خليل بوجيري
02-10-2013, 02:14 AM
يقول رب العزة في الآية (37) من سورة البقرة: (( فَََتَلَّقى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّاُب الرَّحيمُ )) ويقول عز وجل في الآية (6) من سورة النمل: ((وَإِنَّكَ لَتُلَقََّّى القُرْآنَ مِنْ لَدُنِ حَكِيمٍ عَليمٍ )).
ﻭﻜﺎﻥ ﺍﻟﻤﻌﺘﺯﻟﺔ يقفون موقفا معتدلا، ﺇﺫ يقرؤون ﻤﺎ ﻟﺩﻯ الأجانب من مقاييس بلاغية ويقرنونه ﺇﻟﻰ أنظار ﺍﻟﻌﺭﺏ ﻓﻲ ﺍﻟﺒﻼﻏﺔ.
وليس لنا بد من التعريج على موقف الشاعر الشهير "أبوتمام" ﻋﻨﺩﻤﺎ سئل من طرف رجلين ﻟﻬﻤﺎ دراية كبيرة بالشعر " ﻗﺎﻻ ﻟﻪ: ﻟﻤﺎ تقول ما لا يفهم؟ ﻓﻘﺎل ﻟﻬﻤﺎ. ﻟﻤﺎ ﻻ تفهمان ما يقال؟ " ﻟﻘﺩ جاء جواب الشاعر مفحما لهذين الخبيرين، ﻭﺘﺤﻭﻟﺕ ﻫﺫﻩ ﺍﻟﻌﺒﺎﺭﺓ ﺇﻟﻰ مقولة نقدية معروفة في تراثنا القديم، وقد ﺃﻭﺭﺩﻫﺎ "الآمدي" ﻓﻲ كتابه الموازنة ﻟﻠﺘﺩﻟﻴل ﻋﻠﻰ ﻗﻭﺓ ﺍﻟﺒﺼﻴﺭﺓ ﻭﺍﻟﺤﺱ ﺍﻟﻨﻘﺩﻱ ﺍﻟﻘﻭﻱ ﻋﻨﺩ ﺍﻟﺸﺎﻋﺭ، ﻭﻫﻲ تعكس الجدل الذي كان قائما بين ﺍﻟﻨﻘﺎﺩ وﻫﻭ معرفة المعاني ﻓﻲ ﺍﻟﻨﺹ ﺍﻟﺸﻌﺭﻱ. ﻭﺍﻟﻔﻜﺭﺓ الرئيسية ﻓﻲ ﻫﺫﺍ ﺍﻟﻤﺠﺎل ﻫﻭ "ﺍﻟﻤﺘﻠﻘﻲ".
وقد وجدنا العديد من المقاربات الفكرية التي تبين أن القدامى تطرقوا وعالجوا موضوع التلقي الإبداعي كدراسة غير مؤطرة للتلقي لدى القارئ وأنماطه، سنحاول عرض ما تيسر منها من خلال الموضوع القادم الذي جعلناه في ثلاثة فصول، الأول لعرض جزء يسير من الموروث الثقافي العربي في التلقي والثاني لعرض الفكر الحديث وتأطيره للتلقي، أما الثالث فهو يمثل الخلاصة التي ينتصر فيها الفكر بمقولة الائتلاف الثقافي وبه خلاصة رأي الكاتب الفقير غلى الله، وهل جاء القدماء العرب على القارئ كثورة علمية غير مؤطرة أم قد عدتهم عن ذلك أوراق ثقافية لازمت المرحلة التاريخية رغم الائتلاف والتلاقح الثقافي آنذاك.
الفصل الأول:
القارئ
ضمن درس التلقي
في الموروث الثقافي العربي
يقول "أحمد أمين" صاحب كتابي "فجر الإسلام وضحى الإسلام": "ﻫﺫﻩ ﺍﻟﺜﻘﺎﻓﺎﺕ ﺍﻟﺘﻲ ذكرنا من فارسية ويونانية وعربية. ومن يهودية ونصرانية وإسلامية. ﺍﻟﺘﻘﺕ كلها ﻓﻲ ﺍﻟﻌﺭﺍﻕ ﻓﻲ عصرنا الذي نؤرخه..." .
ولسنا نغفل هاهنا بحثا يؤسس مقولة الائتلاف الثقافي لأستاذ النقد الحديث بجامعة البحرين الدكتور "عبدالكريم حسن" وسم بعنوان إنتاج المعرفة بين الأصالة والحداثة، وقد تناولناه بالشرح في موضوع سابق ملخصه كالآتي:
يقوم بحث إنتاج المعرفة بين الأصالة والحداثة على تطوير مقولة التقدم الثقافي من منظور بنيوي هو الائتلاف بين الثقافات. ولما كان نموذج هذا الائتلاف من وجهة نظر كلود ليفي ستروس هو لعبة الورق، فقد اتجه البحث الذي نشر في مجلة العلوم الإنسانية العدد (5) شتاء 2002 لتقرير توضيح هذه اللعبة، وتجسيدها في إطار فترة محددة من فترات التاريخ الثقافي العربي، وفي ضوء ظاهرة ثقافية محددة هي شعر "أبو نواس" في اتجاهي الخمر والغزل.
وعبر كل ذلك فقد وضع الأستاذ الباحث مقولتي الحداثة والأصالة موضع النظر من جديد، وحاول تجاوزهما إلى مقولة ثالثة هي مقولة الائتلاف الثقافي.
وهو في سعيه يرى بأنه قد آن للثقافة العربية أن تخرج من أسر الجدل العقيم بين الأصالة والحداثة، وأن ترى العالم بمنظور جديد.
حيث يرى كلود ليفي ستروس بأن "كل تقدم ثقافي رهن بائتلاف بين الثقافات"، ويستعين بنموذج لعبة الورق لتوضيح مفهوم الائتلاف، فهو كمن يرى بأن الائتلاف هو وضع الفرص التي تعثر عليها كل ثقافة عبر تطورها التاريخي في متناول الجميع، وليس مهما أن يكون هذا الوضع بوعي أو بغير وعي، إراديا أو من دون إرادة، قصديا أو عرضيا، بنشدان أو بإكراه.
ويورد ليفي ستروس مفهوم "الشرط المتناقض"، فمن جهة يجب أن تقوم اللعبة على أساس الاختلاف ومن جهة أخرى يجب أن تكون الأوراق مشتركة بين اللاعبين للوصول إلى حد من التجانس.
ويرى ليفي ستروس أن الحل للخروج من أسر التجانس يكمن في إدخال عاملين جديدين:
الأول هو عامل "الأبعاد الفرقية"، وهوعامل داخلي يعود إلى طبيعة الحضارة، ضاربا المثل بالتفاوتات الاجتماعية التي لعبتها الحضارة الأوروبية إبان الثورة الصناعية، فالثورة الصناعية انتهت إلى أشكال جديدة أبعد مدى في استغلال العمل البشري.
وأما العامل الثاني فمشروط بسابقه إلى حد كبير، فهو إدخال لاعبين جدد راضين أو مكرهين إلى اللعبة، وهؤلاء اللاعبون خارجيون تختلف أوراقهم كثيرا عن الأوراق التي تميز ائتلاف المجموعة الأولى ضاربا البيان بأن التوسع الاستعماري لأوروبا الصناعية في القرن التاسع عشر سمح لها بتجديد اندفاعتها، مما أنقذها من خطر التجانس ومن ثم الركود.
وهكذا تبدو البشرية مأخوذة بهاتين العمليتين المتناقضتين فمن الميل إلى التوحيد من جهة، والميل إلى التنوع من جهة أخرى، لا يمكن القول بأن العمليتين تمثلان تشييد البناء ومعول الهدم، وإنما هما طريقتان مختلفتان للبناء.
لوتمعنا في تاريخ ثقافتنا العربية في هدي هذا النموذج البنيوي لوجدنا أن اللحظات التي اختلطت فيها الأوراق العربية بالأوراق القادمة من الأمم الأخرى هي اللحظات الأكثر غنى وامتلاء، وهي لحظات تجسد مفهوم التقدم إلى ذروته، فلو نظرنا إلى الثقافات العربية والفارسية واليونانية والهندية لوجدنا العرب قد قدموا ورقتين هما اللغة والعقيدة.
بينما لم يكن الآخر خالي الوفاض فقد جاء رغم ضعفه وانهزامه حاملا أوراقه الثقافية ملزما بصقلها وتهذيبها ليفرض نفسه على المنتصر.
فقد أدرك العرب الأكثر غنى والأشد قوة أيام الأمويين والعباسيين والأندلسيين أن الغنى والقوة غير كافيين للمحافظة على الذات، وأن أوراق الفرس والهنود والنصارى واليونانيين أوراق جديرة بالمواجهة، فنشأت لديهم ضرورة التسلح بالفلسفة والمنطق وعلم الكلام.
تقوم المقاربة على سبع ثقافات كبرى، ساهمت في إدارة اللعبة الثقافية في القرن الثاني الهجري، وهي العنصر العربي، العنصر الفارسي، العنصر الهندي، العنصر اليوناني، العنصر الإسلامي، العنصر النصراني، العنصر اليهودي.
وحيث أن ما يهمنا هو ما تنتجه مقولة الائتلاف على مستوى تأطير القارئ سنجد في أتون بحثنا الآتي:
ثمة تشابك بين ﻫﺫﻩ ﺍﻟﻤﺴﺘﻭﻴﺎﺕ ﻭﻴﺼﻌﺏ ﺍﻟﻔﺼل بينها وتكاد تؤدي إلى مفهوم واحد، ولا يمكن توظيف كل تلك القدرات والمعالجات إلا في ظل خبرة واسعة ونقل ثقافي متكامل ليتحدد القارئ الجدير بمجاراة نص ما، وإيراد مقولة الائتلاف تفسر عمق الخبرة المطلوبة لدى القارئ في ذلك العصر "القرن الثاني الهجري" وتلاقح الثقافات المطلوب لقراءة أو تلقي نص من نصوص "أبو نواس" على سبيل المثال، فلابد من استيعاب المفاهيم كلها عبر الثقافات في بوتقة فكرية واحدة حتى يتمكن القارئ من إنتاج وعي مواز للنص.
