قرى زارها الشيخ سلطان القاسمي على الساحل الشرقي من الخليج
:أسرد لكم رحلة حاكم الشارقة الشيخ الدكتور سلطان بن محمد بن صقر القاسمي حينما كان عمره يقارب العشرون عاما بداية القصة ومن أوحى له بالذهاب إلى إيران وأي المناطق العربية التي شاهدها في طريقه إلى مدينة طهران .وحرصت أن لا أغير كتابة الشيخ حفظه الله لأنه صاحب قلم جميل يشد القارئ من صفحة إلى أخرى من غير كلل أو ملل أتركم مع كتابه " سرد الذات " ....
القصة :-
سبب الرحلة
سكن في بيت قريب من بيتنا طبيب إيراني يدعى جعفر، بعد أن فتح عيادته الطبية في الشارقة . زار الدكتور جعفر أخ له أصغر منه سنا ، قدم من ايران ، فعرفني عليه . وبعد عدة لقاءات عرض علي أن أزور إيران ، وأنه سيرافقني إلى هناك .
عرضت الموضوع على أصدقائي تريم بن عمران بن تريم وعبدالله بن عمران بن تريم ومحمد بن حمد الشامسي ويعقوب بن يوسف الدوخي , فوافقوا على المشاركة في تلك الرحلة .
أخبرت والدي وكان طريح الفراش ، بأن يكتب رسالة إلى اللواء رحماني ، الذي كان مسؤولا من قبل الحكومة الإيرانية عن والدي في فترة علاجة في طهران ليقوم بالإعتناء بنا .
قام الدكتور جعفر بكتابة تلك الرسالة باللغة الفارسية ، وختمها والدي بختمة .استأجرنا سفينة " لنش " (أولاد زمزم )، لتأخذنا من الشارقة إلى لنجة ، على الساحل الفارسي .
الرحلة البحرية إلى لنجة
ركبنا جميعا ، ومعنا أخ الدكتور جعفر الإيراني ، السفينة من الشارقة ، بعد صلاة المغرب من يوم في أواخر شهر يوليو 1959م ، وكان ربان السفينة شابا يدعى (عبادوه) يساعده في إدارة دفة السفينة رحل كبير السن يدعى (خلفان) ولا أحد آخر.
كانت السفينة تمخر عباب البحر ، والجدال يشتد بين تريم ابن عمران ، المتعصب في حبه لجمال عبدالناصر ، وأخ الدكتور جعفر الإيراني ، المتعصب في حبه لشاه إيران ، وأنا أترجم بين الأثنين باللغة الفارسية ما استطعت أن أترجمه ، وأترك كثيرا من الكلام ، وأترجم كلمات بالخطأ تثير حفيظة كل واحد منهما على الآخر . فواحد منهما كان ممسكا بيدي اليسرى والآخر ممسكا بيدي اليمنى ، وبينهما لساني الذي كان عاجزا عن ترجمة كلمات ليست في قاموس معرفتي باللغة الفارسية ،كدول عدم الإنحياز وما إلى ذلك ...
سحبت نفسي من بين جدالهما ، واتجهت إلى مقدمة السفينة حيث يجلس (الربان عبادوه )، الذي أخذ يحدثني عن أهوال البحر وبينهما نحن كذلك وإذا بناقلة نفط عملاقة ، متجهة إلى أسواق العالم النفطية ، قريبة منا . قفز عبادوه إلى حجرة المحرك وهو يقول لي : "ادفع الدفة إلى اليسار " .
أطلق عبادوه المحرك بأقصى سرعة . الجميع كانوا نائمين ، وكذلك خلفان ، الذي أوكل إليه شأن الدفة ، كانت سفينتنا صغيرة جدا مقارنة بحجم ناقلة النفط ، عندما مرت سفينتنا بمحاذاتها ناحية المقدمة .كانت مقدمة سفينتنا مرتفعة ، ومؤخرتها وكأنها ستغطس في البحر ، بينما ناقلة النفط تخرج أصواتا من محركاتها ، و عبادوه يقول : "لقد شاهدنا !! إنه يوقف الناقلة .
قلت : أفي هذه الظلمة ؟
قال : إنه يشاهد " الفنر" المعلق في السارية " .
كانت سفينتنا ، تمخر البحر بأقصى سرعة ، تاركة ناقلة النفط خلفها ، حيث توقفت عن الحركة ، ثم استدارت سفينتنا واتجهت إلى الجهة اليسرى من ناقلة النفط ، ثم أوقف الربان عبادوه السفينة .
