع له للموافقة على تصرفاتها .
ويرى العلامة هوريو أن الحكومة ليس فقط لها لحق في اتخاذ الإجراءات اللازمة لمواجهة الظروف الاستثنائية كالحرب ، وإنما عليها واجب اتخاذ هذه الإجراءات لحماية الدولة استناداّ إلى حق الدفاع الشرعي ، فاذا كانت الدولة في مواجهتها لهذه المخاطر تخرج عن إطار المشروعية ، فإنها لاتخرج عن إطار القانون طالما كانت هي في حالة دفاع شرعى .
الاتجاه الثاني : (مفهوم واقعي)
أما الاتجاه الآخر المقابل للاتجاه القانوني ، يجعل نظرية الضرورة نظرية واقعية ، فهو يرى أن الضرورة لا تخلق قواعد قانونية ولا تحل محل القوانين القائمة ، وإن الحكومة إذا اتخذت تحت ضغط الضرورة إجراءات تخالف الأنظمة القانونية القائمة ،فإن هذه الإجراءات تعتبر بحسب الأصل إجراءات غير مشروعة ، ولا تكون الإجراءات مشروعة أبداً لأنها باطلة بطلاناً مطلقاً ، لا يقبل الإجازة من أى سلطة كانت ، فالإدارة ينبغي أن تلتزم بمبدأ المشروعية ليس فقط في الظروف العادية وإنما كذلك في الظروف غير العادية ، حيث غاية ما في الأمر إنه يمكن للإدارة أن تتحاشى المسئولية الناجمة عن مخالفتها للقانون بأن تعرض على البرلمان الإجراءات التي اتخذتها وتطلب منه أن يعفيها من المسئولية بواسطة قانون للتضمينات ، وبذلك تكون الضرورة نظرية واقعية لا قانونية .
ومع اضطراد أحكام مجلس الدولة الفرنسي ينطبق نظرية الضرورة أو وإسباغه صفة المشروعية على الإجراءات التي تتخذها الحكومة لمواجهة هذه الظروف الاستثنائية ، فإن الفقه الحديث قد استقر على الاعتراف بهذه النظرية باعتبارها نظرية قانونية وليست نظرية واقعية وباعتبارها جزأ من مبدأ المشروعية الذي يتسع نطاقه في ظل الظروف الاستثنائية ، ليشمل الإجراءات التي تتخذها الحكومة للمحافظة على سلامة الدولة .
وقد اعتنق الفقه المصري هذه النظرية باعتبارها نظرية قانونية متفقاً في هذا مع الفقه الفرنسي الحديث ولكن كلاهما قد حرص على أن يصيغ هذه النظرية ضمن مجموعة من الضوابط والشروط نعرض لها فيما يلي :
شروط نظرية الضرورة :
لنظرية الضرورة ضوابط معينة يجب أن تراعيها الحكومة ، لكي تكون الأعمال التي تقوم بها صحيحة ، ومن أهم هذه الشروط ما يلي :
- قيام خطر جسيم وحال
وهذا الشرط مجمع عليه فقهاً وقضاءً ، ومن الممكن تحديد حجم هذا الخطر عن طريق مصدره الذي قد يكون مصدراً طبيعياً كالكوارث الطبيعية ، وقد يكون إقتصادياً وتطبيق ذلك الاضطرابات المالية الخطيرة ، وقد يكون مصدره خارجياً مثل الحروب ، وقد يكون داخلياً مثل العصيان المسلح والمظاهرات العنيفة غير السلمية ، بيد أنه من المستحسن ضبط وصف التهديد بالخطر بإن يكون هذا التحديد خطر جسيم حال .
ورغم صعوبة تحديد جسامة الخطر بمقياس معين فإنه يجب على الأقل أن يخرج من إطار المخاطر المتوقعة أو المعتادة في الدولة ، فهو خطر غير مألوف من حيث النوع وكبير من حيث المدى .
