السلام عليكم ورحمة الله وبركاته :-




تحكيم الشريعة
و
صلته بأصل الدين


الدكتور صلاح الصاوي
الأستاذ بجامعات الأزهر وأم القرى
والجامعة الإسلامية




مقدمة



إن الأمر جد خطير! إنه جد لا هزل فيه وحق لا ريب فيه، ومحكم لا تشابه فيه، إنه مفترق الطرق بين الإيمان والكفر، والحد الفاصل بين التوحيد والشرك، إنه المعترك الذي فرضه علينا خصوم الإسلام في هذا العصر، ويأبون إلاّ أن يقهروا فيه ديننا و يهزموا فيه شريعتنا بأيدينا من خلال أناس من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا، وبدون أن تراق لهم فيه قطرة دم واحدة!!

إنه يتعلق بموقف جماهير المسلمين من قضية تحكيم الشريعة الإسلامية.
وخطورة هذا الموضوع أنه لا يتعلق بأمر جزئي من فروع هذه الشريعة كالحث على أداء واجب أو مندوب، أو الزجر عن فعل محََّرم أو مكروه، ولكنه يتعلق بأصل الدين وأخطر قضايا الإيمان وأول يدعى الناس إليه عند إرادة الدخول إلى الإسلام.

إن موضوع هذا الكتاب لا يتعلق بالإيمان الواجب الذي يتفاوت الناس فيه ما بين ظالم لنفسه ومقتصد وسابق للخيرات بإذن الله، ولكنه يتعلق بالتوحيد الذي لا يثبت عقد الإسلام ابتداءًَ إلا باستيفائه، والذي ينقسم الناس عنده إلى مؤمنين وكافرين، فمن تحقق فيه فقد ثبت له عقد الإسلام، ومن نقضه فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه!

والمحذور والمحظور في تناول جماهير المسلمين لهذه القضية أن يتم التعامل معها كما يتم التعامل مع غيرها من المشكلات الجزئية التي يتمارى الناس في تشخيصها ، ويتفقون أو يختلفون في طريقة معالجتها، ولا تبلغ في تقديرهم مبلغ الثوابت الإيمانية والمحكمات العقائدية التي لا خيار للناس في إقرارها والتعامل معها بمنطق التسليم التام، والانقياد المطلق، وعقد الولاء والبراء على أساسها، إن أرادوا لأنفسهم أن يكونوا مسلمين.

إن هذه القضية هي الإسلام، فالقبول بها قبول بالإسلام، والمماراة فيها أو التردد في قبولها مماراة في الإسلام وتردد في قبوله.
وهل الإسلام إلا الاستسلام لله- عز وجل - والإذعان له تصديقاً وانقياداً لأمره؟
وهل الإيمان الذي يثبت به عقد الإسلام إلا تصديق الخبر والانقياد للأمر؟
وهل الكفر الذي يوجب الخلود في نار جهنم إلا التكذيب أو الإباء؟
وهل يبقى مع أحد من الناس ذرَّة من الإيمان إذا استقبل خبر الله بالتكذيب، أو استقبل شيئا من شرائعه بالرد أو الاعتراض؟

إن هذا هو الإطار الصحيح الذي يجب أن تعرض فيه هذه القضية حتى تقام بها الحجة على الكافة، وإن أية محاولة لعرضها خارج هذا الإطار تمييع لها وغضٌّ من قيمتها وتمهيد السبيل للفتنة عنها والمساومة فيها.

إن أنكى ما ابتليت به قضية تحكيم الشريعة في السنوات الماضية أنها لم تكن دائماً في هذا الإطار الذي تتبوَّأ به منزلتنا من الدين كما أرادها الله- عز وجل- وإنما قُدِّمت في الأعم الأغلب في إطار جزئي منقوص الأطراف فتمهد السبيل للطَّعن فيها والتشكيك في صلاحيتها، والقابلية للمساومة فيها.

وقد ترتب على ذلك من الوهن والتخاذل في نصرة هذه القضية ما قرَّت به عيون الخصوم، واطمأنت به جنوبهم إلى المضاجع، وهم يرون من أبناء الإسلام من يعمل فكره وقلمه في التشكيك في صلاحية الشريعة للتطبيق، ويجتهد في فتنة الناس عنها، ودمغ دعاتها بالتُهم والمناكر فلا ملجأ إذن ولا نجاة لأهل العلم إلا بالبيان والصَّدع بكلمة الحق وإقامة الحجَّة بها على الكافة وإبراء الذمة بنصح الأمة حكاماً ومحكومين ليهلك من هلك على بينة ويحيا من حيى على بينة كما قال تعالى{قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً إِلَّا بَلَاغاً مِّنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً }. (الجن22-23)

وقال تعالى{إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَـئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }. (البقرة174)

وقال تعالى{إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَـئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ فَأُوْلَـئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ }. (البقرة160)



يقول ابن كثير يرحمه الله :-
"هذا وعيد شديد لمن كتم ما جاءت به الرسل من الدلالات البينة على المقاصد الصحيحة والهدى النافع للقلوب من بعد ما بينه الله تعالى لعباده في كتبه التي أنزلها على رسله"
ومن ناحية أخرى فقد حملت إلينا أوثق دواوين السُنة المطهَّرة قول النبي،r:"الدين النصيحة! قلنا لمن؟ قال لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم ).[1]

والمقصود بأئمة المسلمين في هذا الحديث هم الخلفاء وغيرهم ممن يقوم بأمور المسلمين من أصحاب الولايات، فهذا هو المشهور في بيان المراد بأئمة المسلمين في هذا الحديث، كما حكاه النووي والخَّطابي وغيرهم من أهل العلم[2]، فكل من وُلي أمراً من أمور المسلمين صَغُرَ هذا الأمر أو كَبُرَ، فهو داخل في مدلول هذه الكلمة.
ومن النصيحة لهم إعلامهم بما غفلوا عنه من الحق، وتذكيرهم به، وإعانتهم عليه، وطاعتهم فيه.
أما النصيحة للعامة فتتمثل في إرشادهم لمصالحهم في آخرتهم ودنياهم وكف الأذى عنهم، وذلك بإعلامهم بما جهلوا من أمر دينهم وإعانتهم عليه إما بالقول أو بالفعل وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر والذبّ عن أموالهم وأعراضهم وتنشيط هممهم إلى الطاعات، وستر عوراتهم وسدّ خلاّتهم ودفع المضار عنهم وجلب المنافع لهم، وأن يحبُّ لهم ما يحبّ لنفسه من الخير ويكره لهم ما يكره لنفسه من المكروه.

من أجل ذلك نتقدم إلى جماهير المسلمين بهذه الرسالة حتى يضعوا هذه القضية في إطارها الصحيح ويدركوا صلتها بالتوحيد الذي لا يثبت عقد الإسلام إلا به، ليهلك من هلك على بينة ويحيا من حيى على بينة، والتي نرجو من كل مسلم أن يقرأها بتدبُّر وإمعان، وأن يُرجع البصر فيها مرات ومرات، وأن يعرض واقعه وواقع إخوانه وعشيرته على ما ورد بها من حقائق وأحكام، حتى يختار لنفسه ما تبرأ به ذمته، وتسلم به عقيدته، ويصحّ به إيمانه، ولا يكون ممن قال الله فيهم: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنبَاء يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَسَاءلُونَ }.(القصص65-66)


وما أجمل أن يُرزق ابن آدم الذكرى قبل موته ! وما أطيب أن يُلهم التوفيق والإنابة! وأن يأخذ من يومه لغده، ومن حياته لموته، من قبل أن تأتى هذه الصَّيحة، التي تأخذ الناس وهم يخصمون، فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون....


[1] صحيح مسلم بشرح النووي2/38،39.

[2] صحيح مسلم بشرح النووي.




الفصل الأول



تحكيم الشريعة



وصلته بالرضا بالربوبية والنبوة والإسلام



من المعلوم بالضرورة من الدين أن هذه القضية هي الإسلام، وأنها مَعْقِد التفرقة بين الإيمان والزندقة، وأن التزام الشريعة تصديقا وانقيادا هو الإيمان، وأن المماراة في شيء منهاً تكذيباً أو رداً هو الكفر الذي لا يبقى معه من الإيمان حبة خردل.
وعليه فإننا نتوجه إلى جماهير المسلمين بهذا السؤال : أليس معقد التفرقة بين الإيمان والكفر أن ترضى بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد نبياً ورسولا ً؟ وقد قال رسول الله r، فيما يرويه مسلم بإسناده عن العباس بن عبد المطلب : "ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد رسولاً". وقال،r:"من قال رضيت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبياً وجبت له الجنة"[1].
أليست هذه هي الأسئلة التي تعرض على كل إنسان في قبره عندما يأتيه ملكان فيجلسانه ويسألانه : من ربك؟ وما دينك؟ وما تقول في الرجل الذي بعث فيكم؟ وهل يبقى لأحد من الناس تعلق بالإسلام إذا لم يقر بالربوبية أو النبوة أو الإسلام؟



أولاً: تحكيم الشريعة وصلته بالإقرار بالربوبية :
هل يتحقق الرضا بالله رباً بمجرد الإقرار بوجود الرب- جل وعلا- أو الإقرار له بصفات الخلق والرزق والتدبير الكوني؟ لقد أقر لله بهذه المعاني الكفار والمشركون في مكة إبان البعثة وفى غيرها من البلاد ولم ينفعهم ذلك الإقرار في النجاة من الكفر والشرك ولم يثبت لهم بمجرده عقد الإسلام. قال تعالى:{ قُل لِّمَنِ الأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ. قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ. قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ. سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ بَلْ أَتَيْنَاهُم بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} (المؤمنون 84-90)

فتأمل إقرارهم لله -جل وعلا- بأنه مالك الأرض ومن فيها وأنه ربّ السماوات السبع ورب العرش العظيم وأنه بيده ملكوت كل شيء وأنه يجير ولا يُجار عليه ورغم ذلك لا يزالون في كفرهم وشركهم يعمهون.

وقال تعالى:{ وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ .اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ .وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّن نَّزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِن بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} (العنكبوت 61-63)

وقال تعالى: {قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ . فَذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} (يونس 31-32)

فتأملوا رحمكم الله إقرارهم بكل هذه الصفات وهم لا يزالون مشركين كافرين!!




حقيقة الرضا بالربوبية


إن حقيقة الرضا بالله رباً تتمثل في الإقرار بقسميه الكوني والشرعي لله- عز وجل- وأن يقرّ له بالتفرد في كليهما فيرضى بشرعه كما يرضى بقدره، ويسكن إلى تدبيره الشرعي كما يسكن إلى تدبيره الكوني، وأن يَسْخَطَ عبادةَ ما دونه في هذا وفي ذاك.
ذلك أن الخلق والأمر من أخص خصائص الربوبية وأجمعِ صفاتها، كما قال تعالى:
{ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } (الأعراف 54)
ولهذا أجاب بها موسى- عليه السلام- في مقام المحاجّة مع فرعون عندما ابتدره سائلاً : {قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا يَا مُوسَى } (طه 49). فكان جواب الكليم- عليه السلام- : {قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى } (طه 50). ومن قبل ذلك قال الخليل إبراهيم- عليه السلام- في وصفه لربه : {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ } (الشعراء 78). ومن بعد ذلك أمر محمد r أن يسبح باسم ربه الأعلى الذي تفرَّد بهذين الوصفين فقال تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} (الأعلى 1-3) .

والأمر في لغة الشارعِ[2] يأتي بمعنى الأمر الكوني أو الأمر الشرعي:
1- الأمر الكوني: وهو الذي يدبر شئون المخلوقات وبه يقول للشيء كن فيكون، ومنه قوله تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ }(يس 82). وقوله تعالى: {وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ }(القمر 50).
2- الأمر الشرعي: وهو الذي يفصل به الحلال والحرام، والأمر والنهي وسائر الشرائع، ومنه قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ } (السجدة24).

وإذا كانت البشرية لم تعرف في تاريخها من نازعَ اللهَ في جانب الخلق أو الأمر الكوني فقد حفل تاريخها بمن نازع الله في جانب الأمر الشرعي وادًّعى مشاركته فيه، فعرفت من قال : {سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزلَ اللّهُ} (الأنعام 93) ومن قال:{ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ } (غافر29) ومن قال لا سياسة في الدين ولا دين في السياسة). بل عرفت مؤخراً من قال إن القوانين الوضعية خير من الشريعة الإسلامية لأن الأولى تمثل الحضارة المدنية والثانية تمثل البداوة والرجعية!!)

ولا يتحقق توحيد الربوبية إلا بإفراد الله- جل وعلا- بالخلق والأمر بقسميه: الكوني والشرعي، وإفراده بالأمر الشرعي يقتضي الإقرار له وحده بالسيادة العليا والتشريع المطلق، فلا حلال إلا ما أحله ولا حرام إلا ما حرمه ولا دين إلا ما شرعه، ومن سوَّغ للناس إتباع شريعة غير شريعته فهو كافر مشرك.

قال تعالى: {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَـهاً وَاحِداً لاَّ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ }(التوبة31).
وقد أخرج الإمام أحمد والترمذى وغيرهما عن عدى ابن حاتم أنه دخل على رسول الله r وهو يقرأ هذه الآية:{ اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ}. قال: فقلت: إنهم لم يعبدوهم فقالr : ( بلى إنهم حرَّموا عليهم الحلال وأحلّوا لهم الحرام فاتبعوهم وذلك عبادتهم إياهم).
فلم تكن الربوبية في بني إسرائيل في تجانب الخلق أو القضاء الكوني، بل كانت في جانب الهداية والأمر الشرعي، فكان الأحبار والرهبان يحلون لهم الحرام ويحرمون عليهم الحلال فيتبعونهم على ذلك، ويتركون تحريم التوراة وتحليلها إلى تحريم هؤلاء وتحليلهم فاتّخذوهم بذلك أرباباً من دون الله.

إذاً فحقيقة هذا الرضا بالربوبية لا تتمثل في إفراد الله- جل وعلا- بالخلق والتدبير الكوني فحسب، بل تمتد لتشمل إفراده تعالى بالأمر والقضاء الشرعي وقبول ما جاء به رسوله، r من الهدى والشرائع ضرورة. أنَّ المنازعة في المر الشرعي كالمنازعة في الأمر الكوني ولا فرق، لأن الذي أوجب الرضا بقدره هو الذي أوجب التحاكم إلى شرعه، وهو القائل :{إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ }( يوسف40). والقائل: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } (الشورى21).

والإقرار المقصود في هذا المقام هو الإقرار الانقيادي الذي لا يتجاوز دائرة التصديق والإخبار، فلو أن رجلاً أقر بصدق ما جاء به النبي، r ولم يتبعه على ذلك بل حاربه وعاداه فإنه لا يكون موحداً بحال من الأحوال.



إن أدنى درجات الرضا بالله رباً والتي ينجو بها المرء من الشرك الأكبر تشمل مما تشمل الإقرار لله- عز وجل- بالتفرد بهذا الحق، وعقد القلب على أن التحليل والتحريم والتشريع المطلق لا يكون إلا لله - جل وعلا- وحده، فكما أن الخلق كله لله لا ينازعه أحد، فإن الأمر كله لله لا يشاركه فيه أحد، ومن زعم لنفسه شيئاً من ذلك فقد أشرك بربه العظيم ضرورة، لأن المنازعة في الأمر كالمنازعة في الخلق ولا فرق، كما قال الله تعالى :{ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ }(الأعراف54). وأن الذي قال : {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} (الزمر62). هو الذي قال :{ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ} (آل عمران 154). وعلى هذا فإن من يرد على الله أمره في هذا العصر وفي كل عصر، أو يقف معترضاً على شرائعه ويسعى في تعطيلها، أو يسوّغ إتّباع أحد من دونه فإنه يكون قد كفر بربوبية الله عليه وابتغى لنفسه رباً من دون الله.

فهل يعلم هؤلاء الذين يخذلون شريعة الله في هذا الواقع أنهم يكفرون بالربوبية ويخلعون رداء الإسلام ؟
هل يعلم هؤلاء الذين لا يرضون بتحكيم الشريعة أنهم لا يرضون بربوبية الله ؟ وأنهم ينقضون بذلك عقد الإسلام ؟

هل يعلم هؤلاء أنهم بذلك يكفرون ؟


إن الرضا بالروبية يعنى: الرضا بحاكمية الله- جل وعلا- والتسليم المطلق لما بعث به رسوله من الهدى والشرائع، وأن الإخلال بذلك قولاً وفعلاً أو اعتقاداً هو منازعة في الربوبية، وأن الإقرار بشيء من هذا الحق- بل مجرد إعطائه- لأحد من دون الله- جل وعلا- إشراك في الربوبية، فهل يعقل الناس هذه الحقائق ؟ وهل يراجعون مواقفهم من الشريعة على ضوئها !!






تحكيم الشريعة وصلته بالرضا بالإسلام ديناً


لا يخفى أن الرضا بالإسلام ديناً والبراءة من كل دين يخالفه هو فيصل التفرقة بين الإيمان والكفر، فقد قال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ} (آل عمران 19). وقال: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ } (آل عمران 85).

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (فالإسلام يتضمن الاستسلام لله وحده، فمن استسلم له ولغيره كان مشركاً، ومن لم يستسلم له كان مستكبراً عن عبادته والمشرك به والمستكبر عن عبادته كافر، والاستسلام له وحده يتضمن عبادته وحده وطاعته وحده وهذا دين الإسلام الذي لا يقبل الله غيره وذلك إنما يكون بأن يُطاع في كل وقت بما أمر به في ذلك الوقت)[3].

فهل تعرف جماهير المسلمين حقيقة هذا الرضا والحد الأدنى الذي لا يتحقق إلا به ؟!!!
إن الإجابة على هذا السؤال تتوقف على معرفة حقيقة الدين، لأن كثيراً من الناس في هذا العصر يخطئ فهم حقيقة الدين الذي أنزله الله على محمد r ويظنُّه لا يتجاوز ما يُقام من شعائر العبادات، وما يهتف به الوعًّاظ والخطباء من الدعوة إلى مكارم الأخلاق، أمَّا ما وراء ذلك من شئون الحياة فلا علاقة للدين به طبقاً لمقولة: ( دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله ) أو لمقولة: ( لا دين في السياسة ولا سياسة في الدين). ولا يخفى أن من كانوا كذلك إنما يدينون ديناً آخر ويسمونه الإسلام.