ويؤيد ذلك "ابن ﻁﺒﺎﻁﺒﺎ" ﻓﻲ كتابه "ﻋﻴﺎﺭ ﺍﻟﺸﻌﺭ" ﺇﻟﻰ ﺃﻥ ﺍﻟﻔﻬﻡ ﻟﺩﻯ ﺍﻟﻤﺘﻠﻘﻲ ضرورة حتى يتمكن من ﻓﻬﻡ الإبداع الشعري حين يقول: " ﻭﻋﻴﺎﺭ ﺍﻟﺸﻌﺭ ﺃﻥ يورد ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻔﻬﻡ ﺍﻟﺜﺎﻗﺏ، ﻓﻤﺎ ﻗﺒﻠﻪ ﻭﺍﺼﻁﻔﺎﻩ ﻓﻬﻭ ﻭﺍﻑ، وما مجه ﻭﻨﻔﺎﻩ ﻓﻬﻭ ناقص . ﻭﺍﻟﻌﻠﺔ ﻓﻲ ﻗﺒﻭل ﺍﻟﻔﻬﻡ ﺍﻟﻨﺎﻗﺩ ﻟﻠﺸﻌﺭ ﺍﻟﺤﺴﻥ ﺍﻟﺫﻱ يرد ﻋﻠﻴـﻪ، ونفيه ﻟﻠﻘﺒﻴﺢ ﻤﻨﻪ ..."، فيبدو أنه يشترط ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻤﺘﻠﻘﻲ ﺃﻥ يمتلك ﻋﺩﺓ ﻗﻭﻴﺔ ﻟﻜﻲ يتسنى ﻟﻪ ﺍﻟﻔﻬﻡ ﺍﻟﺜﺎﻗﺏ، ولا يفوتنا حديث "الجرجاني" عن التفاضل بين مستويات القراءة، النابع من إدراكه لمستويات المعرفة التي يتمتع بها كل مستوى، فمن كان حظّه الظاهر قنع به ووقف عنده، ومن كان حظه فضلة فكر وتأمل ورويّة حاور الغامض وخالطه، ونقّب فيه حتى يصل إلى خباياه.
فمن كل ذلك يتضح أثر الائتلاف الثقافي لدى القارئ وفقا للنظريات الحديثة التي لو طبقناها لوجدنا "أبو نواس" مثالا حقيقيا على القارئ الذي أصبح منتجا للنص وبحاجة لقارئ ضمني يستطيع مجاراة نصوصه وخلق وعي مواز لها.
الفصل الثاني:
القارئ
ضمن درس التلقي
في الإنتاج الثقافي الحديث
ظهرت نظرية التأثير والتقبل في ألمانيا في أواسط الستينيات (1966م) في إطار مدرسة كونسطانس وبرلين الشرقية قبل ظهور التفكيكية ومدارس مابعد الحداثة على يدي كل من "فولفغانغ إيزر" و"هانز روبير ياوس" ومنظور هذه النظرية أنها تثور على المناهج الخارجية التي ركزت كثيرا على المرجع الواقعي كالنظرية الماركسية أو الواقعية الجدلية أو المناهج البيوغرافية التي اهتمت كثيرا بالمبدع وحياته وظروفه التاريخية، والمناهج النقدية التقليدية التي كان ينصب اهتمامها على المعنى وتصيده من النص باعتباره جزءا من المعرفة والحقيقة المطلقة، والمناهج البنيوية التي انطوت على النص المغلق وأهملت عنصرا فعالا في عملية التواصل الأدبي ألا وهو القارئ الذي ستهتم به نظرية التلقي والتقبل الألمانية أيما اهتمام.
ترى نظرية التلقي أن أهم شيء في عملية الأدب هي تلك المشاركة الفعالة بين النص الذي ألفه المبدع والقارئ المتلقي. أي أن الفهم الحقيقي للأدب ينطلق من موضعة القارئ في مكانه الحقيقي وإعادة الاعتبار له باعتباره هو المرسل إليه والمستقبل للنص ومستهلكه وهو كذلك القارئ الحقيقي له: تلذذا ونقدا وتفاعلا وحوارا. ويعني هذا أن العمل الأدبي لا تكتمل حياته وحركته الإبداعية إلا عن طريق القراءة وإعادة الإنتاج من جديد؛ لأن المؤلف ماهو إلا قارئ للأعمال السابقة وهذا ما يجعل التناص يلغي بنوة النصوص ومالكيها الأصليين. ويرى "إيزر" أن العمل الأدبي له قطبان: قطب فني وقطب جمالي. فالقطب الفني يكمن في النص الذي يخلقه المؤلف من خلال البناء اللغوي وتسييجه بالدلالات المضمونية قصد تبليغ القارئ بتوجيهات النص المعرفية، أي أن القطب الفني يحمل معنى ودلالة وبناء شكليا، أما القطب الجمالي، فيكمن في عملية القراءة التي تخرج النص من حالته المجردة إلى حالته الملموسة.
ويقوم التأويل بدور مهم في استخلاص صورة المعنى المتخيل عبر سبر أغوار النص واستيعاب دلالاته والبحث عن المعاني الخفية والواضحة عبر ملء البياضات والفراغات للحصول على مقصود النص وتأويله انطلاقا من تجربة القارئ الخيالية والواقعية. ويجعل التأويل من القراءة فعلا حدثيا نسبيا لا يدعي امتلاك الحقيقة المطلقة أو الوحيدة المتعالية عن الزمان والمكان. لأن القراءة تختلف في الزمان والمكان حسب طبيعة القراء ونوعيته، لذلك يرى "أمبرطو إيكو "أن هناك أنماطا من القراءة والقراء في دراساته عن النص المفتوح والنص الغائب:
• نص مفتوح وقراءة مفتوحة.
• نص مفتوح وقراءة مغلقة.
• نص مغلق وقراءة مغلقة.
• نص مغلق وقراءة مفتوحة.
ولايكون العمل الإبداعي إلا من خلال المشاركة التواصلية الفعالة بين المؤلف والنص والجمهور القارئ. ويدل هذا على أن العمل الإبداعي يتكون من عنصرين أساسين: النص الذي قوامه المعنى وهو يشكل أيضا تجربة الكاتب الواقعية والخيالية والقارئ الذي يتقبل آثار النص سواء أكانت إيجابية أم سلبية في شكل استجابات شعورية ونفسية ( ارتياح - غضب - متعة - تهييج - نقد - رضى...) . وهذا يجعل النص الأدبي يرتكز على الملفوظ اللغوي والتأثير الشعوري في شكل ردود تجاه توجيهات النص. وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن العمل الأدبي يتموقع في الوسط بين النص والقراءة من خلال التفاعل الحميمي والوجداني الاتصالي بين الذات والموضوع أي النص والقارئ. ومن ثم، فالعمل الأدبي أكبر من النص وأكبر من القراءة، بل هو ذلك الاتصال التفاعلي بينهما في بوتقة منصهرة واحدة.
إذا كانت المناهج الأخرى تركز على اتجاه واحد في القراءة من النص إلى القارئ فإن منهجية التقبل والقراءة تنطلق من خطين مزدوجين متبادلين: من النص إلى القارئ ومن القارئ إلى النص على غرار القراءة الظاهراتية الفينومينولوجية. ولا يحقق نص المؤلف مقصديته ووظيفته الجمالية إلا من خلال فعل التحقق القرائي وتجسيده عبر عمليات ملء الفراغات والبياضات وتحديد ماهو غير محدد، وإثبات ما هو منفي، والتأرجح بين الإخفاء والكشف على مستوى استخلاص المعاني عن طريق الفهم والتأويل والتطبيق، ولن تكون القراءة مثمرة جادة إلا إذا وجد القارئ الافتراضي الخيالي الذي يعيد بناء النص عن طريق نقده وتأويله انطلاقا من تجربة جمالية وفنية بعيدا عن تصور القارئ المعاصر الواقعي.
والقارئ الضمني: "ليس له وجود في الواقع، وإنما هو قارئ ضمني، يخلق ساعة قراءة العمل الفني الخيالي. ومن ثم، فهو قارئ له قدرات خيالية شأنه شأن النص. وهو لا يرتبط مثله بشكل من أشكال الواقع المحدد، بل يوجه قدراته الخيالية للتحرك مع النص باحثا عن بنائه، ومركز القوى فيه، وتوازنه، وواضعا يده على الفراغات الجدلية فيه فيملؤها باستجابات الإثارة الجمالية التي تحدث له"، ويبدو أن الدراسة الأدبية عند "ياوس": "ليس تحليل النصوص تحليلا هيكلانيا مضمنا بها، وليس هو أيضا استعراض المعارف المتعلقة بالكاتب وبالأثر، وإنما هو التخاطب الأدبي من خلال ما تتسم به الأوضاع التاريخية والاجتماعية والثقافية من خصائص. إن موضوع الدراسة الأدبية هو أن نعرف كيف أجاب الأثر الأدبي على ما لم تجب عليه الآثار السابقة من قضايا، وكيف اتصل بقرائه أو خلقهم خلقا".
هذا، وقد كانت هناك مؤثرات وراء تشكل نظرية التقبل منها النظرية الفنومولوجية أو الفلسفة الظاهراتية التي ظهرت في ألمانيا مع "هوسرل ورومان إنجاردان"، وترتكز هذه الفلسفة على ترابط الفكر والوجود الظاهري للأشياء. وبتعبير آخر، تؤمن هذه الفلسفة بتفاعل الذات والموضوع بطريقة تواصلية من الصعب الفصل بين القطب الذاتي والموضوعي. أما المعنى فإنه يستخلص من خلال التفاعل والتواصل بين هذين الفاعلين. وهذا ينطبق على تفاعل القارئ مع النص تفاعلا تأويليا تحققيا قصد الوصول إلى الدلالة وإعادة بنائها من جديد. وساهمت التأويلية لدى "جادامر" في دراسة الكيفية التي نتعامل بها النصوص عن طريق استنتاج المعنى سواء أكان ظاهرا أم مخفيا عبر عملية الفهم والانتقال من المعنى إلى الدلالة ثم تأويل النصوص وذلك بتفسيرها جماليا وفنيا. وهذا التأويل التفسيري يختلف من سياق تاريخي إلى سياق تاريخي آخر. كما تقوم سوسيولوجية الأدب بدور مهم في استقراء إحصائي للقراءة الجماهيرية وطبيعة القراء والقراءة وكيفية الاتصال. كما أن البنيوية سواء أكانت شكلانية أم لسانية وظيفية أيضا كان لها تأثير في دراسة النص والإشارة إلى عملية القراءة وأنظمة التواصل الجاكبسوني "التركيز على عناصر التواصل الست: المرسل والمرسل إليه والرسالة والقناة والمرجع واللغة" والتركيز على البنيات الشكلية للنص كالإشارة إلى عوامل السرد من كاتب ضمني وقارئ ضمني.