ووصف الخطر بأن يكون حالاً نعني به ألا يكون خطراً مستقبلاً وإلا يكون قد وقع وانتهى إذ يكون بمثل هذه الحالة مجرد واقع له آثاره . وكذلك الخطر الوهمي الذي ينشأ في ذهن أو تصور أو خيال الحكومة لا يعد خطرا جسيماً حالاً ، فالخطر الحال إذن هو الذي يكون قد بدأ فعلاً ، أو هو وشيك الوقوع ، دون أن يكون قد انتهى بعد وبحيث لا تجد الإدارة أي فرصة للجوء إلى وسيلة أخرى لمواجهته .
- إستحالة مواجهة هذا الخطر بالطرق العادية وعن طريق المؤسسات الدستورية المختصة .
وهذا الشرط مجمع عليه أيضاً فقهاً وقضاءً ، وفحوى هذا القيد أنه إذا وجدت وسيلة قانونية أو دستورية تستطيع أن تواجه المخاطر التي تهدد سلامة الدولة ، فإنه يجب الرجوع في تلك الحالة إلى هذه الوسيلة ، أما إذا كانت المخاطر لا تجدي معها نفعاً هذه الوسائل بحيث تصبح عاجزة عن مجابتها ، فإن الرجوع إلى نظرية الضرورة وتطبيقاتها يكون أمراً لا مناص منه .
- أن يكون الإجراء غير القانوني المتخذ لمواجهة هذا الخطر على قدر لا يتجاوزه لإن الضرورة تقدر بقدرها .
__________________________________________________ __________________________________________________ __
مصادر الموضوع:
• عبدالله الشملاوي/ قراءات في المراسيم بقوانين/ الرابط:
• http://www.vob.org/index.php?show=news&action=article&id=92&lang=arabic
• شفيق إمام/ مراسيم الضرورة/صحيفة الجريدة/ الرابط:
• http://www.aljarida.com/aljarida/Article.aspx?id=55456
• موقع مجلس الأمة الكويتي/ نظرية الضرورة/
• http://www.majlesalommah.net/run.asp?id=764
مقتبس من مجموعة من البحوث والدراسات القانونية من المصادر المذكورة.
خالص المودة
صاغ الفقه الإسلامي فكرة الضرورة ، وجعل لها نظرية متكاملة تستند إلى أصول كلية مأخوذة من القرآن الكريم والسنة النبوية ، وفي بيان ذلك قال إسحاق الشاطبي في كتابة " الموافقات في أصول الشريعة " : تكاليف الشريعة ترجع إلى حفظ مقاصدها في الخلق . وهذه المقاصد لا تعدو ثلاثة أقسام أن تكون ضرورية وثانيهما أن تكون حاجية والثالث أن تكون تحسينية ، فأما الضرورية فمعناها أنها لابد منها في قيام مصالح الدين والدنيا بحيث إن فقدت لم تجر مصالح الدنيا على استقامة بل على فساد وتهارج وفوت حياة ، وفي الآخرة النجاة والنعيم والرجوع بالخسران المبين . والحفظ لها يكون بأمرين أحدهما ما يقيم أركانها ويثبت قواعدها وذلك عبارة عن مراعاتها من جانب الوجود ، والثاني ما يدرأ عنها الاختلال الواقع أو المتوقع فيها ، وذلك عبارة عن مراعاتها من جانب العدم ... ومجموع الضروريات خمسة وهي : حفظ الدين ، والنفس ، والمال ، والنسل ، والعقل .
ويختصر بعض الفقهاء تعريف فكرة الضرورة في الفقه الإسلامي بأنها خوف من الهلاك على النفس أو المال سواء أكان هذه الخوف علماً أي أمراً متيقناً أو ظنناً يراد به الظن الراجح وهو المبني على أسباب معقولة، وقد بنى الفقه الإسلامي نظرية للضرورة في مجال كل من العبادات والمعاملات قائمة على قاعدتين المشقة تجلب التيسير ولا ضرر ولا ضرار .
ويقصد بالقاعدة الأولى أن المشقة التي تخرج عن المعتاد تجلب التيسير ، وتتحقق هذه المشقة إذا كان على المكلف به من شأنه أن يؤدي الى الانقطاع عنه أو بعضه أو إلحاق الضرر بالمكلف في نفسه وماله أو حال من أحواله .