قلت : " لماذا توقفت ؟ "
قال : "لأضبط المجرى "
قام عبادوه وأحضر بوصلة كبيرة ، وأخذ يديرها على ضوء الفنر ، الذي أنزله من السارية ، وهو يتمتم بكلمات حتى توصل إلى أمر ما ، ثم قال " خلاص .. هذا المجرى "
سألت عبادوه : " أما كان الأجدر أن نترك الناقلة تمر ونواصل سيرنا من بعدها ؟ "
قال : " سنكون رحنا في داهية ! ".
قلت : " لماذا ؟".
قال : "إن خلف الناقلة ، وهي بهذه السرعة العالية ، موجة عليى يحدثها جسم الناقلة وهو يشق البحر ، ستطوى سفينتنا ، وتنزل بها إلى أعماق البحر ".
استمرت سفينتنا في سيرها حتى إذا ما أوقف عبادوه حركتها ، طلب مني أن أرمي المرساة .
قلت : "ونحن في عرض البحر !".
قال : " نحن أمام لنجة ".
رميت المرساة .. وأنتظرت حتى أرى لنجة كيف تبدو.
صوت الأذان يأتي من بعيد .. الله أكبر ..
وصياح الديكة يتوالى .. وأصوات خافتة تتردد..
ومباني دامنة على الشاطئ الممتد شمالا وجنوبا .. أخذت تتحول إلى اللون الذهبي .. بطلوع الفجر من خلفنا ، وببزوغ الشمس وإرتفاعها ، أصبحت البيوت بيضاء ناصعة بمكونات تراثية جميلة ، بناها أجدادي في القرون الماضية .
http://img221.imageshack.us/img221/4755/301uaejz3.jpg
عندما نزلنا على الشاطئ ، وجدنا أحمد بن عبدالله السعدي في استقبالنا ، إذ إنه تلقى برقية توصية من والدي ، فأنزلنا في بيت الضيافة التابع لعائلة الرئيس السعدي . لم تكن هناك فنادق في لنجة في تلك الأيام ، والرئيس السعدي لديه علاقات واسعة وزوار كثيرون ، فهو وكيل للعديد من السفن التجارية .
الطريق إلى شيراز
كانت عائلة الرئيس السعدي كريمة ضيَفتنا عدة أيام ، عندما ألغيت الرحلة الجوية بين لنجة وشيراز ، والتي كانت ستقلنا إلى هناك ، مما اضطرنا إلى أن نستأجر سيارة لتنقلنا إلى شيراز .
حصلنا على رسالة من حاكم لنجة ، بعد أن زرناه في مكتبه ، يوصي فيها جميع المراكز المقامة على الطريق لضبط عملية التهريب ، بتسهيل مرورنا .
ركبنا السيارة ، والتي مقدمتها مغطاة ، أما الجزء الخلفي فقد كان مكشوفا ، ملأه أخ الدكتور جعفر بصندوقين كبيرين من المواد المهربة دون أن يدفع جمارك عنها في لنجة ، وحقائب ملابسنا ، وغطاها بالبسط والسجاد . صاحب السيارة ،وسائقها في نفس الوقت ، هو "مرزوق الذي كان يعمل مساعد ميكانيكي لدى يوسف الدوخي والد زميلنا يعقوب يوسف الدوخي في محل تصليح السيارات بالشارقة" .
خرجنا من لنجة عصرا متجهين إلى الغرب ، وابتعدنا عن الساحل لنقترب من الجبال ، بعد أن مررنا "بقريتي رأس بستانة وشناص" من على بعد ، ونحن في سهل به أشجار وشجيرات .. وإذا بجنود يعترضون طريق السيارة ، ورجل ضئيل الجسم ، كان لابسا فانلة وبنطالا عسكريا ، يظهر من طريقة أوامره انه ضابط ، يخرج من بين الأشجار ، آمر بالتفتيش . هنا يتدخل أخ الدكتور جعفر قائلا :
" لدينا رسالة من حاكم لنجة بعدم التفتيش "
الضابط : "أوامر حاكم لنجة في لنجة وليس هنا "
كشف الضابط البساط الذي كنا نجلس عليه فوجد حقائبنا ، ففتح إحداها ثم أخذ ينبشها ويفتشها بيد متسخة ، وبالأخرى يمسك برسالة حاكم لنجة .