ويرى "إيزر" محددا مؤثرات أخرى لنظريته، بأنه من الشائع الآن أن النظريات تمارس تأثيرا معينا على الساحة الثقافية الألمانية: الماركسية، ونظرية التحليل اللغوي، ونظرية الإعلام، والتأويل، والتحليل النفسي. أما بالنسبة للدراسات الأدبية بوجه خاص، فيبدو أن أبرز هذه الاتجاهات هو التحليل النفسي، وفن التأويل. وفضلا عن ذلك ينبغي أن نذكر نظرية تجريبية في الأدب، اكتسبت شهرة عظيمة في الأعوام الأخيرة؛ هي تسجيل استجابات الناس واستخلاص استدلالات فيما يتعلق بالقانون الاجتماعي الذي يتحكم في اتجاهاتهم.
وقبل التأثير الذي تركته النظريات السالفة الذكر، انتشرت النقدية الجديدة في الدراسات الأدبية الألمانية؛ إذ أثبتت هذه النزعة أنها رد فعل للانتفاع بالنص الأدبي في أغراض شتى، وبخاصة في الأغراض السياسية، في ماضي ألمانيا القريب.
فيما يقول "محمود عباس عبدالواحد": "يبدو من محتوى النظرية، ومن الأجواء العقلية والسياسية التي صاحبت ظهورها في الأدب الألماني أن أساس المشكلة بين المتناظرين ليس فقط في فقدان التأثير المتبادل، بل مصدرها الخلافات المذهبية الحادة بين أطراف الحوار من رواد الرمزية والبنيوية، والجمالية الماركسية، والشكلية الروسية، فالنظرية ، كما عرفنا، كانت تمردا على تلك المذاهب المنتشرة في ألمانيا آنذاك، ولعل اختيار مصطلح "الاستقبال" بالذات كان يمثل لدى أصحابه معنى من معاني التمرد على النقد الماركسي بشكل خاص" . ، وهو ما يجعلنا نُدْرِكُ أن ما يميز نظرية التلقي الألمانية هو أنها تطورت في إطار استراتيجي جماعي، بحيث كانت هناك قاعدة مُوَحَّدَة تجمع الباحثين الذين يشتغلون في دائرتها، وعلى رأسهم "هانْسْ روبرت ياوس"، و"فولْفْ غانغ إيزر".
إن أبرز فكرة جاءت من أجلها نظرية التلقي هي إعطاء القارئ مكانة متميزة ضمن العملية الإبداعية. فالنص ليس ذا قيمة ما لم يُقْرَأ وما لم يكن قابلا لقراءات متعددة، مُسْتَعْصِيا على أن يُسْتَهْلَكَ من قراءة واحدة، وهذا بالذات هو ما حاولت الاتجاهات السابقة على نظرية التلقي تزكيته، إذ كان جهدها ينسحب إلى إبراز القيمة الفنية للنصوص في ذاتها وما تختزله من جمالية دون الالتفات إلى جهد القارئ. فالنص في نظر هؤلاء قائم بذاته مكتمل بما يختزله من مكونات، غير منقوص بقراءة أو مبتور بفهم، وما القارئ إلا مستهلك باحث عما يفترض أنه كائن في هذا النص الذي يكفيه حاجته. غير أن نظرية التلقي ستنحو منحى مخالفا لهذا الإيمان "بعبقرية النص"، ولذلك بدا من الصعب أن يخطر ببال النقد أن النص ليس في وسعه أن يمتلك المعنى إلا عندما يكون قد قُرِئَ.
الفصل الثالث:
القارئ
ضمن درس التلقي
نظرة مقاربة ومقولة ائتلافية .. خلاصة الموضوع
إن ما يهمنا هنا، إضافة إلى قِدَمِ المُفْرَدَة، هو التركيز على الجانب التواصلي والتفاعل النفسي والذهني مع النص، حيث تَرِدُ لفظة التلقي مرادفة أحيانا لمعنى الفهم والفِطنة وهي مسألة لم تَغِبْ عن بعض المُفَسِّرين في الإلماح إليها، ولم تغب كذلك عن أُدبائِنا ورُوَّاد التراث النقدي، فحين نعود إلى نظرية التلقي الألمانية ونستقرئ الكثير من مفاهيمها، خصوصا مفهوم "أفق الانتظار" الذي تقوم عليه نظرية "ياوس" ونربطها بتاريخ الأدب والنقد القديم، نتبين أنها مفاهيم مُمارَسَةٌ ومُسْتَهْلَكَة منذ "أرسطو" الذي أولى اهتماما خاصا للمتلقي/الجمهور. ومشهور حديثه عن التأثير الذي تُخَلِّفُهُ الأشعار لا سيما التراجيديا في المتلقي.
فبتعدد أطراف العملية الإبداعية أخذت بعض هذه النظريات تتجه نحو طرف دون آخر، مركزة كل مجهودها على الاهتمام بجانب من جوانب الظاهرة الأدبية. ونتيجة لذلك ظهرت النظريات النَّصِّيَّة التي تنزع النص من واقعه انتزاعا وتحاول مقاربته بناء على ما يختزله من مكونات تتصل باللغة والأسلوب، وفي مقابلها كانت نظريات أخرى تسعى إلى وضع النص في علاقة حميمة مع السياق التاريخي والاجتماعي والنظر إليه في ظل مناخ فكري معين. وفي كلتا الحالتين كان التفات هذه النظريات إلى المتلقي نادرا ما لم يكن منعدما. غير أن نظرية التلقي جاءت لتعيد للقارئ اعتباره مركزة اهتمامها على دوره في العملية الإبداعية لا سيما في علاقته بالنص، وكأنها بذلك تتجاوز نواقص النظريات السابقة.
ويجب أن يكون القارئ محور نظرية التلقي التي شكلت ثورة في تاريخ الأدب، حين أعادت الاعتبار لهذا العنصر، و بوأته المكانة اللائقة على عرش الاهتمام الذي تناوبه المؤلف والنص من قبل، ذلك أن : " القارئ ضمن الثالوث المتكون من المؤلف و العمل والجمهور، ليس مجرد عنصر سلبي يقتصر دوره على الانفعال بالأدب ، بل يتعداه إلى تنمية طاقة تساهم في صنع التاريخ ".
فمن خلال دراسة أنماط القراء نجد الآتي من جملة القراءات:
1 – القارئ النموذجي الذي استعمله المفكر الأسلوبي "مكاييل ريفاتير" ليحدد في ضوئه مظاهر القراءة الأسلوبية التي تتطلب شخصا متمرسا كل التمرس بنظام لغة الشعر، ومدركا لطبيعة الاختلاف بين هذه اللغة و بين اللغة اليومية .
2 – القارئ الخبير، ويتلخص فعله بالسعي الدائم إلى إخصاب مضامين النصوص التي تعتبر وثائق أفكار وأحاسيس تنقلها اللغة .
3- القارئ المقصود، وهو من توجه إليه النص حين ظهوره المبدئي أي الذات الجماعية التي عاشت الأوضاع التاريخية للمبدع " ثم الذات التي تشكل استمرارا مباشرا للنص، و تقمصا جديدا لفعله، في إطار نوع من التكامل بينهما .
4 – القارئ الضمني، إذ يمثل المقصد الذي يوصله نشاطه التعاوني إلى استخراج ما يفترضه النص و يعدنا به لا ما يقوله النص في حد ذاته، إضافة إلى ملئه الفضاءات الفارغة و ربطه ما يوجد في النص بغيره مما يتناص معه .
و لعل هذا القارئ الأخير شغل مساحة مهمة من فكر منظري التلقي ، لا سيما "إيزر" الذي فصّل في مفهوم هذا القارئ، إذ يرى أنه "مجسد كل الاستعدادات المسبقة الضرورية بالنسبة للعمل الأدبي كي يمارس تأثيره ، و هي استعدادات مسبقة ليست مرسومة من طرف واقع خارجي و تجريبي ، بل من طرف النص ذاته . و بالتالي فالقارئ الضمني كمفهوم ، له جذور متأصلة في بنية النص ؛ إنه تركيب لا يمكن بتاتا مطابقته مع أي قارئ حقيقي".
خلاصة الرأي:
يجب أن نذكر بأمانة متناهية بأن القدامى كانوا يرمون في كثير من النقولات إلى "بناء المعنى" لدى القارئ دون النظر له كمكون رئيسي وإنما كعنصر معلوم بالضرورة فلم يؤطروا المصطلح ولم يهتموا بتشريحه، فيما تجاوزت النظريات الحديثة ذلك وصولا إلى "أفق التوقع" الذي يقصد به نسق الإحالات القابل للتحديد الموضوعي الذي ينتج بالنسبة لأي عمل في اللحظة التاريخية التي ظهر فيها، عن ثلاثة عوامل أساسية: تمرس الجمهور السابق بالجنس الأدبي الذي ينتمي إليه هذا العمل، ثم أشكال وموضوعات أعمال ماضية تفترض معرفتها في العمل، و أخيرا التعارض بين اللغة الشعرية واللغة العملية، بين العالم الخيالي والعالم اليومي.
وحتى أوضح رأيي القائم رغم ما لمقولة الائتلاف من قوة وعمق وتأثير وصحة على مستوى الوعي العربي في تلاقحه مع بقية الثقافات، إلا أن المفكر العربي والناقد العربي القديم لم يكن له أن يحيد عن طريق ارتضته الورقة الأقوى ثقافيا آنذاك وهي ورقة العقيدة المتعاضدة مع ورقة اللغة، فأسلوب التفكير العقدي والشرعي والفقهي قد أوجد مسارا خالصا وخاصا للمفكرين والنقاد، لم يستطيعوا تجاوزه رغم النظريات غير المؤطرة في الاهتمام بالتأويل والضمنية وحمل المعاني، فالناقد آنذاك ليس إلا قارئا وفقا للنظريات الحديثة، والقارئ ما هوإلا مستخدم فعلي للنص ترفده وتوجهه أيديولوجيا معينة، ويقوم بذلك الفعل في مواجهة أيديولوجيات معينة بحسب العصر والمجتمع، وحيث أن الصراع الأيديولوجي لا يمكن أن يكون متكافئا لأن بنية المجتمعات تراتبية في الأصل التاريخي وتمثل الأيديولوجيا السائدة قمة الهرم، فهي بالتالي تسيطر بتصوراتها وانعكاساتها على النص، غير أن ذلك لا ينفي تأثر القارئ وقبوله واستيعابه لمفاهيم الايديولوجيات الأخرى والمكونات الثقافية الفرعية.