والدليل الشرعي لهذه القاعدة في القرآن الكريم :
(1) ((يُرِيدُ الله بِكُمُ اليُسرَ ولا يُرِيدُ بِكُمُ العُسرَ)): (البقرة :185)
(2) ((ما يُرِيدُ الله لِيَجعَل عَلَيكُم مِن حَرَجٍ)): (المائدة :6)
(3) ((وَمَا جَعَلَ عَلَيكُم فِى الدِينِ مِن حَرجٍ)): (الحج :87)
والدليل الشرعي للقاعدة آنفة الذكر في الحديث النبوي :
(1) في تقرير فعال رسول الله صلى الله عليه وسلم قول عائشة رضي الله عنها : "ماخير الرسول صلى الله عليه وسلم بين شيئين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً"
(2) " إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين"
(3) قال الرسول صلى الله عليه وسلم : "إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه".
ويتفرع عن هذه القاعدة الأصولية عدد من القواعد أهمها :
- الضرورات تبيح المحظورات : ومشروعية هذه القاعدة من القرآن الكريم :
((فَمَنِ اضطُرَ غَيرَ بَاغٍ ولاَ عَادٍ فَلاَ إِثمَ عَلَيهِ إِنَ اللَهَ غَفُورُُ رَحِيمُُ )): (البقرة : 173)
((فَمَنِ اضطُرَ فِى مَخمَصَةٍ غَيرَ مُتَجَانِفٍ)): ( المائدة :3)
ومن التطبيقات العملية لهذه القاعدة : جواز النطق بكلمة الكفر للمضطر ، إباحة أكل الميتة عند الضرورة ، إباحة شرب الخمر لإزالة العطش لمن أشرف على الهلاك ولم يجد سوى الخمر ، جواز إتلاف مال الغير بإلقاء بعض حمولة السفينة في الماء إذا ما أشرفت على الغرق وهذا كله وغيره يجوز بشرط عدم نقصان الضرورة عن المحظور .
- الضرورة تقدر بقدرها ، وتطبيق ذلك أن المضطر لا يأكل ولا يشرب من الشيء المحرم إلا ما يسد به رمقه .
- الحاجة تنزل منزل الضرورة ، وتتميز الضرورة عن الحاجة بأن الضرورة هي ما يترتب على فقدها ضرر جسيم ، بينما الحاجة ما يترتب على عدمها العسر والصعوبة .
- أما القاعدة الثانية وهي (لاضرر ولا ضرار)
فإن دليل مشروعيتها الحديث الذي رواه أبو سعيد الخدري عن النبي "صلى الله عليه وسلم" أنه قال : " لا ضرر ولا ضرار " وقد تتفرع عن هذه القاعدة مجموعة من القواعد هي
(1) الضرر يزال بقدر الإمكان .
(2) يتحمل الضرر الخاص لدفع ضرر عام .
(3) الضرر الأشد يزال بالضرر الأخف .
(4) الضرر لا يزال بالضرر .
(5) درء المفاسد مقدم على جلب المصالح .
على ضوء ما سبق يمكن اختصار فكرة الضرورة في الفقه الإسلامي في أن المحافظة على الضروريات الخمس وهي حفظ الدين والنفس والمال والعقل والنسل تبيح مخالفة التكاليف الشرعية ، لكن بشرط الالتزام بالضوابط أو القيود التالية
- أن يكون الخطر الذي يهدد إحدى الضروريات الخمس يتصف بان يكون جسيماً وحالاً وأن تكون مخالفة القواعد الشرعية هي الطريق الوحيد لدفع هذا الخطر .
- أن تقدر الضرورة بقدرها أي أن تقتصر مخالفة القواعد الشرعية الحد الأدنى اللازم لمواجهة هذا الخطر
- أن تكون المخالفة مؤقتة بحيث العودة للقواعد العادية بمجرد زوال الخطر ، فما جاز لضرورة يبطل لغيرها .