قال أخ الدكتور جعفر : " أنا ضابط في الداخلية من شيراز "
الضابط : " هيئتك لا تدل على أنك ضابط ، أعطني قلما " .
أخ الدكتور جعفر ، وهو يعطيه القلم : " لا توسخ القلم ".
الضابط ، بعد أن شاط به الغضب ، ينادي : " جنود !!" .
وإذا بالجنود يخرجون من بين الأشجار ويحيطون بالسيارة ، بينما هو يهرول إلى خيمة قريبة .
يقول الرجل العجوز ، الذي طلب منا أن نوصله إلى قريته ونحن في طريقنا إلى شيراز : " إن الضابط قد شاهد صندوقا كبيرا تحت البساط ".
أتى الضابط مسرعا بعد أن أرتدى بدلته العسكرية ، وهو يقول : " سأخذكم إلى لنجة " .
وبينما هو يهم بالصعود إلى السيارة ، أمسكت به ، وربت على صدره، وإذا بيد كالهراوة تنزل على يدي من أحد العساكر ، وحربه بندقية في خاصرتي ، وشتائم متلاحقة وتوبيخ : " أتجرؤ على أن تضع يدك على صدر الضابط ؟!" .
رفعت يدي مستسلما ، وإذا بأخ الدكتور جعفر يقفز من السيارة ، ويمسك بالضابط وينتحي به جانبا .. كنا نظن أن العراك سيبدأ بينهما ، لكن أخ الدكتور جعفر قام بفتح حقيبة كانت بيده وأخرج منهما أوراقا ، وأراها للضابط . بعدها رجع الضابط مسرعا ، وخبط برجلة على الأرض ، ورفع يده تحية ، ثم ركع وهو يردد :
" معذرة أيها الشيخ ، إني آسف لما بدر مني " .
ثم التفت إلى جنوده ، وصاح بهم أن يصطفوا ، ثم صاح ثانية بأن يؤدوا التحية .
وبينما الجنود يرفعون بنادقهم تحية ، وهو يرفع يده بالتحية كذلك ، أخذت أصعد إلى السيارة في الجزء الخلفي .. وإذا بتريم بن عمران يقول : "لا تركب في الخلف .. اركب بجانب السائق مرزوق" .
قلت له : "إن المكان في مقدمة السيارة حارة جدا" .
تريم بن عمران : "اجلس مؤقتا .. وجاهة . وبعد تحرك السيارة تعال إلى الخلف " .
جلست بجانب السائق مرزوق ، ورأسي ويدي اليمنى خارج السيارة ألوح بها تحية للضابط ، الذي أخذ يتوارى في الغبار الذي أثارته عجلات السيارة .
كانت السيارة تجتاز سلسلة الجبال ، وهي تتمايل لوعورة الطريق ، حتى إذا ما خيم الظلام لم يبق في دنيانا إلا سيارتنا وبقعة مضيئة لعدة أمتار أمامنا .
توقفت السيارة فجأة ، بعد أن أجتازت سهلا مستويا ، فأخذ مرزوق ينادي : "انزلوا هذه "مغوه" ، هذه بلادي ! " .
نزل من نزل لقضاء حاجته ، وفرش آخرون البسط على الأرض . غاب مرزوق لبرهه ، وإذا به يعود بالطعام والماء .
بعد أن تناولنا عشاءنا ، طلبت من مرزوق ان يأخذني لمشاهدة قلعة الشيخ سلطان بن أحمد المرزوقي شيخ " مغوه " .
http://www13.0zz0.com/2009/12/26/02/933137242.jpg
كانت بيت الشيخ سلطان المرزوقي كبيرا ، مكونا من طابقين وعدد من النوافذ والتي كانت تطل من الدور العلوي على الساحات الخالية من المساكن حوله . أما مدخله فكان يفتح في سقيفة على جانبيها مجالس .
ركبنا السيارة ، وما إن تحركت بنا حتى غط كل واحد منا في نوم عميق ، من شدة الإعياء .
انتبهت على نداء مرزوق وهو يقول : " هذه بلدة كوخرد "
إلى هنا قد تم سرد رحلة الشيخ سلطان بن محمد القاسمي من الشارقة إلى الساحل الشرقي للخليج العربي التي زارها سموه الكريم .
....
أتمنى أن ينال أعجابكم طرحي المتواضع
لكم مني أجمل تحية