وحتى لا نغفل دور المدارس الحديثة في تعزيز القارئ وجعله قطب الرحى بعد أن كان النص قطبا والمبدع القطب الثاني، لنعرج بوضوح على ما يلخصه فكر "عبدالقاهر الجرجاني" حيال القراءة، فهو لا يعكس تطابقا مع النظريات الحديثة بل تتمثل "المقصدية" لديه في شتى صورها بالفهم الإبداعي للنص، ودور القارئ حيال النصوص، وذلك مرده الأيديولوجيا السائدة في عصر "الجرجاني" والموروث الديني والذهاب لقصر وتحجيم التأويل، رغم عدم إمكانية المساس بالدور البارز والمحترم لهذا المنظر والناقد والمفكر الكبير.
وإننا إذ ننتصر في نهاية تقريرنا لرأي وقول فصل في المسألة محل النقاش وهو أن المدارس الحديثة قد تناولت طرف خيط بناء المعاني من عند قدماء النقاد العرب كورقة ثقافية وتطورت على أيديهم للخروج بنظريات ومدارس فكرية جعلت من القارئ قطب الرحى في دراسة العملية الإبداعية عوضا عن فهم المعاني وإدراكها، فإننا نقتبس من دراسة "مرقاة النص" للدكتور "عبدالقادر فيدوح" والتي أوردها في كتابه "إراءة التأويل ومدارج معنى الشعر" ، فقرات تعطي صورة واضحة وتعضد رأيي النهائي في هذا التقرير، حيث يقول الأستاذ الباحث: " كل حياة تتجاذبها صفتا الصيرورة ، مما كان ، والسيرورة ، مما يكون ، وفق نظام أسرار الكون، ويجعلها قابلة لكل ما هو جديد بتجديد نفسها على الدوام . ولعل موقع الإنسان متحركا بين عرشي الصيرورة والسيرورة ، بين التطور والتطوير، للقيام بدور ما، سلبا أو إيجابا ، وفي هذا استجابة لقوى الطبيعة في توازنها الإرادي وغير الإرادي ، سواء وفق قانون العلة والمعلول ، أم وفق قانون الوعي واللاوعي. من هنا جاء البناء الذهني للواعية العربية على سبيل الامتثال لقوى الطبيعة في مظاهرها الكونية ، فتفاعل معها المبدع بوجه عام، ضمن سياق هذه السنن الكونية، وبدافع إفرازات المعنى الباطن، وذلك لانعكاس التناظر الموجود في تعددية الأنماط والأشكال ، والظواهر الطبيعية ، والفكرية ، والسلوكية. وهذا ما تؤكده الدراسات المعرفية من أن فصل الإنسان عن محيط الطبيعة محال ، على اعتبار أن الإنسان على مر الأزمنة، وسيظل ، صورة نموذجية للبيئة.
والحاصل أن استجابة الإنسان إلى النسق الطبيعي ، للبيئة في محيطها الكوني ، هو انعكاس للانفتاح على التجديد ، وما دام الأمر كذلك فالنتائج غير نهائية ، وعدم نهائيتها يعني الاستمرار في الكشف ، والكشف أسمى عناصر البحث المنفتح على التجديد ، وفي اعتقادي لن يكون ذلك كذلك إلا بما تستوجبه الذات لنفسها ، وبإرادتها ، وانكبابها على تطوير قدراتها على النحو الذي أثبته قدماؤنا بعد تحولهم من مرحلة تاريخية إلى أخرى، فأنتجوا حضارة قبل أن يدخلها الزيف.
ولقد نظر دارسونا ونقادنا القدامى إلى الآلية الإبداعية بما هو حاصل في المرجعية الثقافية في الصورة المتجلية ، وبما هو ناتج من اللاوعي في الصورة الخفية، والإنسان العربي القديم في هذه الحال موزع ذهنيا بين صورتي الخفاء والتجلي، وبين واقع حال مشترك الوجود اللفظي المقنن، وسمتِ النظام الفكري الموروث ، من كلام موزون مقفى في المنظور العقلي، وبين الوجود العياني المتكرر معه يوميا وما يفرضه نظام الطبيعة الكونية، لذلك ركز قدماؤنا كل اهتمامهم حول موضوع الدلالة والاستدلال لتوضيح فكرة المجاز ؛ الأمر الذي شجع القدامى على تناول هذه الفكرة بعمق ، ولعل هذا سبب تأليف أبي عبيدة " مجاز القرآن "من حيث إنه سعى إلى شرح النص القرآني باستدعاء الأنحاء التي انتحاها العرب في للتأكيد على أن القرآن إنما جرى على سمتهم ، وللبرهنة على أن أصل منشأ النسق الثقافي العربي مجاز . وهذا مشهد آخر للتفاعل مع الثنائية في التعبير عند تقسيم الكلام إلى حقيقة ومجاز الذي استنكره ابن تيمية فيما بعد.
لقد كان لقناعة قدمائنا الفكرية ، ومنطلقاتهم المذهبية ، دور كبير في شحذ قريحتهم بدافع الحاجة إلى محاولة تعزيز موقفهم والانتصار على خصومهم ومخالفيهم من هذا المذهب أو ذاك، خدمة لتوصيل ما يتناسب وطبيعة تصور كل مذهب، لفهم الشرع، ووحدة النص الإلهي في جميع مراميه، بما في ذلك النسق الدلالي.
لقد كرست البلاغة العربية جهدها لفهم النص القرآني ، مما أدى إلى التسليم بإعجازه، بوصفه لامتناهيا بفعل مشيئته في كل زمان ومكان . لذا ،كان حرص العرب على دراسة البلاغة في غاية الأهمية بغرض إمكانية توفير الإقناع ، وبوصفها الأداة الإفهامية لمحاربة أهل البدعة والباطل في فهم النص الشرعي ، واستخراج الاستنباطات السريعة الحكم ، وفي هذا جاء قول أبي هلال العسكري :" إن أحق العلوم بالتعلم وأولاها بالتحفظ بعد معرفة الله جل ثناؤه علم البلاغة ، ومعرفة الفصاحة، الذي به يعرف إعجاز كتاب الله تعالى ، الناطق بالحق ، الهادي إلى سبيل الرشد ، والمدلول به على صدق الرسالة ، وصحة النبوة" .
ولعل الاهتمام بالبلاغة لم يكن له الدور الفعال إلا عندما تبلورت إشكالاتها على مستوى تحديد الخطاب البياني ، فانقسم المهتمون بذلك إلى فريقين: أحدهما عني بتفاصيل الخطاب وتفسيره ، أما الثاني فاهتم بكيفية إنتاج الخطاب المبين ، وكان أبرزهم المعتزلة الذين كان لهم فضل السبق في بلورة معالم المصطلح البلاغي بوصفه سياقا إجرائيا لصحة مزاعمهم التي كانت تتعارض مع صحة مزاعم خصومهم ؛ الأمر الذي مكن كل فريق من ضبط استدلالاته تحت سقف البلاغة بكل تفاصيلها من ضوابط وأنواع .
إن كثرة التيارات والمذاهب ، على أساس ما تحتويه من تعصب ، وانغماس بعضها في حمأة الكذب والتزوير كانت تشجع على تفسير القرآن بما تراه يتلاءم مع أغراضها وتأييد مذهبها بتأويلات تعسفية ، وقد ترك ذلك أثرا سيئا ، جر على الأمة كثيرا من البلاء، وهل كان باستطاعة البلاغيين مثلا أن ينظروا إلى المسائل الشرعية بمعزل عن النسق الثقافي الإسلامي آنذاك؟ . وهل كان باستطاعتهم أن يتجنبوا ما كان يدور من جدل بين المتكلمين فيما بينهم ، وبين المتكلمين والفلاسفة ، وبين هؤلاء واللغويين؟ . لا أحد يشك في أن لهذه الثقافة السائدة المصبوغة بالجدل الفكري الدور الأساس في تعزيز مكانة المعارف والعلوم، والمقاصد الشرعية بالتيارات الفكرية ، وخير مثال على ذلك تأثر علماء اللغة بالعلل والقياس ، وتأثر علماء الأصول بالمنطق الأرسطي بخاصة مع إمام الحرمين الجويني وتلميذه الغزالي رغبة في الوصول إلى اليقين والمصداقية" ..
ومن موضع آخر من ذات الدراسة يقول الأستاذ المؤلف: "وبقدر ما بقيت الثقافة العربية ضمن منظومة " نموذج النسق " السائد بقيت القصيدة العربية معلقة ، تكرس الحقل المعرفي للغة ، وفي هذه الحال اقتضت الحاجة إلى إمكانية التعاطي مع متغيرات الشأن [ الوضع ] الاجتماعي بعد التغيرات التي أفرزتها الحرب العالمية الثانية ، هذا المجتمع الذي أصبح مضطربا ، متسرعا في التكيف مع معايير حضارة القرن العشرين القائمة على دعائم : الاختصار / الاختزال / السرعة / القلق / الاختلاف / اللاتمحور / اللاتحديد / اللامبالاة/ على جميع الأصعدة مما أدى إلى صعوبة تمثّلها إلا ممن حاول التمكن من الانسجام والقدرة على تقبل الظاهرة من الجيل الجديد ، وهؤلاء قلة حاولوا أن يجسدوا دواعي المؤثرات الثقافية ضمن ميادين اهتماماتها المتميزة بالتركيز على " مبدأ الذاتية ".".
المصادر:
1- إراءة التأويل ومدارج معنى الشعر/ د.عبدالقادر فيدوح/ دار صفحات للدراسات والنشر 2009م.
2- القراءة وتوليد الدلالة/ د.حميد لحمداني/ المركز الثقافي العربي 2003م.
3- من فلسفات التأويل إلى نظريات القراءة/ د.عبدالكريم شرفي/ الدار العربية للعلوم 2007م.
4- مجلة العلوم الإنسانية العدد (5) شتاء 2002/ بحث إنتاج المعرفة بين الأصالة والحداثة/ د.عبدالكريم حسن.
5- موقع الأستاذ الدكتور عبدالقادر فيدوح (ناقد وأديب ومفكر جزائري)/ دراسات نقدية وفكرية وفلسفية / رابط الدخول:
http://www.fidouh.com
6- موقع الشهاب (موقع أدبي)/ رابط الدخول:
http://www.chihab.net/modules.php?name=News&file=article&sid=2204
7- مجلة أفق الالكترونية (مجلة تعنى باللغة وآدابها)/ د.جميل حمداوي/ رابط الدخول:
http://ofouq.com/today/modules.php?name=News&file=article&sid=3210
8- شبكة إيلاف/ محمد عدناني/ رابط الدخول:
http://www.elaphblog.com/posts.aspx?u=3762&A=46507
9- الجمعية الدولة للغويين والمترجمين العرب/ رابط الدخول:
http://www.wata.cc/forums/showthread.php?46269-%D9%86%D8%B8%D8%B1%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D9%84%D9%82%D9%8A
10- موقع باب (موقع علمي أدبي)/ رابط الدخول:
http://www.bab.com/articles/full_article.cfm?id=4669
خالص المودة
ﻭﻜﺎﻥ ﺍﻟﻤﻌﺘﺯﻟﺔ يقفون موقفا معتدلا، ﺇﺫ يقرؤون ﻤﺎ ﻟﺩﻯ الأجانب من مقاييس بلاغية ويقرنونه ﺇﻟﻰ أنظار ﺍﻟﻌﺭﺏ ﻓﻲ ﺍﻟﺒﻼﻏﺔ.