فالدين هو جملة ما جاء به محمد r من عند الله من عقائد وعبادات وشرائع، كل ذلك داخل في مسمى الدين، المقصود بقوله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ} (آل عمران 19). وقوله: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً} (المائدة 3).
ولا يخفى أن في القرآن والسنة النبوية الصحيحة أحكاماً كثيرة كأحكام البيع، والربا، والرهن، والدًّين، والأشهاد، وأحكام الزواج، والطلاق، واللعان، والظهار، والحجر على الأيتام، والوصايا، والمواريث، وأحكام القصاص، والدَّية، وقطع يد السارق، وقذف المحصنات، وجلد الزاني، وجزاء الساعي في الأرض فساداً. بل في القرآن آيات حربية و. . . إلخ. وهذا يدلنا على أن من يدعو إلى فصل الدين عن السياسة إنما يدين ديناً آخر ويسميه الإسلام.
فالرضا بالإسلام ديناً هو الرضا بجميع ما جاء به محمد r من العقائد الغيبية والشعائر التعبدية والأحكام الشرعية، لا فرق في ذلك بين ما تعلق منه بعبادة من العبادات، أو بحكم من أحكام القضاء والسياسة، ما دام قد صح الخبر به عن الله- عز وجل- وعن رسولهr.
لا فرق بين قول الله- جل وعلا- : {وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ} (البقرة 43). وقوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (البقرة 257). أو قوله: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ منهما مِئَةَ جَلْدَةٍ} (النور 2). كل ذلك قرآن، يُتلى وكل ذلك دين واجب الإتباع.
يقول ابن القيم- يرحمه الله- : ( وأما الرضا بدينه: فإذا قال، أو حكم، أو أمر، أو نهى، رضي كل الرضا. ولم يبقى في قلبه حرج من حكمه. وسلّم له تسليماً. ولو كان مخالفاً لمراد نفسه أو هواه، أو قول مقلد و شيخه وطائفته)[4].
إن الرضا بالله رباً يعنى- كما سبق- أن يكون وحده هو الحكم، وأن يكون هداه وحده هو الهدى، وأن تكون كلماته وحدها هي الحجة القاطعة والحكم الأعلى لا غير. وإن الرضا بالإسلام دينا، تعني الرضا بجميع ما جاء به محمد r من الدين والالتزام المطلق بذلك جملة وعلى الغيب، فهل تحقق ذلك لدى من يدعون لفصل الدولة عن الدين ويقفون من شرائع الإسلام موقف الردّ والسخرية ؟

إن حال هؤلاء لا يخلو من ثلاثة أمور:
الأول: أن ينكروا أن في الإسلام أحكاماً وأصولاً تتصل بالقضاء والسياسة ابتداءً، ويزعموا أنه محض توحيد وعبادات، وهؤلاء إما أن يكونوا جهلة لا يعلمون؛ أو كفرة يكذبون، والسبيل مع الأولين هو التعليم وإزالة الجهالة، ومع الآخرين إقامة الحجة والاستتابة حتى يقام فيهم كتاب الله عند التمكين والاستطاعة.
الثاني: أن يقروا باشتمال الإسلام على الشرائع المتعلقة بالقضاء والسياسة ونحوه، ولكنهم ينكرون أن تكون كافلة بالمصالح، آخذة بالسياسة إلى أحسن العواقب، فيشككون في صلاحيتها أو يجحدون أو يعلنون كفرهم بها أو يكادون، وهؤلاء زنادقة مارقون، وكفر أمثالهم معلوم بالضرورة من الدين.
الثالث: أن يقروا باشتمال الإسلام على الشرائع المختلفة ويقرّوا بأنها تكون كافلة بالمصالح ولكنهم يرفضون أو يتركون تحكيم الشريعة لإرضاء الحاكم أو طمعاً في مال أو جاه وهؤلاء كفار، وكفر أمثالهم معلوم أيضاً بالضرورة من الدين.
فهل يعلم هؤلاء الذين جعلوا الإسلام عضين يؤمنون ببعض أحكامه ويكفرون ببعض أنهم جمعوا بذلك بين عدم الرضا بالله رباً وعدم الرضا بالإسلام ديناً وأنهم بذلك قد باءوا بخسارة الدنيا والآخرة.



تحكيم الشريعة وصلته بنبوة محمد r


لا يخفى أن الرضا بنبوة محمد r هو المدخل إلى الإسلام، فإن الشهادة لله بالوحدانية ولمحمد r بالرسالة هو أول واجب على المكلف، وأول ما يخاطب به الناس عند الدعوة إلى الإسلام، كما قال،r لمعاذ ابن عندما بعثه إلى اليمن: ( إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله .... ) الحديث.
فهل تعلم جماهير المسلمين ما حقيقة الرضا بمحمد r نبياً ورسولاً ؟ ومتى يصدق على المرء أنه رضي بنبوة محمد r ورسالته ؟!!!

إن حقيقة الرضا بمحمد r نبياً ورسولاً تتمثل في تصديق خبره جملة وعلى الغيب، والتزام هديه جملة وعلى الغيب، هذا هو مقتضى الإيمان بنبوة محمد r ورسالته، فما آمن بمحمد r،وما ارتضى نبوته من كذّب بخبره أو ردًّ عليه شرعه لأن حقيقة الإيمان هي التصديق والانقياد. ومن لم يحصل في قلبه التصديق والانقياد فهو كافر بالله العظيم .
يقول ابن القيم- يرحمه الله- : وأما الرّضا بنبيه رسولاً: فيتضمن كمالَ الانقياد له والتسليم المطلق إليه، بحيث يكونُ(r) أولى به من نفسه، فلا يتلقى الهدى إلا من مواقع كلماته، ولا يحاكِم إلا إليه، ولا يُحِّكم عليه غيره، ولا يرضى بحكمِ غيرهِ البتة، لا في شيء من أسماء الرب وصفاته وأفعاله، ولا في شيء من أذواق حقا~ق الإيمان ومقاماته، ولا في شيء من أحكام ظاهرة وباطنة، لا يرضى في ذلك بحكم غيره، ولا يرضى إلا بحكمه.
قال تعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً } (النساء 65).

قال ابن كثير- يرحمه الله- : ( يقسم - تعالى- بنفسه الكريمة المقدّسة أنه لا يؤمن أحد حتى يُحّكم الرسول r في جميع الأمور فما حكم به فهو الحقّ الذي يجب الانقياد له باطناً وظاهراً، ولهذا قال :{ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً } أي إذا حكموك يطيعونك في بواطنهم فلا يجدون في أنفسهم حرجاً مما حكمت به وينقادون له في الظاهر والباطن فيسّلمون لذلك تسليماً كلياً من غير ممانعة ولا مدافعة ولا منازعة كما ورد في الحديث: ( والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به ).[5]
ويقول ابن القيم - يرحمه الله- : ( فالرضا بالقضاء الديني الشرعي واجب، وهو أساس الإسلام وقاعدة الإيمان. فيجب على العبد أن يكون راضياً به بلا حرج، ولا منازعة ولا معارضة ولا اعتراض .
قال تعالى : {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً }.
فأقسم أنهم لا يؤمنوا حتى يحكِّموا رسوله، وحتى يرتفع الحرج عن نفوسهم من حكمه، وحتى يسلِّموا لحكمه تسليماً. وهذا حقيقة الرضا بحكمه.
فالتحكيم في مقام الإسلام، وانتفاء الحرج في مقام الإيمان، والتسليم في مقام الإحسان)[6].

ويقول الجصًّاص- يرحمه الله- : ( وفي هذه الآية دلالة على أن من ردًّ شيئاً من أوامر الله - تعالى- أو أوامر رسوله r فهو خارج من الإسلام، سواء ردًّه من جهة الشك فيه؛ أو من جهة ترك القبول والامتناع عن التسليم، وذلك يوجب صحة ما ذهب إليه الصحابة في حكمهم بارتداد من امتنع عن أداء الزكاة وقتلهم وسبي ذراريهم لأن الله- تعالى- حكم بأن من لم يسلِّم للنبي r قضاءه وحكمه فليس من أهل الإيمان)[7].

فأين هذا من ترك التحاكم إلى شريعته ابتداءً، أو اتهامها بالبداوة والرجعية ؟ أو الجمود وعدم الصلاحية للتطبيق ؟ أتظنون أنه يبقى مع ذلك من الإيمان حبة خردل، وقد أقسم ربنا في هذا القرآن هذا القسم على نفى الإيمان عن مجرد من وجد في نفسه حرجاً من قضاءه، r ؟!

أين هذا ممن يجلسون من شريعته مجلس الحكم الأعلى يصوِّبون منها ما يشاءون، ويقرُّون منها ما يشاءون، ويلغون منها ما يشاءون ويعدّلون منها ما يشاءون، ويزعمون الإصلاح والتقدمية، ويدَّعون التطور والاستنارة، وما دروا أنهم يتخبطون بذلك في أوحال من الكفر، ويتردُّون إلى دركات من الزندقة والنفاق الأكبر؟!


أيها المسلمون :

هل تقّدرون قدر نبيكمr؟ وهل توفون إليه حقه؟ لقد نُهي الصحابة في القرآن الكريم عن أن يرفعوا أصواتهم فوق صوت النبي r وأن يجهروا له بالقول كجهر بعضهم لبعض، وجعل من هذا الفعل - الذي قد يبدوا يسيراً- سبباً لحبوط الأعمال، وسبباً قاصداً إلى الردة عن الإسلام فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُم ْلا تَشْعُرُونَ }(الحجرات2).

يقول ابن القيم – يرحمه الله- : ( فإذا كان رفع أصواتهم فوق صوته سبباً لحبوط أعمالهم فكيف تقديم آرائهم وعقولهم وأذواقهم وسياساتهم ومعارفهم على ما جاء به ورفعها عليه؟ أليس هذا أولى أن يكون محبطاً لأعمالهم؟ )[8].

فكيف إذا كان الأمر إهداراً لشريعته واجتراءً على هديه وتطاولا ًعلى سنته، ونبذاً لما جاء به من شرائع الإسلام بالكليَّة ؟ هل يكون من يفعل ذلك محققاً للرضى بمحمد، r ، نبياً ورسولاً ؟ هل رضي بنبوته رجل يردّ شريعته، ويدفع أمره، ويتهم ما جاء به من الهدى ودين الحق بعدم الصلاحية ويدير له ظهره ؟ أجيبوا يا أولى الألباب ! وحدِّدوا مواقعكم ومواقفكم من هذا كله ، واذكروا قول الله -جل ولعلا- :{ فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَآئِبِينَ}. (الأعراف 7،6). إى وربى إنه لحق، سيسأل الله الرُّسل فيقول لهم :{ مَاذَا أُجِبْتُمْ }؟. (المائدة 109) وسيسأل الذين أرسل إليهم ويقول لهم : {مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ }. (القصص 65)؟ فماذا أعددتم جواباً لهذا السؤال، وأماناً من هذه الأهوال في موقف لا يجزي فيه والد عن ولده ولا مولود هو جازٍ عن والده شيئاً !!



وبعد :
فإن أصول الإسلام وهي الرّضا بالله رباً ، وبالإسلام ديناً ، وبمحمدٍ ،r ، نبياً ورسولاً ، تقتضي إفراد الله- جل ولعلا- بالحاكمية العليا والسيادة المطلقة ، وأن تكون كلماته وحدها هي الحكم الأعلى والحجة القاطعة ، كما تقتضي الإقرار المطلق بجميع ما صحَّ أنَّه من الدين تصديقاً وانقياداً لا فرق في ذلك بين العبادات والمعاملات ، وأنّ قَصْرَ الدين على جانب العقائد والعبادات فحسب ؛ باب من أبواب الردة والزندقة ، كما تقتضي الإقرار بجميع ما صحَّ به الخبر عن النبي ، r، تصديقأً وانقياداً وأن من رد شيئاً مما جاء به الرسول ، r، سواء كان رده من جهة الشك فيه أو من جهة ترك القبول والامتناع عن التسليم فهو بمثابة من لم يرضى بنبوته،r، لأن حقيقة الرضا بنبوته ،r، تصديق خبرة جملة وعلى الغيب، فمن لم يوجد في قلبه التصديق والانقياد معاً كان كافراً بالله ورسله خارجاً من الإسلام لا محالة .

لن يصح ادعاؤكم الإسلام حتى تعلموا أن السيادة العليا للشرع لا غير، وأن الحق في التشريع المطلق لم يجعله الله لأحد من دونه ، وأن ما تدعو إليه العلمانيِّة من تحكيم إرادة الأمة بدلاً من تحكيم الكتاب والسنَّة باب من أبواب الردة وخلع الربقة ومنازعة لرب في أخصّ خصائصه وأجمع صفاته .

لن يصح ادعاؤكم حتَّى تعلموا أنكم عبيد لله – جل وعلا- وأنكم مدينون بشرعه كما أنكم مدينون بقدَره، وأن الكتاب والسنَّة هما الحجّة القاطعة والحكم الأعلى ، وأنهما فوق القانون وفوق الدستور وفوق ما يصنعه البشر من الشرائع والأنظمة . أليس عجباً أن يكون القرآن في دين الله مهيمناً على جميع الكتب ، وهي في الأصل منزلة من عند الله ، ولا يكون في دينكم مهيمناً على ما تنشئونه من الدساتير والقوانين وهي من صنع أيديكم تغيرون فيها وتبدّلون كما تشاءون ؟ أيهيمن القرآن على الكتب السَّماويَّة وتجعلونه أهون من أن يهيمن علي الدساتير والأنظمة الوضعيَّة ؟ أتريدون أن تعلو شرائع اليهود والنَّصارى على شرائع الإسلام ؟ أتريدون أن تقدّموا بين يدي الله ورسوله بشرائع الفرنسيين والإنجليز وقد فعلوا بكم وبأمتكم وبدينكم ما تعلمون وما لا تعلمون ؟

يا قومنا أين إرادتكم ؟ أتطيب نفوسكم أن تعلوا ما يسمونها زوراً ( إرادة الأمة ) على حقائق الكتاب والسنّة ؟ ووالله لو نطقت إرادة الأمة ما دعت إلاّ إلى الإسلام ، ولا تحاكمت إلاّ إلى ما أنزل الله ، ولا كفرت إلاّ بمن يشرك بالله باسمها، ويردّ شرائع الله مدعياً تمثيلها والنيابة عنها في ذلك وهي منه ومن كفره وشركه براء .




أيها المسلمون :

يجب أن تعلموا أنه لا يجتمع انتساب إلى الإسلام والتمرّد على شرائع الإسلام تكذيباً أو إباءً بحال من الأحوال ، بل إما أن تكونوا أنصاراً للإسلام في كل مكان . لا تنكرون لله حكماً ، ولا تردّون عليه أمراً ، ولا تسعون في آياته معاجزين ، ولا لتطبيق شريعته معوقين فأنتم المسلمون المؤمنون عباد الله ، وإما أن تجتالكم الأهواء عن دينكم فتوالون أعداء الشريعة وتسعون في آيات الله معاجزين ولشريعته معطّلين ولأحكامه رادّين فلستم من الله ولا من الإسلام في شىء ، وإن صلّيتم وصمتم وزعمتم أنكم مسلمون !



















الفصل الثاني

تحكيم الشريعة وصلته بالتوحيد


لقد تمهَّد في مُحكمات النصوص أن إفراد الله بالعبادة هو أوّل واجب على المكلّف وأنَّه الدين الذي دعا إليه الأنباء والمرسلون على مدار التاريخ البشري كلّه ، وأنه الشرط في قبول سائر الأعمال ، فكما لا تُقبل صلاة بغير وضوء لا تقبل عبادة بغير توحيد .
قال تعالى : {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ} (النحل36)
وقال تعالى : {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ } ( الأنبياء 25).
وقال تعالى : {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُن مِّنْ الشَّاكِرِينَ } ( الزمر 65،66)
كما تمهد أيضاً أن التحاكمَ إلى ما أنزل الله والتزامُ ما فصَّلَ لعباده من الحلّ والحرمة وسائر الشرائع صورة من صور العبادة لا يجوز أن تصرف إلى غير الله ، قال تعالى : { إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ } (يوسف 40) .

بل إن هذا الأمر يمثّل كما سبق حقيقة دين الإسلام الذي بعث الله به أنبيائه جميعاً ، والذّي لا يخرج عن كونه استسلاماً لحكم الله -جل وعلا- وانقياداً لشرعه .

يقول ابن كثير في تفسير قوله تعالى : {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ } . أي حيث عدلتم عن أمر الله لكم وشرعه إلى قول غيره فقدمتم عليه غيره فهذا هو الشرك كقوله تعالى : {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ} . الآية ، وقد روى الترمذى في تفسيرها عن عدي بن حاتم الطائي أنه قال : يا رسول الله ما عبدوهم ، فقال : " بلى إنهم أحلّوا لهم الحرام وحرّموا عليهم الحلال فاتّبعوهم فتلك عبادتهم إياهم "[9].
وقول الشنقيطي -يرحمه الله- في تفسير هذه الآية : إنها ( فتوى سماوية من الخالق - جل وعلا- صرّح فيها بأن متبع تشريع الشيطان المخالف لتشريع الرحمن مشرك بالله )[10].

فتأملوا رحمكم الله كيف جعل الله طاعة اليهود في أمر واحد مما حرَّم الله باباً من أبواب الشرك ، فكيف بأنظمتنا في واقعنا المعاصر وهي تستحلّ مخالفة أمر الله في سائر شئونها العامّة والخاصّة ، ولا تُبقي للدين إلا جانبَ الشعائر والعبادات ؟! كيف بها وهي تهدر سيادة الشريعة الإسلامية ابتداءً وتعلى عليها سيادة القوانين الوضعية ؟ كيف بها وهي تردُّ الأمرَ ابتداءً إلى كتاب غير القرآن وإلى دين غير دين الإسلام ؟ بل كيف بمن يقيمون من أنفسهم في المجالس التشريعيّة حَكماً أعلى يهيمن على الكتاب والسنّة ، فيقرُّ من أحكامهما ما يشاء، ويلغي من أحكامهما ما يشاء ، ويرجىء من تطبيق أحكامهما ما يشاء ، ويقدّم إلى العمل من أحكامهما ما يشاء ؟!
أرأيتم رحمكم الله كيف كانت الربوبية فى بني إسرائيل ؟ ألا إنهم لم يصلوا لأحبارهم ولم يسبحوا بحمدهم من دون الله ، ولكن اتبعوهم في ما حلّلوا وحرَّموا على خلاف حكم التوراة ، فتركوا تحليل الله وتحريمه إلى تحليل هؤلاء وتحريمهم فاتَّخذوهم بذلك أرباباً من دون الله ، ولهذا قال تعالى : {وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَـهاً وَاحِداً}. أي الذي إذا حرَّم الشىء فهو الحرام ، وما حلّله فهو الحلال ، وما شرعه اتُبع، وما حكم به نُفِّذ .

فتأملوا رحمكم الله مناط الشرك في هذه الآيات وقارنوا بينه وبين ما يجري عليه العمل في واقعنا المعاصر ، لقد استبدلنا أعضاء البرلمان ومجلس الشورى والمجالس النيابيّة والهيئات التشريعيَّة ، بالأحبار والرهبان ، فتركنا تحليل القرآن وتحريمه إلى تحليل البرلمان وتحريمه ، فلا جريمة ولا عقوبة إلا بقانون ، والقانون هنا ليس الوحي المعصوم ، ولكنه الصادر عن البرلمان فهو المحرَّم . وما أباحه فهو المباح . وما تركه فهو المعفو المسكوت عنه ، وما اعتمده من العقوبات فهو المشروع المقرّر ، وما لم ينص عليه منها فهو الباطل المنكر . وهكذا تحيا خُلوف[11] المسلمون !!