ومما لا يجعل مجالاً للشك أن هذه المبادئ قابلة للتطبيق ، فيما يخص حماية مصلحة الجماعة أو الدولة ، كما هي قابلة للتطبيق لحماية مصلحة الأفراد .
وتستند فكرة الضرورة أيضا إلى مبدأ تغير الأحكام بتغير المصالح التي يقوم على جواز تغير النصوص لتغير علتها أو لتغير الظروف التي بنيت عليها أو الظروف التي تطبق فيها أو لاقتضاء الضرورة أو المصلحة ، وهو من النتائج التي تترتب على قاعدة دفع الضرر وأن المشقة تجلب التيسير .
وتطبيقاً للمبدأ السابق أجاز الفقهاء بناء على ذلك اتساع سلطة الدولة في أوقات الأزمات ومن ذلك حقها في فرض التسعير الجبري ، كما أمر الرسول "صلى الله عليه وسلم" بعدم قطع اليد في الحرب بقوله "صلى الله عليه وسلم": "لا تقطع الأيدي في السفر" وقد علل الفقهاء بناء على هذا الحكم بألا يلحق المقطوع يده بأرض العدو فيلحق الضرر بالجيش الإسلامي ، ومن المعروف أن الخليفة عمر بن الخطاب رضى الله عنه قد أوقف تطبيق حد السرقة في عام الرمادة أو المجاعة .
نظرية الضرورة في الفقه الوضعي
أما بالنسبة لنظرية الضرورة في الفقه القانوني الوضعي ، فإن الفقهاء ، قد اختلفوا حول هذه النظرية ، وبيان الأساس الذي تقوم عليه قبل أن تستقر في قضاء مجلس الدولة الفرنسي .
أولا : الفقه الألماني
يتبنى الفقه الألماني نظرية الضرورة وجعل للضرورة مفهوماً يوسع من سلطات الدولة إلى مدى بعيد ، وتقوم النظرية الألمانية للضرورة على أنه يوجد بجانب القانون المكتوب قانون آخر غير مكتوب يعطي للدولة الحق في اتخاذ كافة الإجراءات اللازمة للمحافظة على سلامتها ، ولو أدى ذلك إلى مخالفة القوانين القائمة ، وتعد الإجراءات التي تتخذها الدولة في هذا الشأن مشروعة وسليمة قانوناً بذاتها دون حاجة إلى إقرار من أي سلطة كانت ، والأساس القانوني لذلك هو اضطرار الدولة لمخالفة الأنظمة القانونية القائمة ينشئ نظاماً قانونياً جديداً ، يختلف عن النظام القانوني السابق الذي ينطبق في ظل الظروف العادية ، ولما كانت الدولة تخضع للقانون بمحض إرادتها ، طبقاً لنظرية التحديد الذاتي للإرادة التي ابتدعها الفقه الألماني ، فإن الدولة إذا ما اضطرت تحت ضغط الأحداث ، إلى مخالفة القواعد القانونية القائمة تكون إرادتها قد اتجهت إلى إحلال قواعد أخرى تلائم ظروف الضرورة محل القواعد السابقة ، ولعل أهم ما في هذه النظرية الألمانية للضرورة هو أنها تعتبر جميع ما تقوم به الدولة بناء على حالة الضرورة يعد سليما ومشروعاً ، فالضرورة تعد مصدراً غير مشروط للقواعد القانونية ، ولذلك يطلق الفقه على هذه النظرية القانونية للضرورة.
وهذه النظرية تؤدي إلى نتيجة خطيرة هي إطلاق سلطة الدولة وإخضاع القانون لإرادتها فهي تؤدي إلى أن الدولة لا تخضع للقانون إلا حينما تريد ، وفي الحدود التي تريدها ، وخلال الفترة الزمنية التي تريدها .
وبناء عليه استندت الحكومة الألمانية لنظرية الضرورة بهذا المفهوم الواسع في علاقاتها الدولية ، وذلك حينما اخترقت حياد بلجيكا 1914 ، وحينها قامت بحملتها العسكرية بغزو النرويج والدنمارك وهولندا وبلجيكا في الحرب العالمية الثانية ، وحينما خرقت معاهدة التحالف التي كانت تربط بينها وبين روسيا وقامت بغزوها للأراضى الروسية بدون سابق إنذار في الحرب العالمية الثانية .