وليس لنا بد من التعريج على موقف الشاعر الشهير "أبوتمام" ﻋﻨﺩﻤﺎ سئل من طرف رجلين ﻟﻬﻤﺎ دراية كبيرة بالشعر " ﻗﺎﻻ ﻟﻪ: ﻟﻤﺎ تقول ما لا يفهم؟ ﻓﻘﺎل ﻟﻬﻤﺎ. ﻟﻤﺎ ﻻ تفهمان ما يقال؟ " ﻟﻘﺩ جاء جواب الشاعر مفحما لهذين الخبيرين، ﻭﺘﺤﻭﻟﺕ ﻫﺫﻩ ﺍﻟﻌﺒﺎﺭﺓ ﺇﻟﻰ مقولة نقدية معروفة في تراثنا القديم، وقد ﺃﻭﺭﺩﻫﺎ "الآمدي" ﻓﻲ كتابه الموازنة ﻟﻠﺘﺩﻟﻴل ﻋﻠﻰ ﻗﻭﺓ ﺍﻟﺒﺼﻴﺭﺓ ﻭﺍﻟﺤﺱ ﺍﻟﻨﻘﺩﻱ ﺍﻟﻘﻭﻱ ﻋﻨﺩ ﺍﻟﺸﺎﻋﺭ، ﻭﻫﻲ تعكس الجدل الذي كان قائما بين ﺍﻟﻨﻘﺎﺩ وﻫﻭ معرفة المعاني ﻓﻲ ﺍﻟﻨﺹ ﺍﻟﺸﻌﺭﻱ. ﻭﺍﻟﻔﻜﺭﺓ الرئيسية ﻓﻲ ﻫﺫﺍ ﺍﻟﻤﺠﺎل ﻫﻭ "ﺍﻟﻤﺘﻠﻘﻲ".
وقد وجدنا العديد من المقاربات الفكرية التي تبين أن القدامى تطرقوا وعالجوا موضوع التلقي الإبداعي كدراسة غير مؤطرة للتلقي لدى القارئ وأنماطه، سنحاول عرض ما تيسر منها من خلال الموضوع القادم الذي جعلناه في ثلاثة فصول، الأول لعرض جزء يسير من الموروث الثقافي العربي في التلقي والثاني لعرض الفكر الحديث وتأطيره للتلقي، أما الثالث فهو يمثل الخلاصة التي ينتصر فيها الفكر بمقولة الائتلاف الثقافي وبه خلاصة رأي الكاتب الفقير غلى الله، وهل جاء القدماء العرب على القارئ كثورة علمية غير مؤطرة أم قد عدتهم عن ذلك أوراق ثقافية لازمت المرحلة التاريخية رغم الائتلاف والتلاقح الثقافي آنذاك.
الفصل الأول:
القارئ
ضمن درس التلقي
في الموروث الثقافي العربي
يقول "أحمد أمين" صاحب كتابي "فجر الإسلام وضحى الإسلام": "ﻫﺫﻩ ﺍﻟﺜﻘﺎﻓﺎﺕ ﺍﻟﺘﻲ ذكرنا من فارسية ويونانية وعربية. ومن يهودية ونصرانية وإسلامية. ﺍﻟﺘﻘﺕ كلها ﻓﻲ ﺍﻟﻌﺭﺍﻕ ﻓﻲ عصرنا الذي نؤرخه..." .
ولسنا نغفل هاهنا بحثا يؤسس مقولة الائتلاف الثقافي لأستاذ النقد الحديث بجامعة البحرين الدكتور "عبدالكريم حسن" وسم بعنوان إنتاج المعرفة بين الأصالة والحداثة، وقد تناولناه بالشرح في موضوع سابق ملخصه كالآتي:
يقوم بحث إنتاج المعرفة بين الأصالة والحداثة على تطوير مقولة التقدم الثقافي من منظور بنيوي هو الائتلاف بين الثقافات. ولما كان نموذج هذا الائتلاف من وجهة نظر كلود ليفي ستروس هو لعبة الورق، فقد اتجه البحث الذي نشر في مجلة العلوم الإنسانية العدد (5) شتاء 2002 لتقرير توضيح هذه اللعبة، وتجسيدها في إطار فترة محددة من فترات التاريخ الثقافي العربي، وفي ضوء ظاهرة ثقافية محددة هي شعر "أبو نواس" في اتجاهي الخمر والغزل.
وعبر كل ذلك فقد وضع الأستاذ الباحث مقولتي الحداثة والأصالة موضع النظر من جديد، وحاول تجاوزهما إلى مقولة ثالثة هي مقولة الائتلاف الثقافي.
وهو في سعيه يرى بأنه قد آن للثقافة العربية أن تخرج من أسر الجدل العقيم بين الأصالة والحداثة، وأن ترى العالم بمنظور جديد.
حيث يرى كلود ليفي ستروس بأن "كل تقدم ثقافي رهن بائتلاف بين الثقافات"، ويستعين بنموذج لعبة الورق لتوضيح مفهوم الائتلاف، فهو كمن يرى بأن الائتلاف هو وضع الفرص التي تعثر عليها كل ثقافة عبر تطورها التاريخي في متناول الجميع، وليس مهما أن يكون هذا الوضع بوعي أو بغير وعي، إراديا أو من دون إرادة، قصديا أو عرضيا، بنشدان أو بإكراه.
ويورد ليفي ستروس مفهوم "الشرط المتناقض"، فمن جهة يجب أن تقوم اللعبة على أساس الاختلاف ومن جهة أخرى يجب أن تكون الأوراق مشتركة بين اللاعبين للوصول إلى حد من التجانس.
ويرى ليفي ستروس أن الحل للخروج من أسر التجانس يكمن في إدخال عاملين جديدين:
الأول هو عامل "الأبعاد الفرقية"، وهوعامل داخلي يعود إلى طبيعة الحضارة، ضاربا المثل بالتفاوتات الاجتماعية التي لعبتها الحضارة الأوروبية إبان الثورة الصناعية، فالثورة الصناعية انتهت إلى أشكال جديدة أبعد مدى في استغلال العمل البشري.
وأما العامل الثاني فمشروط بسابقه إلى حد كبير، فهو إدخال لاعبين جدد راضين أو مكرهين إلى اللعبة، وهؤلاء اللاعبون خارجيون تختلف أوراقهم كثيرا عن الأوراق التي تميز ائتلاف المجموعة الأولى ضاربا البيان بأن التوسع الاستعماري لأوروبا الصناعية في القرن التاسع عشر سمح لها بتجديد اندفاعتها، مما أنقذها من خطر التجانس ومن ثم الركود.
وهكذا تبدو البشرية مأخوذة بهاتين العمليتين المتناقضتين فمن الميل إلى التوحيد من جهة، والميل إلى التنوع من جهة أخرى، لا يمكن القول بأن العمليتين تمثلان تشييد البناء ومعول الهدم، وإنما هما طريقتان مختلفتان للبناء.
لوتمعنا في تاريخ ثقافتنا العربية في هدي هذا النموذج البنيوي لوجدنا أن اللحظات التي اختلطت فيها الأوراق العربية بالأوراق القادمة من الأمم الأخرى هي اللحظات الأكثر غنى وامتلاء، وهي لحظات تجسد مفهوم التقدم إلى ذروته، فلو نظرنا إلى الثقافات العربية والفارسية واليونانية والهندية لوجدنا العرب قد قدموا ورقتين هما اللغة والعقيدة.
بينما لم يكن الآخر خالي الوفاض فقد جاء رغم ضعفه وانهزامه حاملا أوراقه الثقافية ملزما بصقلها وتهذيبها ليفرض نفسه على المنتصر.
فقد أدرك العرب الأكثر غنى والأشد قوة أيام الأمويين والعباسيين والأندلسيين أن الغنى والقوة غير كافيين للمحافظة على الذات، وأن أوراق الفرس والهنود والنصارى واليونانيين أوراق جديرة بالمواجهة، فنشأت لديهم ضرورة التسلح بالفلسفة والمنطق وعلم الكلام.
تقوم المقاربة على سبع ثقافات كبرى، ساهمت في إدارة اللعبة الثقافية في القرن الثاني الهجري، وهي العنصر العربي، العنصر الفارسي، العنصر الهندي، العنصر اليوناني، العنصر الإسلامي، العنصر النصراني، العنصر اليهودي.
وحيث أن ما يهمنا هو ما تنتجه مقولة الائتلاف على مستوى تأطير القارئ سنجد في أتون بحثنا الآتي:
ثمة تشابك بين ﻫﺫﻩ ﺍﻟﻤﺴﺘﻭﻴﺎﺕ ﻭﻴﺼﻌﺏ ﺍﻟﻔﺼل بينها وتكاد تؤدي إلى مفهوم واحد، ولا يمكن توظيف كل تلك القدرات والمعالجات إلا في ظل خبرة واسعة ونقل ثقافي متكامل ليتحدد القارئ الجدير بمجاراة نص ما، وإيراد مقولة الائتلاف تفسر عمق الخبرة المطلوبة لدى القارئ في ذلك العصر "القرن الثاني الهجري" وتلاقح الثقافات المطلوب لقراءة أو تلقي نص من نصوص "أبو نواس" على سبيل المثال، فلابد من استيعاب المفاهيم كلها عبر الثقافات في بوتقة فكرية واحدة حتى يتمكن القارئ من إنتاج وعي مواز للنص.