لقد كان لبني إسرائيل أثارة من شبهة لأنهم يتَّبعون أحبارهم ورهبانهم ، ولعلَّهم كانوا يظنُّون أنَّهم يمارسون ذلك في نطاق اختصاصاتهم الدينيًّة أو هكذا ليس عليهم علماؤهم ، فما بالنا نحن نمعن في عنادنا واستكبارنا وشرودنا عن الله بلا شبهة ولا أثارة من شبهة ، اللهم إلا حجباً من الجهالة والكفر ، ظلمات بعضها فوق بعض ؟!!
ولتتأملوا معي بعض الأمثلة من واقعنا المعاصر :
· يحرِّم الله - عز وجل- الزِّنا ويشدِّد النّكير على أصحابه ، ويقرّر له عقوبات غليظة تتفاوت بين الجلد والرَّجم وبحسب حال الزاني من إحصان أو عدمه ، ويقرر هذه العقوبة حدَّاً من حدود الله ، لا يسقط بعفوٍ من أحد ، ومن حالت شفاعته دون حدِّ من حدود الله فقد ضاد الله في أمره .
ولكن القانونَ الوضعي لا يرى بأساً بالزنا إذا وقع عن تراضٍ ممن بلغوا سن الرُّشد القانونَّية ، بل لا يعد الوطء المحرَّم ابتداءً من قبيل الزنا إلا إذا صدر من مُحصَنٍ وعلى فراش الزوجية ، ويرى أن تحريك الدعوى في هذه في هذه الحالة حقٌ للزوج وحده ويجيز للزوج أن يتدخل لإيقاف الدعوى في أي مرحلة من مراحل التقاضي كانت ، بل له أن يتدخل لإيقاف العقوبة حتى بعد صدور الحكم النهائي الباتِّ!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!! !!!!!!! . فماذا كان ؟ لقد ترك تحريم القرآن وعقابه إلى إباحة القانون وعفوه بل وحمايته ، لأنه لا جريمة ولا عقوبة إلا بقانون ، والقانون لم يعتبر هذه الزِّنا جريمة ولا يستوجب في نظره شيئاً من العقوبة !

· وهذه هي الخمر أمُّ الخبائث يحرّمها القرآن وتقرر لها السنّة عقوبة موجعة ، ولكن القانون الوضعي لا يرى بها بأساً ، بل ويصدر التراخيص القانونيَّة للمحالّ التي تزاول بيعها ويحميها بقضائه وشرطته!! ، فماذا كان ؟ لقد أهدر تحريم القرآن للخمر وما قرّرته السنّة من العقوبة عليها إلى إباحة هذه القوانين للخمر وحماية أصحابها ، وأصبح المساس بهذه المحالّ من التطرّف الذي يجب أن يستنفر لمقاومته وقهره أقلام الكتاب وكتائب الأمن المركزي ، بل المدفعيَّة والدبابات إذا لزم الأمر.



فيا معشر من آمن بالله ورسوله :
لا يصح توحيدكم حتّى تفردوا الله وحده بالحاكميّة العليا والسيادة المطلقة .
لا يصح لكم توحيد تكون آياته وحدها هي الحكم الأعلى والحجّة القاطعة والمرجع النهائي عند التَّنازع .
لا يصحُّ لكم توحيد حتى الأمر والنهي والتحليل والتحريم لله لا للبرلمان ، بل للكتاب والسنّة ، لا ما تسّمونه إرادة الأمة .
لا يصحُّ لكم توحيد حتى تعلو سيادة الشريعة الإسلاميَّة على ما عداها من الأنظمة والشرائع الوضعية .
لا يصحُّ لكم توحيد حتى تلتزموا بتحليل الله وتحريمه وسائر شرائعه وحده ، فلا ترون حلالاً إلا ما أحله ، ولا ترون حراماً إلا ما حرّمه ولا ترون واجباً إلا ما أوجبه ، ولا ترون ديناً إلا ما شرعه.
لا يصحُّ لكم توحيد إن سعيتم في آيات الله معاجزين ، أو كنتم لإقامة شريعته معوقين ، أو انحزتم مع خصوم الشريعة من العلمانيين ودعاة التحليل والإباحيَّة ممَّن يصدّون عن سبيل الله ويبغونها عوجاً !

أيها الناس النجاة النجاة ! إني لكم بين يدي عذاب شديد !

















الفصل الثالث


تحكيم الشريعة وصلته بالإيمان


لقد تمهد في أصول أهل السنة والجماعة أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص ، وأن أصله تصديق الخبر والانقياد للأمر ، فمن لم يحصل في قلبه التصديق والانقياد كان كافراً بالله العظيم .
وهُم بهذا يردون باطل المرجئة الذين أخرجوا الأعمال كلها من مسمى الإيمان ، وباطل الخوارج الذين أدخلوا الأعمال جميعاً في أصله .
ويفرقُ أهلُ السنة والجماعة بين هذا الإيمان المجمل الذي لا تثبت صفة الإسلام إلا باستيفائه وبين الإيمان الكامل الواجب الذي هو فعل الواجبات والمندوبات واجتناب المحرَّمات والمكروهات والذي لا يخدش الإخلال به أصل الإيمان ولكن يخدش كماله الواجب والمستحب بحسب الأحوال ، ويتفاوت الناس فيه بين ظالم لنفسه ومقتصد وسابق بالخيرات بإذن الله .
نخلُصُ من هذا كلّه إلى أن الإيمان المعتبر عند أهل السنة والجماعة والذي ينجي أصحابه من الخلود في نار جهنَّم هو حقيقة مركّبة من القول والعمل ، فهو التصديق الانقيادي ، أو الإقرار المجمل بما جاء به محمد ،r، تصديقاً وانقياداً ، فمن لم يتحقّق في قلبه هذان الأمران لم يثبت له عقد الإسلام .
فلا يثبت إذن عقد الإسلام بمجرّد التصديق بالأحكام الشرعيّة بل لابدّ لثبوته من التزامها جملة وعلى الغيب ، فمن زعم التّصديق بالإسلام ووقف من شرائعه موقف الردّ أو الإباء أو الترك أو الاعتراض فإنه لا يثبت له عقد الإسلام حتى يعقد قلبه على مجموع الأمرين :
تصديق خبره ،r، جملة وعلى الغيب ، والتزام هديه ،r، جملة وعلى الغيب .


يقول الإمام محمد بن نصر المروزي : ( الإيمان أن تؤمن بالله :فأن توحّده وتصدّق به بالقلب واللسان ، وتخضع له ولأمره بإعطاء العزم للأداء لما أمر ، مجانباً للاستنكاف والاستكبار والمعاندة ، فإذا فعلت ذلك ، لزمت محابه واجتنبت مساخطه،وإيمانك بمحمد: إقرارك به وتصديقك إيَّاه واتِّباعك ما جاء به ،فإذا اتَّبعت ما جاء به ، أديت الفرائض ، وأحللت الحلال ، وحرَّمت الحرام ، ووقفت عند الشبهات ، وسارعت في الخيرات)[12] .

ويقول القسطلاني في إرشاد الساري : ( فليس حقيقة التَّصديق أن يقع في القلب نسبة التصديق إلى الخبر أو المخبر من غير إذعان وقبول ، بل هو إذعان وقبول لذلك بحيث يقع عليه اسم التسليم )[13].

ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية : ( ومعلوم أن الإيمان هو الإقرار ، لا مجرَّد التَّصديق ، والإقرار ضمن قول القلب الذي هو التَّصديق ، وعمل القلب الذي هو الانقياد ، تصديق الرَّسول فيما أخبر ، والانقياد له فيما أمر، كما أن الإقرار بالله هو الاعتراف به ، والعبادة له .
والكفر هو عدم الإيمان ، سواء كان معه تكذيب ، أو استكبار ، أو إباء ، أو إعراض ، فمن لم يحصل في قلبه التّصديق ، والانقياد فهو كافر )[14].

ويقول ابن القيّم – يرحمه الله- : ( ونحن نقول : الإيمان هو التَّصديق ، ولكن ليس التصديق مجرد اعتقاد صدق المخبر دون الانقياد له ، ولو كان مجرد اعتقاد التصديق إيماناً لكان إبليس وفرعون وقومه وقوم صالح واليهود الذين عرفوا أن محمدً رسول الله،r، كما يعرفون أبنائهم مؤمنين مصدَّقين . فالتصديق إنما يتم بأمرين : أحدهما اعتقاد الصِّدق ، والثاني محبة القلب وانقياده )[15].
ويقول في موضع آخر: ( فإنَّ الإيمان ليس مجرد التصديق- كما تقدم بيانه- وإنما هو التصديق المستلزم للطاعة والانقياد . وهكذا الهدى ليس هو مجرّد معرفة الحق وتبنّيه بل هو معرفته المستلزمة لاتِّباعه والعمل بموجبه ، وأن سمّي الأول هدى التَّام المستلزم للاهتداء ، كما أن اعتقاد التصديق وإن سمّي تصديقاً فليس هو التصديق المستلزم للإيمان فعليك بمراجعة هذا الأصل ومراعاته )[16].

قال الله تعالى : {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً } (النساء 60،61) .

فأنكر الله – عز وجل- على من يدّعي الإيمان بما أنزل الله على رسله وعلى الأنبياء الأقدمين وهو مع ذلك يريد أن يتحاكم في فصل الخصومات إلى غير الكتاب والسنة ، وبّين أن هذا الضرب من الناس هم المنافقون لأنه لا يجتمع الإيمان بالله وترك التَّحاكم إلى ما أنزل الله بحال من الأحوال .
فيا قومنا : تدبَّروا هذه الحقيقة ، وأيقنوا أن ادعاء الإسلام والإيمان لا يعدوا أن يكون زعمًا كاذبًا حتى يقبل أصحابه أحكام الله ، ويعلنوا التزامهم بها جملة وعلة الغيب ، ويكفروا بكل ما يُتحاكم إليه من دون الله .

وقال تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً }( النساء 59) .

قال ابن كثير – يرحمه الله- : ( وهذا أمر من الله – عز وجل- بأن كل شىء تنازع النَّاس فيه من أصول الدّين وفروعه أن يُردّ التنازع في ذلك إلى الكتاب والسنة كما قال تعالى : {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ }. فما حكم به الكتاب والسنة وشهدا له بالصِّحَّة فهو الحقّ ، وماذا بعد الحقّ إلا الضَّلال ولهذا قال تعالى : { إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ } . أي ردُّوا الخصومات والجهالات إلى كتاب الله وسنّة رسوله فتحاكموا إليهما فيما شجر بينكم { إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ } . فدلَّ على أن من لم يتحاكم في محل النزاع إلى الكتاب والسنّة ولا يرجع إليهما في ذلك فليس مؤمنًا بالله ولا باليوم الأخر )[17].

وقال تعالى : {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً } (النساء 65) .
فتأمَّلوا رحمكم الله كيف جعل تحكيم الرسول r، أي تحكيم شريعته شرطًا في الإيمان ، وكيف أقسم بذاته العُليا على نفي الإيمان عمَّن لم يحكِّموا رسول الله ، r، فيما شجر بينهم من خلاف .
فيا قومنا تدبَّروا هذه الحقيقة ! وحاكموا إليها واقع الأنظمة الوضعيَّة المعاصرة التي قامت ابتداءً على الفصل بين الدّين والدولة وعلى الإقرار بالحقّ في التشريع المطلق لبشر من دون الله !!


ولقد كان من أخطر الآفات-الّتي مُنيَ بها الفكر الإسلامي في عصور الانحطاط-شيوع القول المخالف لعقيدة أهل السُنَّة في باب الإيمان بِقَصْرِ الإيمان على مجرد التصديق الخبري الَّذي لا ينقضه إلا تكذيب اللسان فحسب.
ولهذا عربد المعربدون من الطواغيت ومن شايعهم،وأجهزوا على شريعة الإسلام وولغوا في دماء أبنائه وهم لا يزالون عند أنفسهم،وفي حِسِّ كثير من شعوبهم مسلمين!لأنهم لم يعلنوا بألسنتهم التكذيب بالتوحيد والرّسالة!!!.
ولو كان الإيمان هو مجرد التصديق ما كان هناك وجهٌ لتكفير أبي طالب وهو القائل:
ولقد علمتُ بأن دين محمد من خير أديان البريــــة دينا
بل هو الّذي عاش طيلة عمره يدفع عن رسول اللهr ويحوطه ويمنه، بل وتحمّل معه في الشِّعب أقصى ما تحمّله المؤمنون الصادقون ،ولكنه مع ذلك أبى الانقياد للإسلام فمات يوم مات كافراً بالله العظيم!! وعندما قال النبي r :"لأستغفرنّ لك مالم أنهَ عنك"أنزل الله عزّ وجلّ قوله:{ما كان للنبي والّذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم}التوبة113، وقد صح أنه أهونُ أهل النار عذاباً يقف على جمرتين من نار تغلي منهما عروق رأسه، وهو يظنُّ أنه أشدُّ أهلها عذاباً!
ولو كان الإيمان مجرد التصديق ما كان هناك وجه لتكفير علماء أهل الكتاب بعد أن قال الله فيهم{الّين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبنائهم وإن فريقاً منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون}البقرة146.
وكفر هؤلاء معلوم بالضّرورة من الدين.
بل لو كان الإيمان مجرد التصديق ما كان هناك وجه لتكفير أهل مكة وقد قال الله فيهم:
{قد نعلم أنه يحزنك الّذي يقولون فإنهم لا يكذّبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون}الأنعام33.
بل لما كان هناك وجه لتكذيب إبليس ،فإنه لم يقع منه تكذيب،لأنّ الله-تعالى- قد باشره بالخطاب ولم يرسل إليه رسولاً يأمره بالسجود،ولكنه أبى واستكبر وكان من الكافرين واستحقّ على ذلك لعنة الخلد ونار الأبد.
أيها المسلمون:
ما أيسر إدِّعاء الإيمان، وما أسهل أن يرفع كلُّ إنسان عقيرته بأنه مؤمن،ولا يزال المنافقون والزنادقة على مدار التاريخ يدّعون الإيمان بل ويزعمون للناس أنهم مجددون،وأنهم يصلحون في الأرض ولا يفسدون.
لقد ادعى الإيمان غلاةُ الباطنية وقد قالوا ما قالوا في القرآن الكريم،وفي صحابة رسول اللهr ،وفي أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وانتحلوا من العقائد ما تتضاءل دونه عقائد اليهود والنصارى والمجوس.
وادّعى الإيمان القاديانيّة مع قولهم بنبوة مرزا غلام أحمد، وتكفيرهم لكافّة المسلمين لأنهم لا يؤمنون بنبوته وادّعى الإيمانَ البهائيّةُ والبابيّةُ والبهرةُ وغيرهم من دعاة الضلالة والزندقة.
وادّعى الإيمان شيوعيّو هذا العصر ولقبّوا أنفسهم بقلب(الحاجّ) وأقاموا في أحزابهم لجاناً للشئون الدينية !!
{يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون}.(البقرة9).
بل ادّعى الإيمان من دعا إلى زمالة بين الأديان-ليهدم حاجز الولاء والبراء-ودعا إلى تأليف كتب دينية مشتركة يلتقي عليها المسلمون والنصارى واليهود.
وادّعى الإسلام خصوم الشريعة ودعاة التغريب والعلمانية ممن أنفقوا أعمارهم في تسويد الصحائف الطِوال في تشويه شرائع الإسلام وفتنة الناس عنها ، ودعوة الناس جِهاراً إلى الكفر بالإسلام الدّولة والاكتفاء به عقائد وشرائع يمارسها من شاء وطافوا في جامعات الغرب يزيّفون وعي العالم عن تاريخ الإسلام، ويقدِّمونه لأهل هذه البلاد على أنه جملة من الظلم والاستبداد وسلسلة من المجون والتهتكات!