ثانيا : الفقه الفرنسي
أخذ الفقه الفرنسي أيضاً بنظرية الضرورة، ولكنه قام بتهذيبها بحيث أنه رفض المفهوم الذي تبناه الفقه الألماني ، وقد ظهر في الفقه الفرنسي اتجاهان حول نظرية الضرورة ، أحدهما يسبغ عليها مفهوماً قانونياً والآخر يسبغ عليها مفهوماً واقعياً ، ويتفق الاتجاهان على إخضاع نظرية الضرورة لعدد من الضوابط .
الاتجاه الأول : المفهوم القانوني
يمثل هذا الاتجاه كل دوجي وهوريو اللذان يقران بحق الحكومة في الظروف غير العادية الاستثنائية ، في إصدار لوائح لها قوة القانون بشرط أن تعرض هذه اللوائح على البرلمان . فمجرد أن يكون ذلك ممكناً ، من أجل الحصول على موافقته ، وحينما يقر البرلمان هذه اللوائح لا ينقلها من أعمال غير مشروعة إلى أعمال مشروعة ، وذلك أن هذه اللوائح تعد مشروعة منذ صدورها استناداً إلى الظروف غير العادية التي ألزمت إصدارها ، وينقلها بذلك من مجرد لوائح الى قوانين .
ويعتبر العلامة "دوجي من أوائل الفقهاء الفرنسيين الذين تعرضوا لصياغة نظرية الضرورة ، حيث تطلب عدة ضوابط وشروط لكي تكون اللوائح التي تصدرها الحكومة في الظروف الاستثنائية مشروعة :
1 - أن يكون هناك ظرف استثنائى كالحرب أو العصيان المسلح أو الإضراب العام .
ألا يكون البرلمان مجتمعاً
- أن تكون الحكومة معتزمة على عرض الأمر على البرلمان في أو اجتماع له للموافقة على تصرفاتها .
ويرى العلامة هوريو أن الحكومة ليس فقط لها لحق في اتخاذ الإجراءات اللازمة لمواجهة الظروف الاستثنائية كالحرب ، وإنما عليها واجب اتخاذ هذه الإجراءات لحماية الدولة استناداّ إلى حق الدفاع الشرعي ، فاذا كانت الدولة في مواجهتها لهذه المخاطر تخرج عن إطار المشروعية ، فإنها لاتخرج عن إطار القانون طالما كانت هي في حالة دفاع شرعى .
الاتجاه الثاني : (مفهوم واقعي)
أما الاتجاه الآخر المقابل للاتجاه القانوني ، يجعل نظرية الضرورة نظرية واقعية ، فهو يرى أن الضرورة لا تخلق قواعد قانونية ولا تحل محل القوانين القائمة ، وإن الحكومة إذا اتخذت تحت ضغط الضرورة إجراءات تخالف الأنظمة القانونية القائمة ،فإن هذه الإجراءات تعتبر بحسب الأصل إجراءات غير مشروعة ، ولا تكون الإجراءات مشروعة أبداً لأنها باطلة بطلاناً مطلقاً ، لا يقبل الإجازة من أى سلطة كانت ، فالإدارة ينبغي أن تلتزم بمبدأ المشروعية ليس فقط في الظروف العادية وإنما كذلك في الظروف غير العادية ، حيث غاية ما في الأمر إنه يمكن للإدارة أن تتحاشى المسئولية الناجمة عن مخالفتها للقانون بأن تعرض على البرلمان الإجراءات التي اتخذتها وتطلب منه أن يعفيها من المسئولية بواسطة قانون للتضمينات ، وبذلك تكون الضرورة نظرية واقعية لا قانونية .