ويؤيد ذلك "ابن ﻁﺒﺎﻁﺒﺎ" ﻓﻲ كتابه "ﻋﻴﺎﺭ ﺍﻟﺸﻌﺭ" ﺇﻟﻰ ﺃﻥ ﺍﻟﻔﻬﻡ ﻟﺩﻯ ﺍﻟﻤﺘﻠﻘﻲ ضرورة حتى يتمكن من ﻓﻬﻡ الإبداع الشعري حين يقول: " ﻭﻋﻴﺎﺭ ﺍﻟﺸﻌﺭ ﺃﻥ يورد ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻔﻬﻡ ﺍﻟﺜﺎﻗﺏ، ﻓﻤﺎ ﻗﺒﻠﻪ ﻭﺍﺼﻁﻔﺎﻩ ﻓﻬﻭ ﻭﺍﻑ، وما مجه ﻭﻨﻔﺎﻩ ﻓﻬﻭ ناقص . ﻭﺍﻟﻌﻠﺔ ﻓﻲ ﻗﺒﻭل ﺍﻟﻔﻬﻡ ﺍﻟﻨﺎﻗﺩ ﻟﻠﺸﻌﺭ ﺍﻟﺤﺴﻥ ﺍﻟﺫﻱ يرد ﻋﻠﻴـﻪ، ونفيه ﻟﻠﻘﺒﻴﺢ ﻤﻨﻪ ..."، فيبدو أنه يشترط ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻤﺘﻠﻘﻲ ﺃﻥ يمتلك ﻋﺩﺓ ﻗﻭﻴﺔ ﻟﻜﻲ يتسنى ﻟﻪ ﺍﻟﻔﻬﻡ ﺍﻟﺜﺎﻗﺏ، ولا يفوتنا حديث "الجرجاني" عن التفاضل بين مستويات القراءة، النابع من إدراكه لمستويات المعرفة التي يتمتع بها كل مستوى، فمن كان حظّه الظاهر قنع به ووقف عنده، ومن كان حظه فضلة فكر وتأمل ورويّة حاور الغامض وخالطه، ونقّب فيه حتى يصل إلى خباياه.
فمن كل ذلك يتضح أثر الائتلاف الثقافي لدى القارئ وفقا للنظريات الحديثة التي لو طبقناها لوجدنا "أبو نواس" مثالا حقيقيا على القارئ الذي أصبح منتجا للنص وبحاجة لقارئ ضمني يستطيع مجاراة نصوصه وخلق وعي مواز لها.
الفصل الثاني:
القارئ
ضمن درس التلقي
في الإنتاج الثقافي الحديث
ظهرت نظرية التأثير والتقبل في ألمانيا في أواسط الستينيات (1966م) في إطار مدرسة كونسطانس وبرلين الشرقية قبل ظهور التفكيكية ومدارس مابعد الحداثة على يدي كل من "فولفغانغ إيزر" و"هانز روبير ياوس" ومنظور هذه النظرية أنها تثور على المناهج الخارجية التي ركزت كثيرا على المرجع الواقعي كالنظرية الماركسية أو الواقعية الجدلية أو المناهج البيوغرافية التي اهتمت كثيرا بالمبدع وحياته وظروفه التاريخية، والمناهج النقدية التقليدية التي كان ينصب اهتمامها على المعنى وتصيده من النص باعتباره جزءا من المعرفة والحقيقة المطلقة، والمناهج البنيوية التي انطوت على النص المغلق وأهملت عنصرا فعالا في عملية التواصل الأدبي ألا وهو القارئ الذي ستهتم به نظرية التلقي والتقبل الألمانية أيما اهتمام.
ترى نظرية التلقي أن أهم شيء في عملية الأدب هي تلك المشاركة الفعالة بين النص الذي ألفه المبدع والقارئ المتلقي. أي أن الفهم الحقيقي للأدب ينطلق من موضعة القارئ في مكانه الحقيقي وإعادة الاعتبار له باعتباره هو المرسل إليه والمستقبل للنص ومستهلكه وهو كذلك القارئ الحقيقي له: تلذذا ونقدا وتفاعلا وحوارا. ويعني هذا أن العمل الأدبي لا تكتمل حياته وحركته الإبداعية إلا عن طريق القراءة وإعادة الإنتاج من جديد؛ لأن المؤلف ماهو إلا قارئ للأعمال السابقة وهذا ما يجعل التناص يلغي بنوة النصوص ومالكيها الأصليين. ويرى "إيزر" أن العمل الأدبي له قطبان: قطب فني وقطب جمالي. فالقطب الفني يكمن في النص الذي يخلقه المؤلف من خلال البناء اللغوي وتسييجه بالدلالات المضمونية قصد تبليغ القارئ بتوجيهات النص المعرفية، أي أن القطب الفني يحمل معنى ودلالة وبناء شكليا، أما القطب الجمالي، فيكمن في عملية القراءة التي تخرج النص من حالته المجردة إلى حالته الملموسة.
ويقوم التأويل بدور مهم في استخلاص صورة المعنى المتخيل عبر سبر أغوار النص واستيعاب دلالاته والبحث عن المعاني الخفية والواضحة عبر ملء البياضات والفراغات للحصول على مقصود النص وتأويله انطلاقا من تجربة القارئ الخيالية والواقعية. ويجعل التأويل من القراءة فعلا حدثيا نسبيا لا يدعي امتلاك الحقيقة المطلقة أو الوحيدة المتعالية عن الزمان والمكان. لأن القراءة تختلف في الزمان والمكان حسب طبيعة القراء ونوعيته، لذلك يرى "أمبرطو إيكو "أن هناك أنماطا من القراءة والقراء في دراساته عن النص المفتوح والنص الغائب:
• نص مفتوح وقراءة مفتوحة.
• نص مفتوح وقراءة مغلقة.
• نص مغلق وقراءة مغلقة.
• نص مغلق وقراءة مفتوحة.
ولايكون العمل الإبداعي إلا من خلال المشاركة التواصلية الفعالة بين المؤلف والنص والجمهور القارئ. ويدل هذا على أن العمل الإبداعي يتكون من عنصرين أساسين: النص الذي قوامه المعنى وهو يشكل أيضا تجربة الكاتب الواقعية والخيالية والقارئ الذي يتقبل آثار النص سواء أكانت إيجابية أم سلبية في شكل استجابات شعورية ونفسية ( ارتياح - غضب - متعة - تهييج - نقد - رضى...) . وهذا يجعل النص الأدبي يرتكز على الملفوظ اللغوي والتأثير الشعوري في شكل ردود تجاه توجيهات النص. وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن العمل الأدبي يتموقع في الوسط بين النص والقراءة من خلال التفاعل الحميمي والوجداني الاتصالي بين الذات والموضوع أي النص والقارئ. ومن ثم، فالعمل الأدبي أكبر من النص وأكبر من القراءة، بل هو ذلك الاتصال التفاعلي بينهما في بوتقة منصهرة واحدة.
إذا كانت المناهج الأخرى تركز على اتجاه واحد في القراءة من النص إلى القارئ فإن منهجية التقبل والقراءة تنطلق من خطين مزدوجين متبادلين: من النص إلى القارئ ومن القارئ إلى النص على غرار القراءة الظاهراتية الفينومينولوجية. ولا يحقق نص المؤلف مقصديته ووظيفته الجمالية إلا من خلال فعل التحقق القرائي وتجسيده عبر عمليات ملء الفراغات والبياضات وتحديد ماهو غير محدد، وإثبات ما هو منفي، والتأرجح بين الإخفاء والكشف على مستوى استخلاص المعاني عن طريق الفهم والتأويل والتطبيق، ولن تكون القراءة مثمرة جادة إلا إذا وجد القارئ الافتراضي الخيالي الذي يعيد بناء النص عن طريق نقده وتأويله انطلاقا من تجربة جمالية وفنية بعيدا عن تصور القارئ المعاصر الواقعي.
والقارئ الضمني: "ليس له وجود في الواقع، وإنما هو قارئ ضمني، يخلق ساعة قراءة العمل الفني الخيالي. ومن ثم، فهو قارئ له قدرات خيالية شأنه شأن النص. وهو لا يرتبط مثله بشكل من أشكال الواقع المحدد، بل يوجه قدراته الخيالية للتحرك مع النص باحثا عن بنائه، ومركز القوى فيه، وتوازنه، وواضعا يده على الفراغات الجدلية فيه فيملؤها باستجابات الإثارة الجمالية التي تحدث له"، ويبدو أن الدراسة الأدبية عند "ياوس": "ليس تحليل النصوص تحليلا هيكلانيا مضمنا بها، وليس هو أيضا استعراض المعارف المتعلقة بالكاتب وبالأثر، وإنما هو التخاطب الأدبي من خلال ما تتسم به الأوضاع التاريخية والاجتماعية والثقافية من خصائص. إن موضوع الدراسة الأدبية هو أن نعرف كيف أجاب الأثر الأدبي على ما لم تجب عليه الآثار السابقة من قضايا، وكيف اتصل بقرائه أو خلقهم خلقا".
هذا، وقد كانت هناك مؤثرات وراء تشكل نظرية التقبل منها النظرية الفنومولوجية أو الفلسفة الظاهراتية التي ظهرت في ألمانيا مع "هوسرل ورومان إنجاردان"، وترتكز هذه الفلسفة على ترابط الفكر والوجود الظاهري للأشياء. وبتعبير آخر، تؤمن هذه الفلسفة بتفاعل الذات والموضوع بطريقة تواصلية من الصعب الفصل بين القطب الذاتي والموضوعي. أما المعنى فإنه يستخلص من خلال التفاعل والتواصل بين هذين الفاعلين. وهذا ينطبق على تفاعل القارئ مع النص تفاعلا تأويليا تحققيا قصد الوصول إلى الدلالة وإعادة بنائها من جديد. وساهمت التأويلية لدى "جادامر" في دراسة الكيفية التي نتعامل بها النصوص عن طريق استنتاج المعنى سواء أكان ظاهرا أم مخفيا عبر عملية الفهم والانتقال من المعنى إلى الدلالة ثم تأويل النصوص وذلك بتفسيرها جماليا وفنيا. وهذا التأويل التفسيري يختلف من سياق تاريخي إلى سياق تاريخي آخر. كما تقوم سوسيولوجية الأدب بدور مهم في استقراء إحصائي للقراءة الجماهيرية وطبيعة القراء والقراءة وكيفية الاتصال. كما أن البنيوية سواء أكانت شكلانية أم لسانية وظيفية أيضا كان لها تأثير في دراسة النص والإشارة إلى عملية القراءة وأنظمة التواصل الجاكبسوني "التركيز على عناصر التواصل الست: المرسل والمرسل إليه والرسالة والقناة والمرجع واللغة" والتركيز على البنيات الشكلية للنص كالإشارة إلى عوامل السرد من كاتب ضمني وقارئ ضمني.