أيها المسلمون:
ما أرخص الإيمان عندما يكون كلاماً وما أغلاه عندما يصير حرمة وذماماً،وإنّكم في مواقعكم المختلفة مسئولون أمام الله-جل وعلا-عن الانتصار لشريعته وإعلاء كلمته وتعرية خصومه وأعدائه،واعلموا أن لا صحّة لإسلام رجلٍ باع نفسه للشيطان،ووقف في صفوف خصوم الشريعة يكيد لها مع الكائدين ويطعن فيها مع الطاعنين!
إن في الأمة حفنة مارقة نبذت رداء عقيدتها ورداء إسلامها،وباتوا أبواقاً لدعوات التضليل والفتنة الوافدة من الغرب والشرق،يقبلوا الانتساب إلى أية راية –شرقية كانت الراية أو غريبة-إلا أن تكون هذه الراية هي الإسلام!،ويتسامحون مع كل دعوة ليبرالية كانت هذه الدعوة أو فاشية أو ما شاء الشيطان من صنوف الضلالة والغواية إلا أن تكون هذه الدعوة الإسلام،ورغم ذلك لا يزال لهم انتساب صوري إلى الإسلام!،وإن ذهبت َ تجادلهم زعموا لك أنهم مسلمون كابراً عن كابر،وأنهم عريقون في الإيمان..!
فهل يعلم الذين يخدِّرون عقولهم وأرواحهم بأوهام الإرجاء والتجهم ،يزعمون أن الإيمان هو التصديق، وأنهم ماداموا لم يكذِّبوا بشئ من القرآن والسنّة فهم المسلمون المؤمنون وإن بدلوا من أحكام الله ما بدلوا وردّوا من شرائعه ما ردّوا، وطعنوا في دينه ما طعنوا،ونسبوا شريعته إلى البداوة والهمجية،ونعتوا حدوده بالبشاعة والوحشية، وتحالفوا مع شياطين الإنس والجن في الشرق والغرب لنبذ هذه الشريعة،وفتنة حملتها، وإبادة الداعين إليها..!
هل يعلم هؤلاء المبطلون أنهم من الإسلام مارقون وعن أهله مبعدون، وأنهم عند ربهم موقوفون ليذيقهم عذاباً شديداً وليجزيهم أسوأ الذي كانوا يعملون؟!
هل يعلم الّذين يسعون لفصل الدين عن الدولة أن فصل الدين عند الدولة هدمٌ للدين كله وأنه لا يُقدِمُ عليه المسلمون إلا بعد أن أصبحوا مرتدين لمجرد سعيهم هذا.
هل يعلم الذين يدعون إلى العلمانية ويروجون للفصل بين الدين والسياسة أن العلمانية ثورة في وجه النبوة،وأنها انقلاب ضد الدين،وأنها حريقٌ حول الكعبة؟!!
هل يعلم هؤلاء الّذين يدَّعون الإيمان مع كفرهم بشرائع الإسلام،وموالاتهم لأعداء الإسلام،وإصرارهم على بقاء الأمّة تدور في فلك الأنظمة الوضعية أنهم بذلك يُسلمون مقاد أمتهم إلى اليهود الصهاينة وإلى الصليبيين،وأنهم يجرونها ورائهم إلى الهاوية،وأن حظهم من الإيمان كحظِّ الزنادقة والملاحدة وغيرهم من سائر المرتدين؟!
هل يعلم هؤلاء أن عقد الإسلام لا يثبت إلا على قد التصديق والانقياد،وأنهم إذ يرفضون الانقياد لشرائع الله
بل يرفضون ردّ الأمور ابتداءً في مجال القضاء والسياسة ونحو ذلك إلى الكتاب والسنّة فإنهم بذلك لا يزالون مرتدّين على أعقابهم يتخبطون في أوحال من الكفر ودركات من الغواية والضلالة ظلمات بعضها فوق بعض؟
هل يعلم هؤلاء أن أعداء الأمة أحرص ما يكونون على إخراج الإسلام من المعركة حتى يبقى هذا المارد حبيساً في قمقمه فتظل جيوشهم تصول وتجول وحدها في الميدان؟!
لقد نشرت صحيفة "يديعوت أحرونوت"في 18/3/1978م مقالاً حللت فيه الهجوم على جنوب لبنان وانتقدت إجراء التلفزيون اليهودي مقابلات مع العميل الخائن سعد حدّاد وإبراز معالم البهجة التي عمّت القرى المارونية النصرانية إزاء احتلال الجيش اليهودي لجزء كبير من جنوب لبنان، وفيما يلي قطوف من هذا التحليل لعل فيها عبرة لهؤلاء المخدوعين والنيام:
قالت الصحيفة :"إن على وسائل إعلامنا ألا تنسى حقيقة هامّة هي جزء من إستراتيجية اسرئيل في حربها مع العرب،هي أننا قد نجحنا بجهودنا وجهود أصدقائنا في إبعاد الإسلام عن معركتنا مع العرب طوال ثلاثين عاما ،ويجب أن يبقى الإسلام بعيداً عن المعركة إلى الأبد،ولهذا لا يجب أن نغفل لحظة واحدة عن تنفيذ خطتنا في منع استيقاظ الروح الإسلامية بأي شكل ،وبأي أسلوب ولو اقتضى الأمر الاستعانة بأصدقائنا الاستعمال العنف والبطش لإخماد أيّة بادرة ليقظة الروح الإسلامية في المنطقة المحيطة بنا"واختتمت الصحيفة تحليلها قائلة :
"ولكن تلفزيوننا الإسرائيلي وقع في خطأ أرعن ،كاد أن ينسف كل خططنا ،فقد تسبب هذا التصرف في إيقاظ الروح الإسلامية،ولو على نطاقٍ ضيّق،ونخشى أن تستغل الجماعات الإسلامية المعروفة بعدائها لإسرائيل هذه الفرصة لتحريك المشاعر ضدنا ،وإذا نجحت في ذلك،وإذا فشلنا بالمقابل في إقناع"أصدقائنا" بتوجيه ضربة قاضية إليها في الوقت المناسب فإن على "إسرائيل"أن تواجه حين ذلك عدوّا حقيقياً"لا وهميّاً" وهو عدو حرصنا أن يبقى بعيداً عن المعركة.
وستجد إسرائيل نفسها في وضعٍ حرج،إذا نجح المتعصبون ،أولئك الذين يعتقدون أن أحدهم يدخل الجنة إذا قتل يهوديّاً،أو إذا قتله يهودي"
ترى هل يفيق هؤلاء؟أم أن حجب الغفلة ورين الأهواء أكثف من أن ينفذ منها شعاع من النور،أو أن تتخللها صيحة نذير..!
ترى هل يعقل هؤلاء الذين يقهرون صوت الإسلام في شعوبهم أنهم يخربون بيوتهم بأيديهم وأنهم يفعلون ذلك لحساب أعدائهم الذين يقبعون وراء الستار يوجهون المسار ويقطفون الثمار..!





الفصل الرابع


إجماع الأمة على كفر من ترك التحاكم


إلى الكتاب والسنة

إن هذا الذي ذكرناه من أن تحكيم الشريعة شرط في ثبوت عقد الإسلام،وأنَّه لا يتحقق الرضا بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمد ،r، نبيًّا ورسولاً إلا بالانقياد لشريعة الله والإقرار بجميع ما أنزل الله تصديقًا وانقيادًا, وأن من ترك شيئًا من ذلك فقد كفر، هو من الحقائق المعلومة بالضرورة من الدين، وقد انعقد عليها إجماع المسلمين جيلاً بعد جيل, ولا يزال أهل العلم قديمًا وحديثًا ينصُّون عليها في عقائدهم، ويبيِّنوها في مصنَّفاتهم لا يعرف في ذلك مخالف على مدى هذه القرون المتعاقبة.
ولننقل لكم طرفًا من مقالاتهم حتى تتبدَّد الحُجب وتنجلي الغياهب:
أولاً: الحافظ ابن كثير:
يقول الحافظ ابن كثير في تفسير قوله تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ }. (ينكر تعالى على من خرج عن حكم الله _ المحكم المشتمل على كل خير الناهي عن كل شر_ وعدل إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله, كما كان أهل الجاهليَّة يحكمون به من الضلالات والجهالات مما يضعونها بآرائهم وأهوائهم, وكما يحكم به التتار من السياسات الملكية المأخوذة عن ملكهم جنكيز خان الذي وضع لهم الياسق وهو عبارة عن كتاب مجموع من أحكام قد اقتبسها من شرائع شتَّى من اليهودية والنصرانية والملة الإسلامية وغيرها, وفيها كثير من الأحكام أخذها من مجرد نظره وهواه فصارت في بنيه شرعًا مُتَّبعًا يقدِّمونه على الحكم بكتاب الله وسنة رسول الله,r, فمن فعل ذلك منهم فهو كافر يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله فلا يحكم سواه في قليل ولا كثير)[18].
ويقول في تفسير قوله تعالى: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ}.
(.. هذا أمر من الله- عزّ وجلّ- بأن كل شيء تنازع فيه الناس من أصول الدين وفروعه أن يرد التنازع في ذلك إلى الكتاب والسنَّة كما قال تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ}. فما حكم به الكتاب والسنة وشهدا له بالصِّحَّة فهو الحق , وماذا بعد الحق إلا الضلال, ولهذا قال: {إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ}. فدلّ على أن من لم يتحاكم في محل النزاع إلى الكتاب والسنَّة ولا يرجع إليهما في ذلك فليس مؤمنًا بالله ولا باليوم الآخر)[19].
ويقول في البداية والنهاية: (فمن ترك الشرعَ المُحكَم المُنزَّل على محمد بن عبد الله خاتم الأنبياء وتحاكم إلى غيره من الشرائع المنسوخة كفر, فكيف بمن تحاكم إلى الياسق وقدّمها عليه؟ من فعل ذلك فقد كفر بإجماع المسلمين).


ثانياً: الإمام أبو بكر الجصاص:
ويقول الجصَّاص في أحكام القرآن في تفسير قوله تعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً }. (النساء65). (وفي هذه الآية دلالة على أن من ردَّ شيئًا من أوامر الله-تعالى- أو أوامر رسوله,r, فهو خارج من الإسلام, سواء ردَّه من جهة الشك فيه أو من جهة ترك القبول والامتناع عن التسليم وذلك يوجب صحَّة ما ذهب إليه الصحابة في حكمهم بارتداد من امتنع من أداء الزكاة وقتلهم وسبي ذراريهم لأنَّ الله-تعالى- حكم بأن من لم يسلم للنبي,r, قضاءه وحكمه فليس من أهل الإيمان)[20].
ثالثاً: شيخ الإسلام ابن تيمية:
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية: (والإنسان متى حلل الحرام المجمع عليه, أو حرَّم الحلال المجمع عليه, أو بدَّل الشَّرع المجمع عليه كان كافرًا مرتدَّا باتفاق الفقهاء)[21].
رابعاً: الشيخ محمد بن إبراهيم المفتي السابق للمملكة العربية السعودية:
ويقول الشيخ محمد بن إبراهيم المفتي السابق للمملكة العربية السعودية: (إن من الكفر الأكبر المستبين, تنزيل القانون اللعين منزلة ما نزل به الروح الأمين على قلب محمد,r,ليكون من المنذرين بلسان عربي مبين, في الحكم به بين العالمين والردّ إليه عند تنازع المتنازعين.مناقضة ومعاندة لقول الله-عزّ وجلّ-: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً}[22].
خامساً: المحدّث أحمد شاكر:
يقول الشيخ أحمد شاكر: (إن الأمر في هذه القوانين الوضعية واضح وضوح الشمس, هي كفر بواح, لا خفاء فيه ولا مداورة, ولا عذر لأحد ممن ينتسب للإسلام-كائنًا من كان- في العمل بها أو الخضوع لها أو إقرارها, فليحذر امرؤ لنفسه, وكل امرئ حسيب نفسه)[23].


سادساً:الشيخ محمود شاكر:
يقول الشيخ محمود شاكرفي بيان الفرق بين تحكيم القوانين الوضعيَّة وبين الانحرافات الجزئيَّة العارضة: (فلم يكن سؤالهم عمَّا احتجّ به مبتدعة زماننا من القضاء في الأموال والأعراض والدِّماء بقانون مخالف لشريعة أهل الإسلام, ولا في إصدار قانون ملزم لأهل الإسلام بالاحتكام إلى حكم غير الله في كتابه وعلى لسان نبيه,r, فهذا الفعل إعراض عن حكم الله, ورغبة عن دينه وإيثار لأحكام أهل الكفر على حكم الله-سبحانه وتعالى- وهذا كفر لا يشك أحد من أهل القبلة-على اختلافهم- في تكفير القائل به والداعي إليه.
والذي نحن فيه اليوم هو هجرٌ لأحكام الله عامَّة بلا استثناء, وإيثار حكم غير حكمه في كتابه وسنَّة نبيِّه, وتعطيل لكل ما في شريعة الله, بل بلغ الأمر مبلغ الاحتجاج على تفضيل أحكام القانون الموضوع على أحكام الله المنزلة, وادعاء المحتجّين بذلك بأن أحكام الشريعة إنَّما نزلت لزمان غير زماننا, ولعلل وأسباب انقضت, فسقطت الأحكام كلها بانقضائها).
سابعاً: الشيخ محمد الخضر حسين شيخ الجامع الأزهر:
ويقول محمد الخضر حسين شيخ الجامع الأزهر: (فصل الدين عن السياسة هدم لمعظم حقائق الدين ولا يقدم عليه المسلمون إلا بعد أن يكونوا غير مسلمين)[24].
ثامناً: الشيخ محمد حامد الفقي (الرئيس العام الأول المؤسس لجماعة أنصار السنّة المحمدية بمصر):
ويقول الشيخ محمد حامد الفقي: (من اتَّخذ من كلام الفرنجة قوانين يُتحاكم إليها في الدماء والفروج والأموال, ويقدمها على ما علم وتبين له من كتاب الله وسنة رسوله,r, فهو بلا شك كافر مرتد إذا أصر عليها ولم يرجع إلى الحكم بما أنزل الله. ولا ينفعه بأي اسم تسمَّى به ولا أي عمل من ظواهر أعمال الصلاة والصيام والحجّ ونحوها)[25].
تاسعاً: الشيخ عبد العزيز بن باز الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد بالمملكة العربية السعودية:
ويقول الشيخ عبد العزيز بن باز في معرض نقده لدعوة القومية العربية: (إن الدعوة إليها والتكتل حول رايتها يفضي بالمجتمع ولا بدّ إلى رفض حكم القرآن, لأن القوميين غير المسلمين لن يرضوا تحكيم القرآن, فيوجب ذلك لزعماء القومية أن يتخذوا أحكامًا وضعيَّة تخالف حكم القرآن حتى يستوي مجتمع القوميَّة في تلك الأحكام.
وقد صرَّح الكثير منهم بذلك كما سلف. وهذا هو الفساد العظيم والكفر المستبين والرِّدَّة السافرة كما قال تعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً }. وقال تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ }. وقال تعالى: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ }. وقال تعالى: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ }. وقال تعالى: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ }. وكل دولة لا تحكم بشرع الله, ولا تنصاع لحكم الله فهي دولة جاهليَّة كافرة ظالمة فاسقة بنص هذه الآيات المحكمات يجب على أهل الإسلام بغضها ومعاداتها في الله, حتى تؤمن بالله وحده وتحكِّم شريعته كما قال –عزَّ وجلّ-: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَه}[26].
ويقول في موضع آخر: (وقد أجمع العلماء على أن من زعم أن حكم غير الله أحسن من حكم الله, أو أن غير هدي رسول الله,r, أحسن من هدي الرسول,r, فهو كافر, كما أجمعوا على أن من زعم أنه يجوز لأحد من الناس الخروج على شريعة محمد,r, أو تحكيم غيرها فهو كافر ضالّ. وبما ذكرناه من الأدلة القرآنيَّة, وإجماع أهل العلم يعلم السائل وغيره, أن الذين يدعون إلى الاشتراكية أو إلى الشيوعية أو غيرها من المذاهب الهادمة المناقضة لحكم الإسلام, كفَّار ضلاَّل أكفر من اليهود والنصارى, وأنَّهم ملاحدة لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر, ولا يجوز أن يجعل أحد منهم خطيبًا أو إمامًا في مسجد من مساجد المسلمين, ولا تصحُّ الصَّلاة خلفهم, وكل من ساعدهم على ضلالهم, وحسَّن ما يدعون إليه, وذمَّ دعاة الإسلام ولمزُهم, فهو كافر ضال, حكمه حكم الطائفة الملحدة, التي سار في ركابها وأيَّدها في طلبها, وقد أجمع علماء الإسلام.. على أن من ظاهر الكفَّار على المسلمين وساعدهم عليهم بأيّ نوع من أنواع المساعدة, فهو كافر مثلهم)[27].
عاشراً: الشيخ محمد الأمين الشنقيطي:
ويقول الشنقيطي: (وبهذه النصوص السماويَّة التي ذكرنا, يظهر غاية الظهور أن الذين يتبعون القوانين الوضعية التي شرعها الشيطان على ألسنة أوليائه مخالفة لما شرعه الله –جلّ وعلا- على ألسنة رسله, إنَّه لا يشك في كفرهم وشركهم إلا من طمس الله بصيرته وأعماه عن نور الوحي مثلهم)[28].
ويقول في موضع آخر: (وأمَّا النظام الشرعي المخالف لتشريع خالق السموات والأرض فتحكيمه كفر بخالق السموات والأرض, كدعوى أن تفضيل الذكر عن الأنثى في الميراث ليس بإنصاف بل يلزم استواؤهما في الميراث, وكدعوى أن تعدد الزوجات ظلم, وأن الطلاق ظلم للمرأة وأن الرَّجم والقطع ونحوهما أعمال وحشية لا يسوغ فعلها بالإنسان ونحو ذلك.
فتحكيم هذا النوع من النظام في أنفس المجتمع وأموالهم وأعراضهم وأنسابهم وعقولهم وأديانهم كفر بخالق السموات والأرض وتمرد على نظام السماء الذي وضعه من خلق الخلائق كلَّها وهو أعلم بمصالحها –سبحانه وتعالى- عن أن يكون معه مشرِّع آخر علوًّا كبيرًا {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ}[29](الشورى21).


حادي عشر: الأستاذ عبد القادر عودة:
ويقول الأستاذ عبد القادر عودة: (ومن الأمثلة الظاهرة على الكفر بالامتناع في عصرنا الحاضر؟ الامتناع عن الحكم بالشريعة الإسلامية وتطبيق القوانين الوضعيَّة بدلاً منها.
ولا خلاف بين الفقهاء والعلماء في أن كل تشريع مخالف للشريعة الإسلامية باطل لا تجب له الطاعة, وأن كل ما يخالف الشريعة محرَّم على المسلمين ولو أمرت به أو أباحته السلطة الحاكمة أيًّا كانت).
ويقول أيضًا: (ومن المتفق عليه أن من ردَّ شيئًا من أوامر الله أو أوامر رسوله فهو خارج عن الإسلام سواء ردّه من جهة الشك أو من جهة ترك القبول أو الامتناع عن التسليم, ولقد حكم الصحابة بارتداد مانعي الزكاة واعتبروهم كفارًا خارجين عن الإسلام لأن الله حكم بأن من لم يسلم بما جاء به الرَّسول, ولم يسلم بقضاه وحكمه فليس من أهل الإيمان, قال –جلّ شأنه-: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً }.[30](النساء 65).
ثاني عشر: أبو الأعلى المودودي(أمير الجماعة الإسلامية):
ويقول الأستاذ المودودي في(الحكومة الإسلامية) {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ }.{وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ }.{وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ }. ( المائدة44, 45, 47).
هنا أصدر الله ثلاثة أحكام في شأن من لا يحكمون بقانون الله المنزل:
الأول: أنهم كافرون. والثاني: أنهم ظالمون. والثالث: أنهم فاسقون.ومعنى هذا بوضوح أن من يترك حكم الله وقانونه ويحكم بقانون آخر وضعه هو بنفسه أو وضعه أناس غيره يرتكب ثلاث جرائم:
الأولى: أن تصرفه هذا يعني رفض حكم الله وهذا كفر.
الثانية: أن فعله هذا يخالف العدل والإنصاف ويجافيه لأن الحكم الذي ينطبق تمام الانطباق هو ما أصدره الله فإن حاد عنه ثم حكم فقد ظلم بكل تأكيد ويقين.
الثالثة: أنه مع كونه عبدًا فقد عصى قانون سيده ومالكه ونفّذ قانونه الخاص أو قانون غيره من البشر ومن ثم فقد خرج فعلاً عن دائرة العبودية وشذ عن إطار الطاعة وهذا فسق, وإن الكفر والظلم والفسق من حيث هم كذلك يدخلون بالضرورة تحت الانحراف عن حكم الله, ولا يمكن أن يكون هناك ابتعاد عن الحكم بما أنزل الله دون أن توجد هذه الأشياء الثلاثة )[31].