ومع اضطراد أحكام مجلس الدولة الفرنسي ينطبق نظرية الضرورة أو وإسباغه صفة المشروعية على الإجراءات التي تتخذها الحكومة لمواجهة هذه الظروف الاستثنائية ، فإن الفقه الحديث قد استقر على الاعتراف بهذه النظرية باعتبارها نظرية قانونية وليست نظرية واقعية وباعتبارها جزأ من مبدأ المشروعية الذي يتسع نطاقه في ظل الظروف الاستثنائية ، ليشمل الإجراءات التي تتخذها الحكومة للمحافظة على سلامة الدولة .
وقد اعتنق الفقه المصري هذه النظرية باعتبارها نظرية قانونية متفقاً في هذا مع الفقه الفرنسي الحديث ولكن كلاهما قد حرص على أن يصيغ هذه النظرية ضمن مجموعة من الضوابط والشروط نعرض لها فيما يلي :
شروط نظرية الضرورة :
لنظرية الضرورة ضوابط معينة يجب أن تراعيها الحكومة ، لكي تكون الأعمال التي تقوم بها صحيحة ، ومن أهم هذه الشروط ما يلي :
- قيام خطر جسيم وحال
وهذا الشرط مجمع عليه فقهاً وقضاءً ، ومن الممكن تحديد حجم هذا الخطر عن طريق مصدره الذي قد يكون مصدراً طبيعياً كالكوارث الطبيعية ، وقد يكون إقتصادياً وتطبيق ذلك الاضطرابات المالية الخطيرة ، وقد يكون مصدره خارجياً مثل الحروب ، وقد يكون داخلياً مثل العصيان المسلح والمظاهرات العنيفة غير السلمية ، بيد أنه من المستحسن ضبط وصف التهديد بالخطر بإن يكون هذا التحديد خطر جسيم حال .
ورغم صعوبة تحديد جسامة الخطر بمقياس معين فإنه يجب على الأقل أن يخرج من إطار المخاطر المتوقعة أو المعتادة في الدولة ، فهو خطر غير مألوف من حيث النوع وكبير من حيث المدى .
ووصف الخطر بأن يكون حالاً نعني به ألا يكون خطراً مستقبلاً وإلا يكون قد وقع وانتهى إذ يكون بمثل هذه الحالة مجرد واقع له آثاره . وكذلك الخطر الوهمي الذي ينشأ في ذهن أو تصور أو خيال الحكومة لا يعد خطرا جسيماً حالاً ، فالخطر الحال إذن هو الذي يكون قد بدأ فعلاً ، أو هو وشيك الوقوع ، دون أن يكون قد انتهى بعد وبحيث لا تجد الإدارة أي فرصة للجوء إلى وسيلة أخرى لمواجهته .
- إستحالة مواجهة هذا الخطر بالطرق العادية وعن طريق المؤسسات الدستورية المختصة .
وهذا الشرط مجمع عليه أيضاً فقهاً وقضاءً ، وفحوى هذا القيد أنه إذا وجدت وسيلة قانونية أو دستورية تستطيع أن تواجه المخاطر التي تهدد سلامة الدولة ، فإنه يجب الرجوع في تلك الحالة إلى هذه الوسيلة ، أما إذا كانت المخاطر لا تجدي معها نفعاً هذه الوسائل بحيث تصبح عاجزة عن مجابتها ، فإن الرجوع إلى نظرية الضرورة وتطبيقاتها يكون أمراً لا مناص منه .
- أن يكون الإجراء غير القانوني المتخذ لمواجهة هذا الخطر على قدر لا يتجاوزه لإن الضرورة تقدر بقدرها .
__________________________________________________ __________________________________________________ __
مصادر الموضوع:
• عبدالله الشملاوي/ قراءات في المراسيم بقوانين/ الرابط:
• http://www.vob.org/index.php?show=news&action=article&id=92&lang=arabic
• شفيق إمام/ مراسيم الضرورة/صحيفة الجريدة/ الرابط:
• http://www.aljarida.com/aljarida/Article.aspx?id=55456
• موقع مجلس الأمة الكويتي/ نظرية الضرورة/
• http://www.majlesalommah.net/run.asp?id=764
مقتبس من مجموعة من البحوث والدراسات القانونية من المصادر المذكورة.
خالص المودة