ويرى "إيزر" محددا مؤثرات أخرى لنظريته، بأنه من الشائع الآن أن النظريات تمارس تأثيرا معينا على الساحة الثقافية الألمانية: الماركسية، ونظرية التحليل اللغوي، ونظرية الإعلام، والتأويل، والتحليل النفسي. أما بالنسبة للدراسات الأدبية بوجه خاص، فيبدو أن أبرز هذه الاتجاهات هو التحليل النفسي، وفن التأويل. وفضلا عن ذلك ينبغي أن نذكر نظرية تجريبية في الأدب، اكتسبت شهرة عظيمة في الأعوام الأخيرة؛ هي تسجيل استجابات الناس واستخلاص استدلالات فيما يتعلق بالقانون الاجتماعي الذي يتحكم في اتجاهاتهم.
وقبل التأثير الذي تركته النظريات السالفة الذكر، انتشرت النقدية الجديدة في الدراسات الأدبية الألمانية؛ إذ أثبتت هذه النزعة أنها رد فعل للانتفاع بالنص الأدبي في أغراض شتى، وبخاصة في الأغراض السياسية، في ماضي ألمانيا القريب.
فيما يقول "محمود عباس عبدالواحد": "يبدو من محتوى النظرية، ومن الأجواء العقلية والسياسية التي صاحبت ظهورها في الأدب الألماني أن أساس المشكلة بين المتناظرين ليس فقط في فقدان التأثير المتبادل، بل مصدرها الخلافات المذهبية الحادة بين أطراف الحوار من رواد الرمزية والبنيوية، والجمالية الماركسية، والشكلية الروسية، فالنظرية ، كما عرفنا، كانت تمردا على تلك المذاهب المنتشرة في ألمانيا آنذاك، ولعل اختيار مصطلح "الاستقبال" بالذات كان يمثل لدى أصحابه معنى من معاني التمرد على النقد الماركسي بشكل خاص" . ، وهو ما يجعلنا نُدْرِكُ أن ما يميز نظرية التلقي الألمانية هو أنها تطورت في إطار استراتيجي جماعي، بحيث كانت هناك قاعدة مُوَحَّدَة تجمع الباحثين الذين يشتغلون في دائرتها، وعلى رأسهم "هانْسْ روبرت ياوس"، و"فولْفْ غانغ إيزر".
إن أبرز فكرة جاءت من أجلها نظرية التلقي هي إعطاء القارئ مكانة متميزة ضمن العملية الإبداعية. فالنص ليس ذا قيمة ما لم يُقْرَأ وما لم يكن قابلا لقراءات متعددة، مُسْتَعْصِيا على أن يُسْتَهْلَكَ من قراءة واحدة، وهذا بالذات هو ما حاولت الاتجاهات السابقة على نظرية التلقي تزكيته، إذ كان جهدها ينسحب إلى إبراز القيمة الفنية للنصوص في ذاتها وما تختزله من جمالية دون الالتفات إلى جهد القارئ. فالنص في نظر هؤلاء قائم بذاته مكتمل بما يختزله من مكونات، غير منقوص بقراءة أو مبتور بفهم، وما القارئ إلا مستهلك باحث عما يفترض أنه كائن في هذا النص الذي يكفيه حاجته. غير أن نظرية التلقي ستنحو منحى مخالفا لهذا الإيمان "بعبقرية النص"، ولذلك بدا من الصعب أن يخطر ببال النقد أن النص ليس في وسعه أن يمتلك المعنى إلا عندما يكون قد قُرِئَ.
الفصل الثالث:
القارئ
ضمن درس التلقي
نظرة مقاربة ومقولة ائتلافية .. خلاصة الموضوع
إن ما يهمنا هنا، إضافة إلى قِدَمِ المُفْرَدَة، هو التركيز على الجانب التواصلي والتفاعل النفسي والذهني مع النص، حيث تَرِدُ لفظة التلقي مرادفة أحيانا لمعنى الفهم والفِطنة وهي مسألة لم تَغِبْ عن بعض المُفَسِّرين في الإلماح إليها، ولم تغب كذلك عن أُدبائِنا ورُوَّاد التراث النقدي، فحين نعود إلى نظرية التلقي الألمانية ونستقرئ الكثير من مفاهيمها، خصوصا مفهوم "أفق الانتظار" الذي تقوم عليه نظرية "ياوس" ونربطها بتاريخ الأدب والنقد القديم، نتبين أنها مفاهيم مُمارَسَةٌ ومُسْتَهْلَكَة منذ "أرسطو" الذي أولى اهتماما خاصا للمتلقي/الجمهور. ومشهور حديثه عن التأثير الذي تُخَلِّفُهُ الأشعار لا سيما التراجيديا في المتلقي.
فبتعدد أطراف العملية الإبداعية أخذت بعض هذه النظريات تتجه نحو طرف دون آخر، مركزة كل مجهودها على الاهتمام بجانب من جوانب الظاهرة الأدبية. ونتيجة لذلك ظهرت النظريات النَّصِّيَّة التي تنزع النص من واقعه انتزاعا وتحاول مقاربته بناء على ما يختزله من مكونات تتصل باللغة والأسلوب، وفي مقابلها كانت نظريات أخرى تسعى إلى وضع النص في علاقة حميمة مع السياق التاريخي والاجتماعي والنظر إليه في ظل مناخ فكري معين. وفي كلتا الحالتين كان التفات هذه النظريات إلى المتلقي نادرا ما لم يكن منعدما. غير أن نظرية التلقي جاءت لتعيد للقارئ اعتباره مركزة اهتمامها على دوره في العملية الإبداعية لا سيما في علاقته بالنص، وكأنها بذلك تتجاوز نواقص النظريات السابقة.
ويجب أن يكون القارئ محور نظرية التلقي التي شكلت ثورة في تاريخ الأدب، حين أعادت الاعتبار لهذا العنصر، و بوأته المكانة اللائقة على عرش الاهتمام الذي تناوبه المؤلف والنص من قبل، ذلك أن : " القارئ ضمن الثالوث المتكون من المؤلف و العمل والجمهور، ليس مجرد عنصر سلبي يقتصر دوره على الانفعال بالأدب ، بل يتعداه إلى تنمية طاقة تساهم في صنع التاريخ ".
فمن خلال دراسة أنماط القراء نجد الآتي من جملة القراءات:
1 – القارئ النموذجي الذي استعمله المفكر الأسلوبي "مكاييل ريفاتير" ليحدد في ضوئه مظاهر القراءة الأسلوبية التي تتطلب شخصا متمرسا كل التمرس بنظام لغة الشعر، ومدركا لطبيعة الاختلاف بين هذه اللغة و بين اللغة اليومية .
2 – القارئ الخبير، ويتلخص فعله بالسعي الدائم إلى إخصاب مضامين النصوص التي تعتبر وثائق أفكار وأحاسيس تنقلها اللغة .
3- القارئ المقصود، وهو من توجه إليه النص حين ظهوره المبدئي أي الذات الجماعية التي عاشت الأوضاع التاريخية للمبدع " ثم الذات التي تشكل استمرارا مباشرا للنص، و تقمصا جديدا لفعله، في إطار نوع من التكامل بينهما .
4 – القارئ الضمني، إذ يمثل المقصد الذي يوصله نشاطه التعاوني إلى استخراج ما يفترضه النص و يعدنا به لا ما يقوله النص في حد ذاته، إضافة إلى ملئه الفضاءات الفارغة و ربطه ما يوجد في النص بغيره مما يتناص معه .
و لعل هذا القارئ الأخير شغل مساحة مهمة من فكر منظري التلقي ، لا سيما "إيزر" الذي فصّل في مفهوم هذا القارئ، إذ يرى أنه "مجسد كل الاستعدادات المسبقة الضرورية بالنسبة للعمل الأدبي كي يمارس تأثيره ، و هي استعدادات مسبقة ليست مرسومة من طرف واقع خارجي و تجريبي ، بل من طرف النص ذاته . و بالتالي فالقارئ الضمني كمفهوم ، له جذور متأصلة في بنية النص ؛ إنه تركيب لا يمكن بتاتا مطابقته مع أي قارئ حقيقي".
خلاصة الرأي:
يجب أن نذكر بأمانة متناهية بأن القدامى كانوا يرمون في كثير من النقولات إلى "بناء المعنى" لدى القارئ دون النظر له كمكون رئيسي وإنما كعنصر معلوم بالضرورة فلم يؤطروا المصطلح ولم يهتموا بتشريحه، فيما تجاوزت النظريات الحديثة ذلك وصولا إلى "أفق التوقع" الذي يقصد به نسق الإحالات القابل للتحديد الموضوعي الذي ينتج بالنسبة لأي عمل في اللحظة التاريخية التي ظهر فيها، عن ثلاثة عوامل أساسية: تمرس الجمهور السابق بالجنس الأدبي الذي ينتمي إليه هذا العمل، ثم أشكال وموضوعات أعمال ماضية تفترض معرفتها في العمل، و أخيرا التعارض بين اللغة الشعرية واللغة العملية، بين العالم الخيالي والعالم اليومي.
وحتى أوضح رأيي القائم رغم ما لمقولة الائتلاف من قوة وعمق وتأثير وصحة على مستوى الوعي العربي في تلاقحه مع بقية الثقافات، إلا أن المفكر العربي والناقد العربي القديم لم يكن له أن يحيد عن طريق ارتضته الورقة الأقوى ثقافيا آنذاك وهي ورقة العقيدة المتعاضدة مع ورقة اللغة، فأسلوب التفكير العقدي والشرعي والفقهي قد أوجد مسارا خالصا وخاصا للمفكرين والنقاد، لم يستطيعوا تجاوزه رغم النظريات غير المؤطرة في الاهتمام بالتأويل والضمنية وحمل المعاني، فالناقد آنذاك ليس إلا قارئا وفقا للنظريات الحديثة، والقارئ ما هوإلا مستخدم فعلي للنص ترفده وتوجهه أيديولوجيا معينة، ويقوم بذلك الفعل في مواجهة أيديولوجيات معينة بحسب العصر والمجتمع، وحيث أن الصراع الأيديولوجي لا يمكن أن يكون متكافئا لأن بنية المجتمعات تراتبية في الأصل التاريخي وتمثل الأيديولوجيا السائدة قمة الهرم، فهي بالتالي تسيطر بتصوراتها وانعكاساتها على النص، غير أن ذلك لا ينفي تأثر القارئ وقبوله واستيعابه لمفاهيم الايديولوجيات الأخرى والمكونات الثقافية الفرعية.
وحتى لا نغفل دور المدارس الحديثة في تعزيز القارئ وجعله قطب الرحى بعد أن كان النص قطبا والمبدع القطب الثاني، لنعرج بوضوح على ما يلخصه فكر "عبدالقاهر الجرجاني" حيال القراءة، فهو لا يعكس تطابقا مع النظريات الحديثة بل تتمثل "المقصدية" لديه في شتى صورها بالفهم الإبداعي للنص، ودور القارئ حيال النصوص، وذلك مرده الأيديولوجيا السائدة في عصر "الجرجاني" والموروث الديني والذهاب لقصر وتحجيم التأويل، رغم عدم إمكانية المساس بالدور البارز والمحترم لهذا المنظر والناقد والمفكر الكبير.