ثالث عشر: الشيخ يوسف القرضاوي:
ويقول الشيخ يوسف القرضاوي: (بل إن العلماني الذي يرفض(مبدأ) تحكيم الشريعة من الأساس ليس له من الإسلام إلا اسمه, وهو مرتد عن الإسلام بيقين, يجب أن يستتاب, وتزاح عنه الشبهة, وتقام عليه الحجة, وإلا حكم عليه القضاء عليه بالردة, وجرد من انتمائه للإسلام, أو سُحبت منه (الجنسية الإسلامية).وفرق بينه وبين زوجه وولده, وجرت عليه أحكام المرتدين المارقين, في الحياة, وبعد الوفاة)[32].
رابع عشر: المستشار علي جريشة:
ويقول المستشار علي جريشة: (وإذا كان رد الأمر إلى الله من مقتضيات الإيمان وموجبات العقيدة, كان النكوص عن ذلك كفرًا وشركًا, وظلمًا وفسقًا كما عبَّر القرآن.. فما هي صورة ذلك النكوص؟ عدول أو تعديل:
إن من عَدَلَ عن شرع الله إلى شرع غيره فقد عَدَلَ بشرع الله شرعًا آخر, ومن ثم عدل بالله إلهة أو أربابًا آخرين.. لأن الشرع ابتداءً خالص حق الله, باعتباره من خصائص الربوبية والألوهية, كذلك من لم يعدل عن شرع الله كله ولكنه عدل فيه.. ! ذلك أنه لا يملك التعديل إلا سلطة في نفس المستوى أو سلطة أعلى, فمن فعل ذلك قد جعل نفسه ندًا لله.. تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا.
فالتحريم والتحليل اللذان أشارت إليهما الآيات الكريمة يتخذ صورة العدول أو التعديل, فمن عدل عن تحريم الخمر إلى إباحتها فقد أحل ما حرم الله, ووقع في الكفر والشرك, وكما يكون العدول صريحًا.. بأن يقال عن الحرام حلال. فإنه يكون كذلك ضمنيًا.. بتغيير وصف الحكم من الحلال إلى الحرام, ففي مثل الخمر جاء تحريمها بالنص والإجماع.. فإذا جاءت نصوص وضعية خالية من العقاب فقد غيرت وصف الحكم وجعلته مباحًا.. والمباح أحد أقسام الحلال, ومن ثم فإنها تكون بذلك قد أحلت ما حرم الله.
كذلك الزنا حرمته الشريعة بالنص والإجماع فإذا جاءت نصوص وضعية خالية من النص على العقاب عليه ولو في بعض الأحوال. فإنها تكون قد أباحته في هذه الحالات.. أي تكون قد أحلت ما حرم الله.هذه صور من العدول.
أما صور التعديل.. فإن الحكم يبقى على وصفه الأصلي فلا ينقلب من الحرام إلى الحلال ولكن مثلاً يجري التعديل في العقوبة التي وضعها الله ـ سبحانه وتعالى ـ للفعل كأن يحتفظ النص الوضعي تحريم الفعل وتجريمه ولكنه يعدل في العقوبة المقررة له شرعًا فيجعلها الحبس بدلاً من الجلد أو الرجم.
ويمكن أن يقال إن مثل تلك النصوص الوضعية التي تتضمن تعديلاً في الحكم الشرعي تتضمن كذلك.. عدولاً.. فإن وضع عقوبة مكان أخرى عدول عن العقوبة الأصلية التي شرعها الشارع الحكيم علاجًا للداء.. وهو أعلم بمن خلق وهو اللطيف الخبير!!وعلى ذلك فالعدول والتعديل هو من قبيل التحليل والتحريم الذي دمغه القرآن بالكفر والشرك.. وتلك أقصى صور عدم الشرعية!! )[33].


خامس عشر: الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق:
ويقول الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق: (رد الحكم الشرعي كفر) لا يشك مسلم أن من لوازم الإيمان الإقرار بشرع الله ـ سبحانه ـ , والتسليم بأمره, وهذا معنى الإسلام أي التسليم والإذعان والانقياد لأمر الله, وقد دل على هذا المعنى آيات كثيرة كقوله تعالى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا}. وكقوله _ جلّ وعلا_: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً }. وفي هذه الآية تعجب الله _ سبحانه _ ممن يدَّعي الإيمان وهو يريد أن يتحاكم إلى غير حكم الله وحكم رسوله وأخبر أنه لا يؤمن إلا من حكَّم الله ورسوله في كل شجار يكون بينه وبين الآخرين ورضي بحكم الله ورسوله وسلم تسليمًا كاملاً لذلك.
ولا شك أن الحدود الشرعية للجرائم المعروفة: السرقة, والقتل, والزنا, وشرب الخمر, وقطع الطريق, والإفساد في الأرض وغير ذلك من الجرائم. هذه الحدود الشرعية أعني العقوبات المقدرة شرعًا لهذه الجرائم أصبحت لاشتهارها من المعلوم في الدين ضرورة, ولا يكاد بل ولا يصح من المسلم أن يجهل ذلك. وإذا كان هذا ثابتًا ومعلومًا في الدين فإن تكذيبه أو ردَّه كفر مخرج من ملة الإسلام, وهذا الحكم لا خلاف فيه بتاتًا, أعني كفر من رد حكمًا من أحكام الله الثابتة في كتابه أو على لسان رسوله خاصة إذا كان هذا الرد معللاًّ بأن هذا التشريع لا يناسب الناس, أو لا يوافق العصر أو أنَّه وحشية, أو غير ذلك لأن حقيقة عيب التشريع هو عيب المشرّع, والذي شرع هذا وحكم به هو الله _ سبحانه وتعالى _. ولا يشك مسلم في أن عيب الله أو نسبة النقص أو الجهل له كفر به وخروج عن ملة الإسلام. ولذلك فالأمر الأول الذي ينبغي أن يتعلمه الذين يردّون هذا الحكم إنهم ليسوا من جماعة المسلمين ولا ينتمون إلى هذه الأمة أصلاً إلا أن يعلنوا توبتهم ورجوعهم إلى الله_ سبحانه وتعالى_ )[34].

والذي نخلص إليه من هذا الحشد الزاخر من المقولات أن تكفير من رد على الله حكمه أو أبى الانقياد لشرعه من المعلوم بالضرورة من الدين, وأنه موضع إجماع السابقين واللاحقين من المسلمين.


فيا قومنا!
ما ظنكم بهؤلاء الذين يحادون الله ورسوله, ويسعون في آيات الله معاجزين, ويحولون بين الأمة وبين التحاكم إلى ما أنزل الله؟

ما ظنكم بهؤلاء الذين يملأون الدنيا فحيحًا وضجيجًا بتنقصهم لشريعة الله, واستهزائهم بأحكامها, واستعداء الطواغيت على حملتها وأنصارها, وتجييش الأقلام والألسنة للمشاركة في حربها؟

ما ظنكم بهؤلاء الذين يستعلنون بالفصل بين الدين والدولة وأن إرادة الكون شركة بينهم وبين الله فلله حكم العقائد والعبادات ولهم حكم ما وراء ذلك من جميع المعاملات؟

ما ظنكم بهؤلاء الذين لا شارع لهم إلا البرلمان, ولا سيادة عندهم إلا للأمة. ولا قدسية لديهم إلا للقوانين الوضعية؟

ما ظنكم بهؤلاء الذين يرفضون ابتداءً أن يكون في حقائق الإسلام ما له مدخل في القضاء والسياسة, أو الذين ينكرون أن تكون أحكامه في هذا المجال كافلة بالمصالح وآخذة بالسياسة إلى أحسن العواقب؟

ما ظنكم بهؤلاء الذين يزعجهم _ كما يزعج الدوائر الغربية _ تنامي التيار الديني في البلاد الإسلامية ويرونه خطرًا داهمًا يتهدد الحضارة والسلطان؟

ما ظنكم بهؤلاء الذين يسخِّرون أعلامهم وأقلامهم وألسنتهم في تشويه الصَّحوة الإسلامية التي تدعو إلى تحكيم الشَّريعة الإسلامية ويكدحون في تنفير الناس منها وصدهم عنها؟

وما ظنُّكم فيمن يرون في الإنتفاضة في فلسطين وقد اكتسبت بعدًا إسلاميًا خطرًا يفوق في جسامته خطر الوجود الصهيوني نفسه في فلسطين؟ ويتطوَّعون في بذل النّصائح في كيفية قمع الانتفاضة – أو بالأخص جناحها الإسلامي – إلى أبناء صهيون؟



أيها المسلمون:
إنَّ الأمر جدٌّ لا هزل فيه, وإنَّكم مدعوون إلى مناصرة الشريعة ودعم حملتها وأنصارها في جهادهم المقدَّس, واعلموا أن الأمر لا خيار فيه ولا مساومة, لأن الشريعة –كما سبق- هي الدين, إقامتها إقامة للدين وإضاعتها إضاعة للدين. واعلموا كذلك أنَّكم في هذا الأمر على مفترق الطُّرق وقد أوشك الناس أن يمتازوا إلى فُسطاطين: فسطاط إيمان لا نفاق فيه. وفسطاط نفاق لا إيمان فيه.
الأول: يضمُّ حملة الشريعة وأنصارها.
والآخر: يضمُّ العَلمانيين والمارقين وسائر المفتونين والمبطلين.
وإن عليكم أن تختاروا لأنفسكم فإمَّا أن تكونوا جنودًا للإسلام وتحتسبوا في سبيله ما قد يصيبكم من العنت تشوّقًا إلى جنة عرضها السموات والأرض, وإمَّا أن يستخفكم دعاة الضلالة, ويزِّينوا لكم حرب الشريعة ومناصبة أنصارها العداء, فتزلّ قدم بعد ثبوتها وتذوقوا السوء بما صددتم عن سبيل الله, وتحشرون يوم القيامة مع هؤلاء المضلين المبطلين, وساعتها تعضّوا على أيديكم وتقولون: يا ليتنا اتَّخذنا مع الرَّسول سبيلاً, يا ويلتنا, ليتنا لم نتَّخذ من هؤلاء أحدًا خليلاً, لقد أضلّونا عن الذِّكر بعد إذ جاءنا وكان الشيطان للإنسان خذولاً!!












شبهات المرجفين

الشبهة الأولى: (كفر دون كفر):
دَرَجَ المبطلون في هذا العصر على أن يشغبوا على ما سبق تقريره ممَّا دلَّ عليه الكتاب والسنَّة وانعقد عليه إجماع الأمّة من كفر من بدَّل شرائع الله, أو ردَّ أحكام الله بالقول بأن هذا الأمر من جنس الذنوب والمعاصي التي لا تخرج من الملة, وحجَّتهم في ذلك أنَّه لا يكفر أحد من أهل القبلة بذنب إلا إذا استحلّه, وأن كثيرًا من أهل العلم ذكر في تفسير قوله تعالى: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ }. (المائدة44). قول ابن عباس وطاووس ومجاهد وغيرهم أن هذا كفر دون كفر, وأنَّه ليس كمن كفر بالله وملائكته, ويقولون إن التكفير بذلك هو منهج الخوارج الذين كانوا يكفِّرون مخالفيهم من أهل القبلة معتمدين على مثل هذه النصوص وعلى مثل قوله تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ}. ( يوسف40).
والعجيب أنَّ هذه الشبهة دخلت إلى أروقة المحاكم الوضعية التي انتصبت لمحاكمة التَّيار الإسلامي فتجد ممثلي الإدعاء العام يبدءون ويعيدون في تكرار هذه المقولة متهمين أبناء الحركة الإسلاميَّة بأنهم يرددون مقولات الخوارج, وأن مجتمعاتنا المعاصرة لم تنكر لله حكمًا ولم تردّ له أمرًا فلا يصدق عليها وصف الكفر الوارد في الآية. بل ولا يلحقها إثم كذلك نظرًا للظروف الدقيقة التي تمر بها الأمة الإسلامية في واقعنا المعاصر.
ونظرًا لأن هذه الشبهة قد ينخدع كثير بها من العامة فإننا نقف بين يديها وقفة فاحصة نرد فيها الأمور إلى نصابها, ونبدّد بها ظلام هذه الشبهة فنقول:
لقد تمهد –كما سبق- في محكمات الأدلة أن الإيمان هو تصديق الرسول,r, فيما أخبر والانقياد له فيما أمر, وأن الكفر هو عدم الإيمان, سواء أكان معه تكذيب أو استكبار أو إباء أو إعراض, وأن من لم يحصل في قلبه التصديق والانقياد فهو كافر.
وعلى هذا يمكن تفصيل القول في قضية الحكم بغير ما أنزل الله, ذلك أن تعبير الحكم بغير ما أنزل الله, قد يقصد به عمل القضاة والمنفذين, وقد يقصد به عمل الأصوليين المشرّعين وعلى حسب الدّقَّة في تحديد المناط تكون الدّقَّة في سلامة الحكم وموافقته لمراد الشارع.
فإن قُصد به عمل القضاة والمنفِّذين, نظر: فإن كان مردَّه إلى تكذيب الحكم الشرعي أو رده فهو كفر أكبر يخرج من الملة وإن كان مرده إلى عارض من هوى أو رشوة أو نحوه مع بقاء التحاكم ابتداءًا إلى الكتاب والسنة أو ما حمل عليها بطريق الاجتهاد فهو من جنس الذنوب والمعاصي وأصحابه في مشيئة الله إن شاء الله عذّبه وإن شاء غفر لهم.
وهذه –أي الحالة الأخيرة- وهي صورة الحكم بغير ما أنزل الله, التي عرفت في تاريخ الإسلام, والتي قال فيها علماء الإسلام ما قالوا وفصَّلوا فيها من الأحكام ما فصَّلوا, إذ لم تعرف الدولة في تاريخها الطويل نبذًا كاملاً لأحكام الله, اللهم إلا مرة واحدة في أيام التتار, ولقد جزم أهل العلم يومها بأن هذه الصورة المستحدثة لا حكم لها إلا الكفر, وأن أصحابها كفَّار بلا خلاف وأنه يجب قتالهم يرجعوا إلى حكم الله ورسوله.
قال ابن كثير –يرحمه الله- عما كان يحكم به التتار من السياسات الملكية (فمن فعل ذلك منهم فهو كافر يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله فلا يُحكم سواه في قليل ولا كثير)[35].
ويقول في البداية والنهاية: (فمن ترك الشرع المحكم المنزل على محمد بن عبد الله خاتم الأنبياء وتحاكم إلى غيره من الشرائع المنسوخة كفر, فكيف بمن تحاكم إلى الياسق وقدّمها عليه؟ فمن فعل ذلك فقد كفر بإجماع المسلمين)[36].
أمَّا إن قصد به المعنى الأصولي التشريعي الذي هو خطاب الشارع المتعلق بأفعال المكلفين على سبيل الاقتضاء أو التخيير أو الوضع, وأريد به إصدار قواعد تشريعيَّة عامّة تبدل بها شرائع الإسلام وتكون لها السّيادة في الأمة بدلاً من سيادة الكتاب والسنة وتصبح هي المرجع في الحكم عند التنازع, ويقدم العمل بها على العمل بأحكام الشريعة المطهرة فلا جدال في أن لهذه الصورة مناطًا واحدًا وتكييفًا واحدًا وهو الكفر الأكبر المخرج من الملة الذي لا تبقى معه من الإيمان حبَّة خردل, كما قال تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ}. ( الشورى21).

يقول شيخ الإسلام بن تيمية: (والإنسان متى حلل الحرام المجمع عليه أو حرم الحلال المجمع عليه أو بدّل الشرع المجمع عليه كان كافرًا مرتدًَا باتفاق الفقهاء)[37].
وقد سبق قول ابن كثير: (فمن ترك الشرع المحكم المنزل على محمد بن عبد الله خاتم الأنبياء وتحاكم إلى غيره من الشرائع المنسوخة كفر, فكيف بمن تحاكم إلى الياسق وقدّمها عليه؟من فعل ذلك فقد كفر بإجماع المسلمين)[38].
ولقد أدَّى اللبس في هذه القضية وعدم تحديد مناطات الحكم في صوره المختلفة إلى اضطراب كثير من أهل العلم من منتسبي الحركة الإسلامية غيرهم في تقريرها مما أتاح للمبطلين أن يجدوا من بين فرجات اختلافهم مدخلاً لهم يلبسون به على العامة, ويسبغون به الشرعية على نظم كافرة قامت يوم قامت على ردّ شرائع الإسلام واستباحة الحكم بغير ما أنزل الله وإهدار سيادة الشريعة الإسلامية وحمل الأمة كلها على تحكيم القوانين الوضعية, وذلك بإشاعة القول بأن الكفر الوارد في قوله تعالى: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ }. هو الكفر الأصغر الذي لا ينقل عن الملة, ويسوقون في ذلك بعض الآثار الواردة عن الصحابة والتّابعين في بيان أنه كفر دون كفر, وليس كمن كفر بالله وملائكته, فنصبح بذلك أمام خلل جزئي أو انحراف فرعي لا يبرر انعدام الشرعية ولا يسوغ الخروج.

ولقد نبه الشيخ محمود شاكر في تعليقه على الطبري إلى هذا الخلل, وفصّل القول في مثل هذه الآثار فقال في تعليقه على ما أورده الطبري في تفسير قوله تعالى: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ }. من قول أبي مجلز وهو تابعي ثقة لمن سأله من الاباضية عن معنى هذه الآية وأرادوا أن يلزموه الحجة في تكفير الأمراء لأنهم في معسكر السلطان, ولأنهم ربما ارتكبوا بعض ما نهاهم الله عن ارتكابه فأجابهم أبو مجلز بقوله: (إنه يعملون بما يعملون –يعني الأمراء- ويعلمون أنه ذنب! قال : بينما أنزلت هذه الآية في اليهود والنصارى, قالوا: أما والله أنك لتعلم مثل ما نعلم, ولكنك تخشاهم! قال: أنتم أحق بذلك منا, أما نحن فلا نعرف ما تعرفون! قالوا: ولكنكم تعرفونه ولكن يمنعكم أن تمضوا أمركم من خشيتهم! )[39].
يقول الشيخ محمود شاكر تعليقًا على ذلك: (فلم يكن سؤالهم عمَّا احتج به مبتدعة زماننا من القضاء في الأموال والأعراض والدماء بقانون مخالف لشريعة أهل الإسلام, ولا في إصدار قانون ملزم لأهل الإسلام بالإحتكام إلى حكمٍ غير حكم الله في كتابه وعلى لسان نبيه,r, فهذا الفعل إعراض عن حكم الله, ورغبة في دينه وإيثار لأحكام أهل الكفر على حكم الله –سبحانه وتعالى- وهذا كفر لا يشك أحد من أهل القبلة على اختلافهم في تكفير القائل به والداعي إليه.
والذي نحن فيه اليوم هو هجر لأحكام الله عامة بلا استثناء, وإيثار حكم غير حكمه في كتابه وسنَّة نبيّه, وتعطيل لكل ما في شريعة الله, بل بلغ الأمر مبلغ الاحتجاج على تفضيل أحكام القانون الموضوع على أحكام الله المنزلة, وادعاء المحتجين بذلك بأن أحكام الشريعة إنَّما نزلت لزمان غير زماننا, ولعلل وأسباب انقضت, فسقطت الأحكام كلها بانقضائه.
فأين هذا مما بيّنَّاه من حديث أبي مجلز, والنفر من الأباضية من بني عمرو بن سدوس!!)[40].
(ولو كان الأمر على ما ظنوا في خبر أبي مجلز, أنهم أرادوا مخالفة السلطان في حكم من أحكام الشريعة, فإنه لم يحدث في تاريخ الإسلام أن سنَّ حاكم حكمًا وجعله شريعة ملزمة للقضاء بها, هذه واحدة. وأخرى, أن الحاكم الذي حكم في قضية بعينها بغير حكم الله فيها, فإنه إما أن يكون حكم بها وهو جاهل, فهذا أمره أمر الجاهل بالشريعة. وإمَّا أن يكون حكم بها هوى ومعصية فهذا ذنب تناله التوبة وتلحقه المغفرة وإمَّا أن يكون حكم بها متأوّلاً حكمًا يخالفه به سائر العلماء فهذا حكمه حكم كل متأوّل يستمد تأويله من الإقرار بنص الكتاب, وسنَّة رسول الله,r, وأما أن يكون في زمن أبي مجلز أو قبله أو بعده حاكم حكم بقضاء في أمر, جاحدًا لحكم من أحكام الشريعة, أو مؤثرًا لأحكام أهل الكفر على أحكام أهل الإسلام, فذلك لم يكن قطّ, فلا يمكن صرف كلام أبي مجلز والاباضيين إليه.
فمن احتج بهذين الأثرين وغيرهما في غير بابها, وصرفها إلى غير معناها, رغبة في نصرة سلطان, أو احتيالاً على تسويغ الحكم بغير ما أنزل الله وفرض على عباده, فحكمه في الشريعة حكم الجاحد لحكم من أحكام الله: أن يستتاب, فإن أصرَّ وكابر وجحد حكم الله, ورضي بتبديل الأحكام فحكم الكافر المصرّ على كفره معروف لأهل هذا الدين)[41].


والذي نخلص إليه من ذلك كله أن قول بعض السلف (كفر دون كفر) في تفسير هذه الآية لا ينصرف مناطه إلى مناط التحاكم إلى القوانين الوضعية التي أصبحت هي مرد الحكم في واقعنا المعاصر ولا إلى هؤلاء الذين ينتحلون الفصل بين الدين والدولة, ويرون عدم صلاحية أحكام الإسلام لسياسة مجتمعاتنا المعاصرة, ولا إلى هؤلاء الذين يهدرون سيادة الشريعة الإسلامية ابتداءً بحيث يصبح رد القضاة الحكم إليها جريمة وخروجًا عن الشرعيَّة وسببًا قاطعًا من أسباب بطلان الحكم ونقضه!!
إن الذي يواجهه العمل الإسلامي في واقعنا المعاصر ليس خللاً عارضًا أو انحرافًا جزئيًّا في قضية من القضايا حاد فيها القاضي عن الحق لهوى أو رشوة كما هو حال الانحرافات في ظل المجتمعات الإسلامية ولكنه خلل في أصل قاعدة التحاكم في الدين الذي يجب أن تردّ إليه الأمور عند التنازع, في القانون الواجب الإتباع في حياة الأمة, هل هو الكتاب والسنَّة أم القوانين الوضعية التي تصدر عن البرلمان والسلطة التشريعيَّة؟ إنَّه يتعلق بالإجابة على هذا السؤال: لمن الحكم في دار الإسلام؟ لشريعة الله أم لقوانين أوروبا؟ هل تقوم الدولة على تحكيم الشريعة الإسلامية؟ أم على تحكيم القوانين الوضعية؟ هل تفصل الدولة عن الدين؟ أم تقوم على الدين وسياسة الدنيا به؟


الشبهة الثانية: (لا يكفر أحد بذنب إلا إذا استحله):
أما قولهم إنه لا يكفر أحد من أهل القبلة بذنب إلا إذا استحله فذلك حق ونحن نقول بموجبه, إلاّ أن الاستحلال يتّخذ في الواقع العملي إحدى صورتين:
الأولى: (كفر التكذيب): وهو تكذيب الحكم الشرعي وعدم اعتقاد موجبه.
الثانية: (كفر الرد): وهو رد الحكم الشرعي وعدم التزامه, وإن اعتقد أن الله أوجبه وأن الرسول قد أمر به, فمن قال: إنّ هذا حكم الله ولكني أردّه أو أسخطه أو لا أرى صلاحيته أو لا أقبل تطبيقه أو ترك التحاكم إلى الله كان كمن كذّب بهذا الحكم ابتداءً سواء بسواء, بل إن ذلك أغلظ كفرًا وأشدّ محادة لله ورسوله.
ذلك أن الإيمان المجمل –كما سبق- تصديق الرسول فيما أخبر والانقياد له فيما أمر, فمن لم يحصل في قلبه التصديق والانقياد معًا فهو كافر.
وإنَّما ضلَّ هؤلاء بسبب ضلالهم في فهم حقيقة الإيمان. لقد عبثت بهم ضلالات الفرق المخالفة لأهل السنة التي تفشّت جرثومتها في أوساط الأمة فأفسدت عليهم دينهم وظنّوا معها أن الإيمان هو محض التصديق فلا يكون الكفر بالمقابل إلاّ محضّ التكذيب, فمهما ردّ المرء من شرائع الإسلام أو خلع الربقة من الالتزام بها والانقياد لموجبها واستعلن بنقضه لها واستهزائه بها فلا يقدح شيء من ذلك في أصل إيمانه ما دام يصدق بقلبه أنها وحي من عند الله!!يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: (والكفر لا يختص بالتكذيب بل لو قال: أنا أعلم أنك صادق لكن لا أتبعك بل أعاديك وأبغضك وأخالفك ولا أوافقك لكان كفره أعظم. فلما كان الكفر المقابل للإيمان ليس هو التكذيب فقط علم أن الإيمان ليس التصديق فقط بل إذا كان الكفر يكون تكذيبًا, ويكون مخالفة ومعاداة وامتناعًا بلا تكذيب فلا بد أن يكون الإيمان تصديقًا
مع موافقة وموالاة وانقياد لا يكفي مجرد التصديق فيكون الإسلام جزء مسمّى الإيمان, وكما كان الامتناع من الانقياد مع التصديق جزء مسمّى الكفر فيجب أن يكون كل مؤمن مسلمًا منقادًا للأمر وهذا هو العمل)[42].
ومذهب أهل السنة والجماعة في باب الإيمان وسط بين مذهب المرجئة الذين أخرجوا الأعمال جميعًا من مسمى الإيمان وجعلوه محض التصديق وبين مذهب الخوارج الذين أدخلوا الأعمال جميعًا في أصله وجعلوه جملة الفرائض.
وقد استدل الخوارج على ما ذهبوا إليه بظاهر نصوص الوعيد وقابلهم المرجئة فاستدلوا عليهم بظاهر نصوص الوعد, وكل منهما قد أخذ في النصوص بالنظر الأول ولم يجمع بين أطراف الأدلة حتى ينجلي أمامه مقصود الشارع, ولذلك قال من قال من أهل العلم لا تستفيدوا من كلام المرجئة إلا بطلان كلام الخوارج ولا يستفاد من كلام الخوارج إلا بطلان كلام المرجئة, ويبقى الحق بعيدًا عن هؤلاء وهؤلاء.


يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: (بل كل من تأمل ما تقوله الخوارج والمرجئة في معنى الإيمان علم بالاضطرار أنه مخالف للرسول ويعلم بالاضطرار أنه طاعة الله ورسوله من تمام الإيمان, وأنه لم يكن يجعل كل من أذنب ذنبًا كافرًا, ويعلم أنه لو قدر أن قومًا قالوا للنبي ,r, نحن نؤمن بما جئتنا به بقلوبنا من غير شك ونقر بألسنتنا بالشهادتين, إلا أنا لا نطيعك في شيء مما أمرت به ونهيت عنه, فلا نصلي, ولا نصوم, ولا نحجّ, ولا نصدق الحديث, ولا نؤدي الأمانة, ولا نفي بالعهد, ولا نصل الرحم, ولا نفعل شيئًا من الخير الذي أمرت به, ونشرب الخمر, وننكح ذوات المحارم بالزِّنا الظاهر, ونقتل من قدرنا عليه من أصحابك وأمتك, ونأخذ أموالهم بل نقتلك أيضًا ونقاتلك مع أعدائك, هل كان يتوهم عاقل أن النبي ,r, يقول لهم أنتم مؤمنون كاملو الإيمان, وأنتم من أهل شفاعتي يوم القيامة, ويرجى لكم ألاّ يدخل أحد منكم النار, بل كل مسلم يعلم بالاضطرار أنه يقول لهم أنتم أكفر الناس بما جئت به ويضرب رقابهم إن لم يتوبوا من ذلك.
وكذلك يعلم كل مسلم أن شارب الخمر والزَّاني والقاذف لم يكن النبي ,r, يجعلهم مرتدين يجب قتلهم, بل القرآن والنقل المتواتر عنه يبين أن هؤلاء لهم عقوبات غير المرتد عن الإسلام كما ذكر الله في القرآن جلد القاذف والزَّاني وقطع يد السَّارق, وهذا متواتر عن النبي ,r,ولو كانوا مرتدين لقتلهم فكلا القولين مما يعلم فساده من الاضطرار من دين الإسلام)[43].
ومن ناحية أخرى فقد اتفق الجميع, أهل السنة والمرجئة والخوارج وغيرهم من سائر الفرق أن حكم الشرك يختلف عن حكم بقية الذنوب لقول الله تعالى: {إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ}. وقوله تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُن مِّنْ الشَّاكِرِينَ }. (الزمر65, 66).
والصورة التي نتحدث عنها صورة من صور الشرك الأكبر بلا نزاع, لما تمهد من أن التشريع المطلق حق خالص لله –جلّ وعلا- وحده من نازعه في شيء منه فهو مشرك لقوله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ}. ( الشورى21). وقوله: {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ}. وقد سبق القول في معنى هذه الآيات.
إن الحالة التي تواجهها مجتمعاتنا المعاصرة هي حالة الإنكار على الإسلام أن تكون له صلة بشئون الدولة, والحجر عليه ابتداءً أن تتدخل شرائعه لتنظيم هذه الجوانب, وتقرير الحق في التشريع المطلق في هذه الأمور للبرلمانات والمجالس التشريعيَّة.


إننا أمام قوم يعطون حق السيادة العليا والتشريع المطلق لمجالسهم التشريعية, فالحلال ما أحلته والحرام ما حرمته والواجب ما أوجبته, والنظام ما شرعته, فلا يجرم فعل إلا بقانون منها, ولا يعاقب عليه إلا بقانون منها, ولا اعتبار إلا للنصوص الصادرة منها. هذه هي المحنة التي نواجهها اليوم, والتي لا يصلح لدفعها ترقيع جزئي بإلغاء بعض المواد والنص على أخرى, وإنّما يصلحه أن نبدأ بتقرير السيادة المطلقة والحاكميَّة العليا للشريعة الإسلامية والنص على أن كل ما يتعارض معها من القوانين أو اللوائح فهو باطل ومنعدم. ويومها فقط تبدأ رحلة العودة إلى الله والتقويم الجذري للبناء التشريعي لإقامة دار الإسلام.
أما قولهم إن هذه هي دعوة الخوارج الذين يكفرون مخالفيهم من أهل القبلة اعتمادًا على مثل هذه الأدلة فهو قول لم تقع العين على أسمج منه ولا على أضلّ من أصحابه!
إن قوله تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ}. ذُكِرَ في القرآن الكريم على لسان الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف ابن يعقوب قبل أن تنقلها لنا دواوين التاريخ على ألسنة الخوارج! أفيكون كل من دعا إلى إقامة الدين وتحكيم الشريعة وإفراد الله بالعبادة والتشريع المطلق خارجيًّا من الخوارج؟ ترى ماذا يكون إذًا مبدّل الشرع, ومحلّ الحرام ومحرّم الحلال والدّاعي للفصل بين الدين والدولة؟ أيكون علي بن أبي طالب؟ كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلاّ كذبًا.
لقد رفع الخوارج هذا الشعار ليُكَفِّروا به أئمة الجور من المسلمين في وقت كان الأصل فيه هو التحاكم إلى الشريعة, وقيام الدولة على حراسة الدين وسياسة الدنيا به, وإن غشيها من المظالم ما غشيها, فكانوا مبطلين خارجين عن الحقّ.
ويرفعه اليوم أبناء العمل الإسلامي وقد أعلنت العَلمانية وحكّمت القوانين الوضعية التي تحل الرّبا والزّنا والفواحش ما ظهر منها وما بطن وتحميها بقوة الشرطة والقضاء, يرفعونه ليردّوا به الأمر إلى الله –جلّ وعلا- ولينتصروا به لشريعتهم المضاعة وكتابهم المهدور وليدفعوا عن الأمة شرك التشريع بما لم يأذن به الله وباطل التحاكم في الدماء والأموال والأعراض إلى غير ما أنزل الله فكانوا مجاهدين أنصارًا لله ورسوله.
وعجبًا لهؤلاء الذين وقفوا حياتهم على حماية العَلمانية, وتحكيم القوانين الوضعية, وفتنة المؤمنين والمؤمنات من أبناء الحركة الإسلامية ثم يتباكون بعد ذلك على مذهب أهل السنَّة ويشنّعون على مخالفيهم بأنهم من الخوارج!
ترى هل صحّ عندهم في مذهب أهل السنة تحكيم القوانين الوضعية وإلغاء الشريعة الإسلامية؟
هل صحَّ عندهم في مذهب أهل السنَّة أن يكون الحق في التشريع المطلق لمجلس من المجالس يحلّ به ما يشاء ويحرم به ما يشاء على ما تقتضيه أهواء أعضائه ومصالحهم بمعزل عن هداية الكتاب والسنَّة, بل مراغمة للكتاب والسنة ومضادة لأحكامهما القاطعة المتواترة؟.
هل صحَّ عندهم في مذهب أهل السنَّة إباحة الرِّبا بقانون, وإباحة الردّة بقانون, وإباحة الزِّنا بقانون, وإباحة الخمر بقانون, وحماية التبرّج بقانون, وحماية المراقص الليلية بقانون, وتعطيل التحاكم إلى الشريعة بقانون.. إلخ.
هل صحَّ كل ذلك في مذهب أهل السنَّة الذي يدين به ويغار عليه هؤلاء؟!.. أو هكذا يدَّعون!!
أما نحن فنُشهد الله أننا نبرِّئ مذهب أهل السنَّة والجماعة من كل هذه الضلالات, فهو المنهج القويم الحق والصراط المستقيم, وأهله هم الفرقة الناجية بين بقية الفرق الضالة المتوعدة بالنار على لسانه ,r, وما عرف أصحابه على مدار التاريخ إلا دعاة إلى الحق وأنصارًا لله ورسوله, لا يتحاكمون إلى طاغوت, ولا يحلّون لله حرامًا, ولا يحرّمون لله حلالاً, ولا يبدّلون لله شرعًا, ولا يردون على الله أمرًا ولا يعطلون لله حكمًا, أوفياء لدينهم ولأمتهم, ينفون عن الدين تحريف الغالين, وتأويل المبطلين, وانتحال الجاهلين, ويحملون أمتهم على الاستقامة عليه, والتضحية بالمهج والأرواح في حمايته والذبّ عنه, أولئك هم أهل السنَّة والجماعة كما عرفتهم الأمة على مدار التاريخ, لا كما يقدمهم دعاة العَلمانية وأقطاب الفصل بين الدين والدولة!!
إنّ الذي نخلص إليه ولا نملُّ من التأكيد عليه بعد هذه الجولة أننا أمام خلل لا يتعلق بفرع من فروع الدين, ولا بمسألة جزئية منه, إنه يتعلق بأصل الأصول, وقضية القضايا, وأوّل ما يتوجه به التكليف إلى العباد, إنَّه يتعلق بأصل الإيمان بالله ورسوله, إنه يتعلق بأصل الرضا بالله ربًّا, وبالإسلام دينًا, وبمحمد ,r, نبيًّا ورسولاً, إنه يتعلق بالتوحيد. ومن هنا قلنا إن على جماهير المسلمين أن يختاروا لأنفسهم, فإمَّا الإسلام وما يتضمنه اختياره من جهاد وتضحيات ونقص في الأموال والأنفس والثمرات, وإمَّا الرّدَّة وما قد يصحبها – خاصة في هذه الأيام – من عرض قريب ومتاع قليل. ثم تكون إلى ربك الرجعى. ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا الحسنى.. فالذين صبروا ابتغاء وجه ربهم, وصدقوا ما عاهدوا الله عليه إلى جنة عرضها السموات والأرض, والذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى إلى نار وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون.