وإننا إذ ننتصر في نهاية تقريرنا لرأي وقول فصل في المسألة محل النقاش وهو أن المدارس الحديثة قد تناولت طرف خيط بناء المعاني من عند قدماء النقاد العرب كورقة ثقافية وتطورت على أيديهم للخروج بنظريات ومدارس فكرية جعلت من القارئ قطب الرحى في دراسة العملية الإبداعية عوضا عن فهم المعاني وإدراكها، فإننا نقتبس من دراسة "مرقاة النص" للدكتور "عبدالقادر فيدوح" والتي أوردها في كتابه "إراءة التأويل ومدارج معنى الشعر" ، فقرات تعطي صورة واضحة وتعضد رأيي النهائي في هذا التقرير، حيث يقول الأستاذ الباحث: " كل حياة تتجاذبها صفتا الصيرورة ، مما كان ، والسيرورة ، مما يكون ، وفق نظام أسرار الكون، ويجعلها قابلة لكل ما هو جديد بتجديد نفسها على الدوام . ولعل موقع الإنسان متحركا بين عرشي الصيرورة والسيرورة ، بين التطور والتطوير، للقيام بدور ما، سلبا أو إيجابا ، وفي هذا استجابة لقوى الطبيعة في توازنها الإرادي وغير الإرادي ، سواء وفق قانون العلة والمعلول ، أم وفق قانون الوعي واللاوعي. من هنا جاء البناء الذهني للواعية العربية على سبيل الامتثال لقوى الطبيعة في مظاهرها الكونية ، فتفاعل معها المبدع بوجه عام، ضمن سياق هذه السنن الكونية، وبدافع إفرازات المعنى الباطن، وذلك لانعكاس التناظر الموجود في تعددية الأنماط والأشكال ، والظواهر الطبيعية ، والفكرية ، والسلوكية. وهذا ما تؤكده الدراسات المعرفية من أن فصل الإنسان عن محيط الطبيعة محال ، على اعتبار أن الإنسان على مر الأزمنة، وسيظل ، صورة نموذجية للبيئة.
والحاصل أن استجابة الإنسان إلى النسق الطبيعي ، للبيئة في محيطها الكوني ، هو انعكاس للانفتاح على التجديد ، وما دام الأمر كذلك فالنتائج غير نهائية ، وعدم نهائيتها يعني الاستمرار في الكشف ، والكشف أسمى عناصر البحث المنفتح على التجديد ، وفي اعتقادي لن يكون ذلك كذلك إلا بما تستوجبه الذات لنفسها ، وبإرادتها ، وانكبابها على تطوير قدراتها على النحو الذي أثبته قدماؤنا بعد تحولهم من مرحلة تاريخية إلى أخرى، فأنتجوا حضارة قبل أن يدخلها الزيف.
ولقد نظر دارسونا ونقادنا القدامى إلى الآلية الإبداعية بما هو حاصل في المرجعية الثقافية في الصورة المتجلية ، وبما هو ناتج من اللاوعي في الصورة الخفية، والإنسان العربي القديم في هذه الحال موزع ذهنيا بين صورتي الخفاء والتجلي، وبين واقع حال مشترك الوجود اللفظي المقنن، وسمتِ النظام الفكري الموروث ، من كلام موزون مقفى في المنظور العقلي، وبين الوجود العياني المتكرر معه يوميا وما يفرضه نظام الطبيعة الكونية، لذلك ركز قدماؤنا كل اهتمامهم حول موضوع الدلالة والاستدلال لتوضيح فكرة المجاز ؛ الأمر الذي شجع القدامى على تناول هذه الفكرة بعمق ، ولعل هذا سبب تأليف أبي عبيدة " مجاز القرآن "من حيث إنه سعى إلى شرح النص القرآني باستدعاء الأنحاء التي انتحاها العرب في للتأكيد على أن القرآن إنما جرى على سمتهم ، وللبرهنة على أن أصل منشأ النسق الثقافي العربي مجاز . وهذا مشهد آخر للتفاعل مع الثنائية في التعبير عند تقسيم الكلام إلى حقيقة ومجاز الذي استنكره ابن تيمية فيما بعد.
لقد كان لقناعة قدمائنا الفكرية ، ومنطلقاتهم المذهبية ، دور كبير في شحذ قريحتهم بدافع الحاجة إلى محاولة تعزيز موقفهم والانتصار على خصومهم ومخالفيهم من هذا المذهب أو ذاك، خدمة لتوصيل ما يتناسب وطبيعة تصور كل مذهب، لفهم الشرع، ووحدة النص الإلهي في جميع مراميه، بما في ذلك النسق الدلالي.
لقد كرست البلاغة العربية جهدها لفهم النص القرآني ، مما أدى إلى التسليم بإعجازه، بوصفه لامتناهيا بفعل مشيئته في كل زمان ومكان . لذا ،كان حرص العرب على دراسة البلاغة في غاية الأهمية بغرض إمكانية توفير الإقناع ، وبوصفها الأداة الإفهامية لمحاربة أهل البدعة والباطل في فهم النص الشرعي ، واستخراج الاستنباطات السريعة الحكم ، وفي هذا جاء قول أبي هلال العسكري :" إن أحق العلوم بالتعلم وأولاها بالتحفظ بعد معرفة الله جل ثناؤه علم البلاغة ، ومعرفة الفصاحة، الذي به يعرف إعجاز كتاب الله تعالى ، الناطق بالحق ، الهادي إلى سبيل الرشد ، والمدلول به على صدق الرسالة ، وصحة النبوة" .
ولعل الاهتمام بالبلاغة لم يكن له الدور الفعال إلا عندما تبلورت إشكالاتها على مستوى تحديد الخطاب البياني ، فانقسم المهتمون بذلك إلى فريقين: أحدهما عني بتفاصيل الخطاب وتفسيره ، أما الثاني فاهتم بكيفية إنتاج الخطاب المبين ، وكان أبرزهم المعتزلة الذين كان لهم فضل السبق في بلورة معالم المصطلح البلاغي بوصفه سياقا إجرائيا لصحة مزاعمهم التي كانت تتعارض مع صحة مزاعم خصومهم ؛ الأمر الذي مكن كل فريق من ضبط استدلالاته تحت سقف البلاغة بكل تفاصيلها من ضوابط وأنواع .
إن كثرة التيارات والمذاهب ، على أساس ما تحتويه من تعصب ، وانغماس بعضها في حمأة الكذب والتزوير كانت تشجع على تفسير القرآن بما تراه يتلاءم مع أغراضها وتأييد مذهبها بتأويلات تعسفية ، وقد ترك ذلك أثرا سيئا ، جر على الأمة كثيرا من البلاء، وهل كان باستطاعة البلاغيين مثلا أن ينظروا إلى المسائل الشرعية بمعزل عن النسق الثقافي الإسلامي آنذاك؟ . وهل كان باستطاعتهم أن يتجنبوا ما كان يدور من جدل بين المتكلمين فيما بينهم ، وبين المتكلمين والفلاسفة ، وبين هؤلاء واللغويين؟ . لا أحد يشك في أن لهذه الثقافة السائدة المصبوغة بالجدل الفكري الدور الأساس في تعزيز مكانة المعارف والعلوم، والمقاصد الشرعية بالتيارات الفكرية ، وخير مثال على ذلك تأثر علماء اللغة بالعلل والقياس ، وتأثر علماء الأصول بالمنطق الأرسطي بخاصة مع إمام الحرمين الجويني وتلميذه الغزالي رغبة في الوصول إلى اليقين والمصداقية" ..
ومن موضع آخر من ذات الدراسة يقول الأستاذ المؤلف: "وبقدر ما بقيت الثقافة العربية ضمن منظومة " نموذج النسق " السائد بقيت القصيدة العربية معلقة ، تكرس الحقل المعرفي للغة ، وفي هذه الحال اقتضت الحاجة إلى إمكانية التعاطي مع متغيرات الشأن [ الوضع ] الاجتماعي بعد التغيرات التي أفرزتها الحرب العالمية الثانية ، هذا المجتمع الذي أصبح مضطربا ، متسرعا في التكيف مع معايير حضارة القرن العشرين القائمة على دعائم : الاختصار / الاختزال / السرعة / القلق / الاختلاف / اللاتمحور / اللاتحديد / اللامبالاة/ على جميع الأصعدة مما أدى إلى صعوبة تمثّلها إلا ممن حاول التمكن من الانسجام والقدرة على تقبل الظاهرة من الجيل الجديد ، وهؤلاء قلة حاولوا أن يجسدوا دواعي المؤثرات الثقافية ضمن ميادين اهتماماتها المتميزة بالتركيز على " مبدأ الذاتية ".".
المصادر:
1- إراءة التأويل ومدارج معنى الشعر/ د.عبدالقادر فيدوح/ دار صفحات للدراسات والنشر 2009م.
2- القراءة وتوليد الدلالة/ د.حميد لحمداني/ المركز الثقافي العربي 2003م.
3- من فلسفات التأويل إلى نظريات القراءة/ د.عبدالكريم شرفي/ الدار العربية للعلوم 2007م.
4- مجلة العلوم الإنسانية العدد (5) شتاء 2002/ بحث إنتاج المعرفة بين الأصالة والحداثة/ د.عبدالكريم حسن.
5- موقع الأستاذ الدكتور عبدالقادر فيدوح (ناقد وأديب ومفكر جزائري)/ دراسات نقدية وفكرية وفلسفية / رابط الدخول:
http://www.fidouh.com
6- موقع الشهاب (موقع أدبي)/ رابط الدخول:
http://www.chihab.net/modules.php?name=News&file=article&sid=2204
7- مجلة أفق الالكترونية (مجلة تعنى باللغة وآدابها)/ د.جميل حمداوي/ رابط الدخول:
http://ofouq.com/today/modules.php?name=News&file=article&sid=3210
8- شبكة إيلاف/ محمد عدناني/ رابط الدخول:
http://www.elaphblog.com/posts.aspx?u=3762&A=46507
9- الجمعية الدولة للغويين والمترجمين العرب/ رابط الدخول:
http://www.wata.cc/forums/showthread.php?46269-%D9%86%D8%B8%D8%B1%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D9%84%D9%82%D9%8A
10- موقع باب (موقع علمي أدبي)/ رابط الدخول:
http://www.bab.com/articles/full_article.cfm?id=4669
خالص المودة