فيا جماهير المسلمين في جميع بلاد الأمة الإسلامية:
إني أعظكم بواحدة! أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا:
هل يجوز ابتداءً أن ترد الأمور في دار الإسلام إلى كتاب غير القرآن وإلى دين غير الإسلام؟
هل يجوز ابتداءً أن تخول هيئة من الهيئات أو مجلس من المجالس الحق في التشريع المطلق يحل به ما يشاء ويحرم به ما يشاء؟
هل هذه الديمقراطية التي سحرت العالم كله شرقه وغربه مع ما تتضمنه من الإقرار لممثلي الأمة بالحق في السيادة العليا والتشريع المطلق منهج إسلامي يجوز أن يقره المسلمون فضلاً عن أن يطالبوا به في حال السعة والاختيار؟! لا أحسب إلا أن أجابتكم على ذلك كله ستكون
بالنفي القاطع الجازم, لأن مقتضى توحيد الله –جلّ وعلا- إفراده وحده بالحكم والتشريع, ورد الأمور إليه وحده عند التنازع.
إذا تمهد ذلك فإننا ننتقل بكم إلى سؤال آخر:
هل يجوز والحال كذلك أن تشاركوا في مجالس اغتصبت لنفسها أمرًا هو من أخص خصائص الرّبِّ –جلّ وعلا- وأجمع صفاته؟
هل يجوز أن تتهالكوا على هيئات قامت يوم قامت على خلع الربقة وادعاء الحق في التشريع المطلق, وجعلت مما سمته (إرادة الأمة) مشرعًا من دون الله؟ لا أحسب إلاّ أن إجابتكم ستكون بالنفي المستدرك عليه بأداة الاستدراك ((ولكن)), ستقولون: ولكن أليس الأولى أن نوجد في هذه المواقع لتحويل اتجاهها من الشرك إلى التوحيد ومن الفساد إلى الإصلاح؟
وأنا أجيبكم على ذلك كله بأن عليكم أن تدركوا أن هذا هو مبرر وجودكم في هذه المواقع –إن كان هناك مبرر- والمدخل الوحيد إلى الترخص في التحاقكم بها –إن جاز الترخص- وإلا لزمكم إثم المشاركة في هذا الباطل وأصابكم كفل من وزره, وأنتم تقرأون في القرآن الكريم قول الله –جلّ وعلا-: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً }. (النساء140).
وتقرأون قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ }. (الأنعام68).
لقد سجَّل التاريخ مما سجل موقفًا للأستاذ حسن الهضيبي عندما عرض مشروع الدستور المدني عام 1948م للمناقشة في مجلس الأمة: فاعترض – يرحمه الله – على المشاركة في المناقشة ابتداءً وقال: (إن خطأ هذا القانون وصوابه عندي سيان لأن اللجنة التي قدمته لم ترد الأمر ابتداءً إلى كتاب الله وسنة رسوله وما حمل عليهما بطريق الاجتهاد, ولكنها ردته إلى أكثر من عشرين تقنينًا وضعيًّا اختارت منها هذا النسيج المهلهل فتجاوزت بذلك الأصل المحكم الذي لا يحل لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يتجاوزه, وهو ردّ الأمور عند التنازع إلى الله والرسول, وإن لم يفعل ذلك – كما يقول ابن كثير – فليس بمؤمن بالله ولا باليوم الآخر).
أرأيتم كيف عرف هذا الشيخ الجليل حقيقة دوره في هذه المجالس ومبرر وجوده بين أصحابها؟

الفصل الخامس


الولاء والبراء ودوره في معركة تحكيم الشريعة

الولاية ضد العداوة وأصلها الحب والقرب. والبراء من البعد والتخلص وإظهار العداوة. والعداوة أصلها البغض والبعد.
وقد تقرر في أصول أهل السنة والجماعة أن الولاء والبراء لا يعقد إلا على أساس الكتاب والسنة لا غير, وأن من كان مؤمنًا وجبت موالاته من أي صنف كان, ومن كان كافرًا وجبت معاداته من أي صنف كان, ومن كان فيه إيمان وفيه فجور أعطي من الموالاة بحسب إيمانه, ومن البغض بحسب فجوره, وأنه ليس لأحد أن يعلق الولاء والبراء بغير الأسماء التي علّق الله بها ذلك كأسماء القبائل والمدائن والمذاهب الفقهية والأحزاب السياسية والطرائق المضافة إلى الأئمة والمشايخ ونحوه, بل لا يقدم إلا من قدمه الله ورسوله ولا يؤخر إلا من أخره الله ورسوله ولا يحب إلا ما أحب الله ورسوله ولا يبغض إلا ما أبغضه الله ورسوله. ولا يفرق بين الأمة بأسماء مبتدعة لا أصل لها في الكتاب والسنة.
هذه هي عقيدة أهل السنة والجماعة في باب الولاء والبراء.
_ فالولاء والبراء يعقد على أساس الإسلام لا غير.
_ ويقرب الناس ويبعدون ويحمد الناس ويذمون بحسب حظهم من الإسلام ونهوضهم برسالته.
يقول ابن عباس _ رضي الله عنه _: (من أحب في الله, وأبغض في الله, ووالى في الله, وعادى في الله, فإنما تنال ولاية الله بذلك, ولن يجد عبد طعم الإيمان وإن كثرت صلاته وصومه حتى يكون كذلك, وقد صارت عامة مؤاخاة الناس على أمر الدنيا وذلك لا يجدي على أهله شيئًا)[44].
كما تقرر أيضًا النهي عن موالاة الكافرين أو اتخاذهم بطانة من دون المؤمنين في عشرات المواضع من القرآن الكريم, حتى لا تكاد تعرف قضية أبدأ فيها القرآن وأعاد, وألح في إقامة الحجة بها وربطها بالتوحيد مثل هذه القضية.
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءكُم مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاء مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ }. (الممتحنة1).
وقال تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ }. (الممتحنة4).
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُواْ لِلّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُّبِيناً}. (النساء144).
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ }. (المائدة51).
وقال تعالى: {لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللّهِ الْمَصِيرُ }. (آل عمران28).
وقال تعالى: {لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ }. (المجادلة22).
وقد شدّد القرآن الكريم النكير على الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين بأن تبرأ منهم {فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ}. وجعلهم منهم {وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ}. وأخبر أن مثل هذه الموالاة أو الموادة لا تجتمع مع الإيمان بحال {لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ}. {وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء}.
يقول الإمام الطبري في تفسير قوله تعالى: {لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ}. (وهذا نهي من الله _ عزّ وجلّ _ للمؤمنين أن يتخذوا الكفار أعوانًا وأنصارًا وظهورًا ولذلك كسر ((يتخذ)) لأنه في موضع جزم بالنهي ولكنه كسر الذال منه للساكن الذي لقيه وهي ساكنة.
ومعنى ذلك: لا تتخذوا أيها المؤمنون الكفار ظهرًا وأنصارًا توالونهم على دينهم وتظاهرونهم على المسلمين من دون المؤمنين وتدلونهم على عوراتهم فإنه من يفعل ذلك {فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ}. يعني فقد برئ من الله وبرئ الله منه بارتداده عن دينه ودخوله في الكفر,{إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً}. إلا أن تكونوا في سلطانهم فتخافوهم على أنفسكم فتظهروا لهم الولاية بألسنتكم وتضمروا لهم العداوة ولا تشايعوهم على ما هم عليه من الكفر ولا تعينوهم على مسلم بفعل)[45].
ويقول في تفسير قوله تعالى: {وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ}. (من تولى اليهود والنصارى من دون المؤمنين فإنهم منهم, أي من أهل دينهم وملتهم, فإنَّه لا يتولى متولٍّ أحدًا إلا وهو به وبدينه وما هو عليه راض, وإذا رضيه ورضي دينه فقد عادى ما خالفه وسخطه وصار حكمه حكمه)[46].
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية في تفسير قوله تعالى: {لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ}. الآية (أخبر الله أنك لا تجد مؤمنًا يوادّ المحادين لله ورسوله, فإن نفس الإيمان ينافي موادته كما ينفي أحد الضدين الآخر, فإذا وجد الإيمان انتفى ضده وهو موالاة أعداء الله. فإذا كان الرجل يوالي أعداء الله بقلبه كان ذلك دليلاً على أن قلبه ليس فيه الإيمان الواجب)[47].
ولقد فقه الرعيل الأول من أصحاب رسول الله ,r, حقيقة الولاء والبراء فزخرت حياتهم بالصحائف المشرّفة والمواقف الخالدة التي علمت البشرية كيف ينتصر الولاء للإسلام على كل ما حفلت به الدنيا من الجواذب والمغريات.
* فهذا هو الصحابي الجليل كعب بن مالك وهو أحد الثلاثة الذين خلفوا يهجره النبي ,r, ويأمر بهجره, ويعيش بين المسلمين على الحال التي وصفها الله في القرآن {حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّواْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ}. ثم يأتيه في غمرة هذه المحنة كتاب من ملك غسان يدعو فيه إلى أن يلحق به ليواسيه ويرفع عنده ما يكابده من هوان وضيعة, فما كان من الصحابي الجليل إلا أن أحرق هذه الرسالة في التنور, وقال: وهذه أيضًا من البلاء!!
* وهذا الصحابي الجليل أبو عبيدة _ رضي الله عنه _ يقتل أباه يوم بدر لما استحب الكفر على الإيمان, ولم تمنعه صلة الأبوّة من أن ينتصر منه لله ولرسوله وللمؤمنين.
* وهذا هو الصحابي الجليل مصعب بن عمير يمر يوم بدر على نفر من الصحابة يأسرون أخاه عزير بن عمير فيقول لهم شدّوا وثاقه جيدًا فإن أمه غنية, ويبادره أخوه متعجبًا ((أهذه وصاتك بي)) فيقول: إنهم إخوتي دونك!!
* وهذا هو الصحابي الجليل زيد بن الدثنة بعد أسره في حادثة الرجيع يشتريه صفوان بن أمية ليقتله بأبيه أمية بن خلف, ويُقَدَّم هذا الصحابي الجليل إلى القتل صابرًا محتسبًا, فيبادره أبو سفيان بن حرب بهذا السؤال: أنشدك الله يا زيد أتحب أن محمدًا عندنا الآن في مكانك تضرب عنقه وأنك في أهلك. قال زيد: (والله ما أحب أن محمدًا الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه وأني جالس في أهلي فقال: ما رأيت من الناس أحدًا يحب أحدًا كحب أصحاب محمد محمدًا, ثم قتلوا زيدًا رضي الله عنه)[48].
* وهذا هو الصحابي الجليل عبد الله بن عبد الله بن أُبيّ بن سلول يأتي إلى النبي ,r, وقد قال أبوه قولته الفاجرة: ((ولئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل)). ويعرض على النبي ,r, أن يأمره فيأتيه برأس أبيه إن كان مزمعًا قتله! ويقف على باب المدينة شاهرًا سيفه ليمنع أباه من دخول المدينة حتى يعلم من هو الأعز ومن هو الأذل, ولم يمكنه من الدخول حتى جاء إذن رسول الله ,r.


إنَّ هذه المواقف وأمثالها غيض من فيض, وإن كتب السيرة حافلة بالأمثلة والأعاجيب!!
هذا ولقد حرص أعداء الله على إضعاف مفهوم الولاء والبراء في حياة الأمة الإسلامية وكسر الحاجز النفسي بين المسلم والكافر, وبعث قيم جديدة يعقد على أساسها الولاء والبراء لتكون بديلاً عن الإسلام فظهرت دعوات القومية والوطنية والإنسانية وأخيرًا الزمالة بين الأديان حتى يتذبذب المسلم بين ولائه لدينه وبين ولائه لهذه المفاهيم الجديدة ويذهب تميزه بإسلامه واستعلاؤه بعقيدته فيمتهد بذلك سبيل إلى غزوه فكريًّا وحضاريًّا وعسكريًّا إذا لزم الأمر فلا يجد منه أعداء الله إلا مسخًا مشوّهًا لا يعول عليه في حراسة دين ولا في سياسة دنيا.
ولذلك لم يكن غريبًا أن يقول أحد المستشرقين: (إننا في كل بلد إسلامي دخلناه نبشنا الأرض لنحصل على تراث الحضارات القديمة قبل الإسلام, ولسنا نعتقد بهذا أن المسلم سيترك دينه ولكنه يكفينا منه تذبذب ولائه بين الإسلام وتلك الحضارات)[49].
ولم يكن غريبًا أن تؤتي هذه الدعوات الخبيثة أكلها في تمزيق دولة الخلافة, فتنشأ حركة التتريك في تركيا وهي حركة تتبنى الدعوة إلى عقد الولاء والبراء على أساس القومية الطورانيَّة, واتخذت من الذئب الأغبر شعارًا لها, والذئب الأغبر هو معبود الأتراك قبل أن يعرفوا الإسلام!!
ولم يكن غريبًا أن تنشأ بالمقابل حركة القومية العربية التي تدعو إلى الانفصال عن تركيا وإقامة الولاء والبراء على أساس العروبة, وبلغ الأمر الذروة عندما قاد لورانس ذلك الغربي الكافر الجيوش العربية فيما سمّي بالثورة العربية الكبرى ضد الخلافة العثمانية وانضم العرب إلى جيوش الحلفاء ضد دولة الخلافة تحت قيادة جاسوس كافر!! وانفصلوا بذلك عن بقية إخوانهم المسلمين, وأصبحوا يرون في كل تجمع يقوم على أساس العقيدة والدين بقية من بقايا الرجعية, وأثرًا من آثار التخلف!!
فماذا كانت نتيجة هذه النزعات العرقية الجاهلية؟ لقد سقطت دولة الخلافة وانفرط عقد الأمة الإسلامية, وبعد أن كانت تركيا باسم الإسلام تخيف جارتها روسيا, وظلت لعدة قرون تدير رحى الحرب داخل الأراضي الروسية أصبحت دويلة كادحة تتسول سلاحها من الغرب وتقبع مرعوبة في أقل من 10% من حدودها الأولى!
ولم يكن العرب أحسن حظًّا من تركيا بعد أن هاجت العصبية للعروبة في دمائهم, وحاربوا الأتراك المسلمين مع انجلترا الكافرة تحت قيادة ذلك الجاسوس الكافر, فقد أصبحوا أذلاء في بلادهم لا يطمعون أن يأمنوا فيها إلا بحبل من الغرب أو حبل من الشرق, واستطاع حفنة من اليهود أن يقهروا جيوش العروبة وأن يمرغوا كرامة هذه الأمة في التراب. وصدق الله العظيم {وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ }!


أيها المسلمون:
إن قضية الولاء والبراء من القضايا التي تراكمت عليها الأتربة بكيد وتدبير من أعداء الله حتى لا تتحرك الحمية الإسلامية في نفوس المسلمين لأن في ذلك الخطر الحقيقي على مخططاتهم ومطامعهم في هذه الأمة, وقد استنفر من أجل إماتة هذه القضية أقلام المستشرقين وصنائعهم من المستغربين وأنشئت لها الجامعات والمدارس التبشيرية وسخرت لها كافة أجهزة الإعلام الرسمية والغير رسمية, والنتيجة كما رأينا: أجيال مبتورة الصلة بأبسط حقائق الإسلام, ما تجهله من الإسلام أضعاف أضعاف ما تعرفه عنه, وما تعرفه منه مشوه مدخول, تتغنى بأمجاد الأوربيين, وتنادي بأتباع سنتهم شبرًا بشبر وذراعًا بذراع, يقود جيوشها جاسوس كافر لتحارب مع جيوش الحلفاء دولة الخلافة, وتبعية مهينة للشرق أو للغرب, وقابلية للغزو الفكري والحضاري بمختلف فنونه ووسائله, ولله الأمر من قبل ومن بعد.
أيها المسلمون:
قد تسألون الآن عن علاقة هذا بموضوعنا الأصلي وهو معركة تحكيم الشريعة؟
والجواب على ذلك: أنه لا يثبت في هذه المعركة ولا ينهض بتبعاتها إلا من رسخت في قلبه حقائق الولاء والبراء, فوالى في الله, وعادى في الله, وأحب في الله, وأسخط في الله, فلم يتخذ بطانة من دون المؤمنين, ولم يتخذ من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة, ولم يوال من حاد الله ورسوله ولو كان ذا قربى, ولم يلق بالمودة إلى عدو من أعداء الله مهما تراءى له في ذلك من الحظوظ العاجلة والمتاع القريب.
إن المسلم في سيره على درب الجهاد يقعد له الشيطان كل مرصد, ويلوح له بمفاسد تلحقه في نفسه وماله وولده بسبب إصراره على هذا الجهاد, ويزين له المهادنة بل والمداهنة مع الخصوم حتى لا تصيبه دائرة أو طمعًا في أن ينال من خصومه لعاعة من الدنيا أو يكف عن نفسه بأسهم, وتظل هذه الجوانب تفعل فعلها في نفس المسلم حتى تزل به القدم, ويستدرج إلى إلقاء السلم والتخلي عن المعركة, فيبدأ في المساومة ويبيع قضيته جزءًا بعد جزء بعرض من الدنيا! والمعصوم من عصم الله.
قد ترون في طريقكم أن أسباب القوة كلها بيد خصوم الشريعة فهم الذين يملكون القرار لأنهم الأغلبية, وهم الذين يملكون المال والإعلام والقوة الباطشة لأنهم الدولة, وهم الذين يملكون قضاء حوائج الناس لأن مقاليد الأمور في أيديهم, وقد يوئْيِسْكُم ذلك من مواصلة السير في نصرة الإسلام والمحاماة عن الشريعة, وقد تجدون من علماء السوء من يزين لكم السكوت والمداهنة ويسبغ لكم على تلبيساته شرعية زائفة.. فاحذروا هذه المزالق, واثبتوا على الحق الذي شرّفكم الله بالانتساب إليه وأعزّكم برفع لوائه, واعلموا أن القوة لله جميعًا, وأن الله منجز وعده, وناصر جنده, وأن كل ما على الأرض من متاع وزينة لا يساوي غمسة واحدة في غمرات جهنم وأن واجب المسلم في جميع هذه المواقع هو الانتصار للشريعة والصدع بكلمة الحق فإن تخليتم عن ذلك بل إذا استدرجتم إلى شيء من الاعتراض على الشريعة والمشاركة في تعطيلها فقد بؤتم بخسارة الدنيا والآخرة, وتلبستم بعمل من أعمال الكفر الأكبر!
ومن ناحية أخرى فإن أهمية هذه القضية تبدو في التخطيط الاستراتيجي لهذه المعركة ومعربة مواقع الناس منها قربًا وبعدًا وموالاة ومجافاة, حتى ترسم خريطة العلاقات مع الآخرين رسمًا دقيقًا على أساسها؛ فلا يوالي أعداء الله, ولا يتحالف معهم تحالفًا يخترق به الصف الإسلامي وتنكشف به عورات المسلمين, وفي التاريخ عبرة ومنهاج.
ولقد رأينا الرافضة على مدار التاريخ يقفون دائمًا مع خصوم الإسلام ضد أهل السنة والجماعة, وما دخل أهل السنة في معركة إلا كان الرافضة في صفوف أعدائهم, بل كانوا إذا انتصر المسلمون على عدوهم يقيمون الأحزان والمآتم, وإذا حدث العكس أقاموا الفرح والسرور, وإن من يعِ درس التاريخ يدرك هذه الحقيقة.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: (الرافضة توالي من حارب أهل السنة والجماعة, فهم يوالون التتار ويوالون النصارى. وقد كان بالساحل بين الرافضة وبين الفرنج مهادنة, حتى صارت الرافضة تحمل إلى قبرص خيل المسلمين وسلاحهم وغلمان السلطان وغيرهم من الجند والصبيان, وإذا انتصر المسلمون على التتار أقاموا المآتم والحزن, وإذا انتصر التتار على المسلمين أقاموا الفرح والسرور. وهم الذين أشاروا على التتار بقتل الخليفة وقتل أهل بغداد, ووزير بغداد ابن العلقمي الرافضي هو الذي خامر على المسلمين وكاتب التتار حتى أدخلهم أرض العراق بالمكر والخديعة ونهى الناس عن قتالهم, وقد عرف العارفون بالإسلام أن الرافضة تميل مع أعداء الدين)[50].
وعلى هذا ففي البلاد التي تكثر فيها الرافضة أو يكون لهم فيها وجود ظاهر لا ينبغي أن يعول المسلمون على التحالف مع هؤلاء أو يطمعوا في نصرتهم على شيء من الحق, فإن الرافضة لا ترضى بدولة تقام على السنة وتسود فيها أحكام الشريعة لأنها ستقف بطبيعة الحال حائلاً دون إشاعة ضلالاتهم ومعتقداتهم الفاسدة, وإنما الذي يرضي الرافضة أحد أمرين:
ـ وضع علماني لا تدين فيه الدولة بدين, لأنه يمتهد به سبيل إلى نشر ضلالاتهم تحت شعار حرية الاعتقاد ولا يوجد فيه من يقف لهم أو لدعوتهم بالمرصاد.
ـ أو وضع شيعي رافضي يدعو إلى ما يدعون إليه من الضلالات والمفتريات.
وإن من يعي درس التاريخ والواقع يدرك هذه الحقيقة وفي موقف النصيرية اليوم في بلاد الشام عبرة وعظات!!
وفي البلاد التي توجد فيها الأحزاب العلمانية التي تتبنى العلمانية عقيدة سياسية لها لا ينبغي للعمل الإسلامي أن يركن إليها أو أن يطمئن إلى تنسيقه معها في أية قضية, لأن الصدام بين العلمانية والإسلام واقع لا محالة. فالإسلام منهج شمولي يعبّد الناس في جميع شئونهم لله رب العالمين, ويقرر أن التشريع حق خالص لله – جلّ وعلا – من نازعه فيه فهو مشرك.
والعلمانية منهج ليبرالي يقوم على الفصل بين الدين والدولة وإعطاء الشعب ممثلاً في نوابه الحق في أن يشرع لحياته ودولته كما يشاء, فهما إذًا منهجان متباينان مهما جمعت بينهما في بعض الأحيان مصلحة جزئية مشتركة.


ولا يخفى أن العلمانية لا دين لها إلا المصلحة, فحيثما لاحت لها مصلحة في التحالف مع فريق من الناس لتحقيق هدف مرحلي تحالفت معه وإن كان خلافه معها من النقيض إلى النقيض, ثم لا تتورع أن تخذله وأن تفارقه إلى حليف جديد متى لاحت لها المصلحة مع حليف آخر في موضع آخر, فهي لا تعرف المواقف الثابتة وإنما تتأرجح مواقفها بحسب تأرجح المصالح وتتبدل بحسب تبدلها, فمرة تجدها في هذا الطرف ومرة تجدها مع الطرف الآخر, ومرة تجدها مع هذا الفريق ومرة تجدها مع فريق آخر وهكذا, فهم كما ذكر الله – عزّ جلّ -:
{مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلَى هَـؤُلاء وَلاَ إِلَى هَـؤُلاء وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً }. (النساء143).
وعلى هذا فإن الرصيد الحقيقي للعمل الإسلامي والدعوة إلى تحكيم الشريعة هم حملة الشريعة وأنصارها من العلماء والجماعات الإسلامية من أهل السنة على اختلاف طرائقها في التفكير ومنهاجها في العمل, ولا بديل للعمل الإسلامي من جمع كتائبه والتنسيق بين فصائله المختلفة وحشدها جميعًا في هذه المعركة التي لا ثبات فيها لضعيف ولا لمنفرد خلف الصف!
أيها المسلمون:
إن الذي نخلص إليه من ذلك كله ما يلي:
* إن الولاء للإسلام حبًّا ونصرًة, والبراءة من الكفر عداوًة وبغضًا. ركن من أركان التوحيد لا يتغير بتغير المواقف ولا يتبدل بتدل المصالح, ولو ساقوا إلى المسلم الحق كل ما على الأرض من متاع وزينة, بل لو وضعوا الشمس في يمينه والقمر في يساره على أن يخون رسالته أو يخذل دينه ما فعل حتى يظهره الله أو يهلك دونه.
* إن اتخاذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين من المحرمات القطعية المتواترة في القرآن والسنة, بل تبلغ مبلغ الكفر والردة, وغن عدم وضوح هذه القضية هو الذي أدى إلى التهارج واختلاط الصفوف مع الأحزاب العلمانية في الآونة الأخيرة, وإن المسلم الذي يفارق جماعة المسلمين إلى جماعة العَلمانيين ويقف في صف خصوم الشريعة ضد حملتها ونصرائها يكون بذلك قد خلع ربقة الإسلام من عنقه.
* إن تاريخ الرافضة حافل بالعداوة لأهل السنة, وغن التعويل عليهم في نصرة هذه
القضية ضرب من الوهم, وليعلم المشتغلون بهذه القضية أن العَلمانيين أقرب إلى قلوب الرافضة من حملة الشريعة والمجاهدين في سبيل تطبيقها, وأنهم يفضلون الدولة العلمانية على الدولة الإسلامية التي تقام على السنة, لأن الأولى عرض مستباح أمامهم بخلاف الثانية.
* إنه لا ينبغي أن يعوّل على الأحزاب العلمانية أو ينسق معها, لأن الإسلام والعَلمانية منهجان متباينان, والعلمانية لا تعرف الثبات في المواقف, ولكنها تدور مع مصالحها وتلهث ورائها حيث لاحت لها.
* إن حملة الشريعة من العلماء وأنصارها من الجماعات الإسلامية هم الرصيد الحقيقي لهذه القضية, وأية محاولة لتحكيم الشريعة بمعزل عن هؤلاء محاولة مقضي عليها بالفشل لا محالة, وكل محاولة لتجاوز هؤلاء في هذه المعركة خذلان بيّن كمحاولة من يدخل المعركة منفردًا معتمدًا على تحول خصومه إلى صفه لنصرته!!
* إن إشاعة العلم بهذه القضية جزء من الإعداد لهذه المعركة حتى تعزل الأحزاب العلمانية ولا تجد لها أشياعًا يلتفون لها في أوساط الأمة, وحتى يصبر الناس على ما يعقب عمليات التطبيق في الغالب من مكائد وتآمر, وحتى يفضل الناس الإسلام مع الجوع على الكفر مع الرغد وطيب العيش.
أيها المسلمون:
لقد أدى الغبش في هذه القضية يومًا من الأيام إلى أن تتحرك الجيوش العربية بقيادة جاسوس نصراني لتقاتل مع الحلفاء الكفرة جيوش الخلافة العثمانية لقاء وعود زائفة لم يتحقق منها إلا وعد بلفور بإقامة دولة إسرائيل!!
يقول لورانس قائد الجيوش العربية يومذاك والذي لقب بلورانس العرب: (إن كل ما كنا نحتاجه هو أن نهزم أعداءنا _والترك في مقدمتهم_ وكم أنا فخور بالمعارك الثلاثين التي خضتها والتي لم ترق فيها نقطة دم إنجليزي..! إن مجلس الوزراء قد دفع العرب إلى أن يقاتلوا في صفنا لقاء وعود معينة, وعود بتحويل الحكم إليها في المستقبل. ولم يكن هناك بد من أن أدخل في المؤامرة, وأن أصبح أحد أعضائها. وقد أنجزوا معنا ما أنجزوه من عمل مثمر بدافع من هذه الآمال. وقد كان واضحًا منذ البداية, أن هذه الوعود المبذولة, تصبح حبرًا على ورق في حالة انتصارنا. ولو أخلصت النصح للعرب لنصحتهم إذ ذاك, بأن يعتزوا بدولتهم ويعودوا إلى بيوتهم, وأن لا يغامروا بحياتهم في القتال لقاء دراهم معدودة.. ولكني فضلت أن نكون منتصرين وناكثين بالعهد على أن نكون خاسرين مهزومين)[51].
ومن أجل مزيد من التعريف بهذا ال ((لورانس)) ننقل لكم هذه الفقرة من مذكرات وايزمان أحد أقطاب الحركة الصهيونية حيث يقول: (ويقضي عليّ الواجب وأنا أبحث تاريخ العلاقات بين العرب واليهود, أن أثني هنا الثناء العظيم على الخدمات التي قدمها ((لورانس)) للقضية اليهودية, لقد عرفت لورانس وقابلته مرات عديدة في مصر. وقد كان يتردد بعد ذلك على منزلي في لندن من غير رسميات ولا كلفة.وكان موقف لورانس من الصهيونية موقفًا إيجابيًّا, لا شك فيه, وكان من الخطأ البالغ أن الكثيرين كانوا يتصورون أن لورانس عدو للصهيونية بحكم أنه كان صديقًا للعرب)[52].
لقد أدى الغبش في هذه القضية إلى التفاف فئام من الأمة حول الأحزاب العَلمانية التي تجاهر بعلمانيتها لمجرد أنها تعد الناس بشيء من الرغد وتلوح لهم بحلول لمشكلة الغذاء والكساء, ولو رسخت حقائق الولاء والبراء في النفوس ما التف حولها من الأمة رجل واحد, وكيف يرضى بموالاتها رجل يؤمن بالله واليوم الآخر, وهي التي ما فتئت تستعلن بردها لشرائع الإسلام وتعوا بلا مواربة للفصل بين الدين والدولة!؟


لقد أدى الغبش في هذه القضية إلى تأرجح المواقف السياسية لبعض قادة الاتجاهات الإسلامية وأصبحت خريطة الولاءات والتحالفات تتعدل كل يوم بل كل ساعة في بعض الأحيان, واستطاعت العَلمانية الحاكمة أن تخترق صفوف هذه الاتجاهات, وأن تستقطب بعض قياداتها, لأن الأمر لم ينطلق من مواقف عقيدية ثابتة, بل من موازنات سياسية تخضع لحسابات وتقديرات متفاوتة ومتجددة, وكم يفت في عضد الاتجاهات الإسلامية في هذه البلاد أن تتفق على مشروع لتحكيم الشريعة ثم تفاجأ بأن فريقًا منها قد خالفها إلى خصومها, وتحالف معهم, وبذل صوته لصالحهم, ولو أدى هذا إلى تنكيس أعلام الشريعة!!ولن يعدم ساعتها ما يخدر به ضميره من التأويلات والمخارج! ولو رسخت حقائق الولاء والبراء في القلوب بالقدر الذي يدرك معه هؤلاء أن مظاهرة خصوم الشريعة على حملتها وأنصارها باب من أبواب الردة عن الإسلام, وأن الوقوف في موقف المعارضة للشريعة والرفض لتطبيقها باب من أبواب الردة عن الإسلام كذلك, ما وجدنا كل هذه التذبذبات التي أتاحت لخصومنا أن يصلوا إلى ما يريدون دون أن يبذلوا في سبيل ذلك قطرة دم واحدة!!




الخاتمة

لقد تمهد من خلال الفصول السابقة أن تحكيم الشريعة يرتبط بأصل الرضا بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمد ,r, نبيًّا ورسولاً وأن الولاء والبراء لا يعقد على أساس الإيمان بالله ورسوله فمن اتخذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين فليس من الله في شيء وأن الحياد بين المؤمنين وخصومهم في هذه المعركة التي ترتبط بأصل دين الإسلام باب من أبواب النفاق والضلال عن سواء السبيل, وأن الشبه التي يقذف بها خصوم الشريعة من العلمانيين وأضرابهم ومن فتن بهم ودار في فلكهم أوهى من بيوت العنكبوت, وأنها لا تصمد أمام مناقشة علمية فهي كبناء من الوهم وحائط من الزور إن تلمسه ينهدم.
وإن من بقي على منازعته في تحكيم الشريعة بعد تجلية هذه الحقائق فليراجع أصل إيمانه بالله ورسوله وليعلم أنه بذلك يقذف بنفسه إلى جحيم الدنيا والآخرة.
إن أحد التحديات الخطيرة _إن لم يكن أخطرها على الإطلاق_ والتي تواجه المسلمين في هذا العصر لهي إسقاط اللافتات الزائفة وفضح الشعارات الملبسة التي تتخفي ورائها العلمانية الكافرة التي تبث سمومها في عقول وقلوب أبناء هذه الأمة.
ولفضح العلمانية ومواجهتها لا بد أولاً أن يصل أمر المواجهة إلى المستوى المطلوب من الحسم والوضوح في نفوس أهل السنة.. فإنه بدون هذا الحسم وهذا الوضوح تعجز تجمعات أهل السنة ويعجز علماؤها ومفكروها على أداء واجبهم في هذه الفترة الحرجة وتتأرجح أمام التجمعات العلمانية حيث تحسبها تجمعات ليست بكافرة, وبالتالي تفقد تجمعات أهل السنة أهدافها الحقيقية بفقدانها لتحديد نقطة البدء في مواجهة هذه التجمعات العلمانية من حيث تقف فعلاً, لا من حيث تزعم والمسافة بعيدة بين الزعم والواقع.. بعيدة جدًّا.
لقد ظلت الشريعة الإسلامية هي المصدر الوحيد للتشريع المهيمن على كل شئون الحياة في بلاد الإسلام طيلة أربعة عشر قرنًا إلا بضع سنين, وبغض النظر عن اقتراب أو ابتعاد تلك البلاد من تنفيذ أحكام هذه الشريعة سواء على مستوى الدول أو مستوى الأفراد فإن مبدأ تنحية الشريعة عن الحكم ابتداءً وتحكيم القوانين الوضعية الكافرة لم يحدث سوى في فترة قصيرة جدًّا في بعض أجزاء البلاد الإسلامية التي سيطر عليها التتار فقدّموا فيها الحكم بكتابهم وهو الياسق على الحكم بكتاب الله وكان ذلك محصورًا في التتار ولم يكن تشريعًا عامًّا يُلزم به كافة المسلمين.
ولم يلبث ذلك الوضع الشاذ أن زال وعادت السيادة للشريعة وحدها, ولم يكن يخطر ببال أحد من علماء المسلمين وعامتهم أن تبتلى الأمة جميعها بمثل ما ابتليت به من سقوط الخلافة العثمانية منذ سبعين عامًا حيث بلغ الانحراف مبلغ الكفر البواح بتبديل الشرع المنزل وجعل الشرع المبدل هو الشرع الحاكم الذي يلزم به الكافة.
لذا, لم يكن غريبًا أن تفيق الأمة من غفلتها وتفيء إلى كنف شريعتها الربانيّة لتنبذ هذا الكيان الغريب في جسدها فإذا كانت بعض شعوب الأرض في أوروبا الشرقية ممن لا دين لها قد فاءت إلى هويتها رغم كل محاولات البطش والطمس فليس بغريب أن تفيء أمة الإسلام إلى هويتها لتخلص دينها لربها كما فعلت طوال قرون طويلة منذ إشراقة فجر الإسلام في مكة المكرمة منذ أربعة عشر قرنًا.


لقد خاب وخسر ظن أعداء الإسلام الذين توهموا أنه بسقوط الخلافة العثمانية وخروج عسكرهم من بلاد المسلمين وإبدال قوات من الزنادقة والمنافقين بهم, ظنوا أنهم قد وأدوا الأمة الإسلامية وفصلوا روحها عن جسدها ومرت أعوام توهم الزنادقة من العلمانيين أن الأمر قد استقر لهم وأن أساليب البطش التي لم تعرف لها البشرية مثيلاً في تاريخها قد آتت ثمارها فإذا بالصحوة الإسلامية تقلب الموازين والحسابات.
جاءت الصحوة الإسلامية مصداقًا لقوله ,r, ((ما تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله)).
جاءت لتقود مسيرة عودة الأمة إلى رشدها تتحدى الفتن والمكائد وتواجه الابتلاء في الأموال والأنفس لتنال تكريم الله لها في الدنيا والآخرة.

أيها المسلمون:
إن عجلة الزمان لن تعود إلى الوراء فهذه مسيرة الصحوة قد تحركت ولن تتوقف بإذن الله إلا عند إحدى الحسنيين. وكل يوم تشرق فيه الشمس على بلاد الإسلام تكسب المسيرة أنصارًا جددًا وتقطع خطوات على طريقها نحو غايتها بينما يخسر أعداء الإسلام في كل يوم معقلاً ولا يكادون يفيقون من صدمة حتى تدهمهم الأخرى.
إن تعرية الأنظمة العَلمانية وكشف عمالتها وتآمرها على الشعوب المسلمة.. خطوة على الطريق وإنجاز لصالح الصحوة الإسلامية.
وإن فضح الزنادقة والمنافقين ممن أسبغ عليهم أعداء الإسلام ألقاب الزعامة والعبقرية في السياسة والأدب والفن.. خطوة على الطريق.
وإن شيوع العلم بأن تحكيم الشريعة يرتبط بأصل دين الإسلام وأن تحكيم القوانين الوضعية ردة صريحة عن الإسلام.. خطوة على الطريق.
وإن إحياء فريضة الجهاد ومنازلة الكفار الممتنعين عن الشرائع خطوة على الطريق.
وإن عودة المرأة المسلمة إلى الحجاب كدلالة على عودتها إلى منهج الإسلام الشامل وإدراكها لحقيقة ما يراد بها ولها خطوة على الطريق.
إن المستقبل للإسلام ونصر الله آت والله يقول الحق وهو يهدي السبيل وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.


[1] أخرجه بن حبان والحاكم عن أبي سعيد بإسنادٍ صحيح(صحيح الجامع الصغير2/1097).

[2] يُقصَد بالشارع في الفقه الإسلامي –الله عز وجل،والنبي صلى الله عليه وسلم.

[3] مجموع فتاوى بن تيمية3/19.

[4] مدارج السالكين-ابن قيم الجوزية2/118.

[5] تفسير بن كثير1/250.

[6] مدارج السالكين لابن القيم 2/20.

[7] أحكام القرآن الكريم للجصّاص.

[8] أعلام الموقعين-ابن القيم1/51.

[9] تفسير بن كثير2/171.

[10] أضواء البيان للشنقيطي.

[11] جمع خَلَف.

[12] الإيمان لابن تيمية297،296.

[13] إرشادُ الساري1/82.

[14] الإيمانُ الأوسط لابن تيمية181.180.

[15] الصلاة لابن القيم20،19.

[16] المرجع السابق25.

[17] تفسير بن كثير، سورة النساء.

[18] تفسير القرآن العظيم لابن كثير 2/67.

[19] تفسير القرآن العظيم لابن كثير1/518.

[20] أحكام القرآن للجصّاص3/181.

[21] مجموع الفتاوى لابن تيمية 3/267.

[22] رسالة تحكيم القوانين للشيخ محمد بن إبراهيم 1.

[23] عمدة التفسير للشيخ أحمد شاكر 2/172-174.

[24] مؤامرة فصل الدين عن الدولة لمحمد كاظم حبيب 21 .

[25] راجع تعليقه على هامش فتح المجيد 406.

[26] فكرة القومية العربية على ضوء الإسلام لصالح بن عبد الله العبود 168.

[27] مجموع فتاوى ومقالات متنوعة 1/274.

[28] أضواء البيان للشنقيطي ج 4/83.

[29] المرجع السابق.

[30] التشريع الجنائي الإسلامي 2/708 .


[31] الحكومة الإسلامية للمودودي 105, 106 .

[32] الإسلام والعلمانية وجهًا لوجه د.يوسف القرضاوي 73, 74 .

[33] المشروعية الإسلامية العليا للمستشار علي جريشة 37.

[34] الحدود الشرعية كيف نطبقها للشيخ عبد الرحمن عبد الخالق 20.

[35] تفسير القرآن العظيم لابن كثير 2/67.

[36] البداية والنهاية لابن كثير 13/119.

[37] مجموع فتاوى ابن تيمية 3/267.

[38] البداية والنهاية لابن كثير 13/119.

[39] راجع تفسير الطبري بتحقيق محمود شاكر ج 10/349.

[40] راجع تفسير الطبري بتحقيق محمود شاكر (349- 358).

[41]المرجع السابق.

[42] مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية 7/292.

[43]مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية 7/287 -288.


[44] حلية الأولياء عن ابن عباس 1/312 .

[45] تفسير الطبري 3/228.

[46] المرجع السابق 6/277 .

[47] مجموع الفتاوى 7/13 .

[48] البداية والنهاية لابن كثير 4/64 ,65.

[49] الولاء والبراء في الإسلام لمحمد القحطاني 416.

[50] مجموع فتاوى ابن تيمية 28/636.

[51] مؤامرة فصل الدين عن الدولة لمحمد كاظم حبيب 84.

[52] نقلاً عن الدكتور أحمد شلبي . من كتابه:اليهودية106.