بِسْمِ اللهِ الرحْمَنِ الرحِيم



مصطلحُ تَوحيدِ الحاكِمِيةِ.



الفَتْوى رقم: 97 / 1 / 6306


وسُئِلَ مِراراً؛ عَنْ مُصْطَلَحِ ( تَوحِيدِ الحاكِمِيَّةِ)؛ هَلْ هُو مَوْجُودٌ فِي الشرْعِ، أمْ هُو مُبْتَدَعٌ كما قالَ بَعْضُهم؟.

فأجاب:
الحَمْدُ للهِ؛ وبَعْد:

فالتَّقْسيمُ المَعُرُوفُ المَشهُورُ للتوحيدِ ( الربوبِيَّةُ والألوهِيَّةُ والأسماءُ والصفات) مُقَرَّرُ لدَى المتقَدِّمِينَ من العُلَماءِ رَحِمَهُمُ الله، وَدِلِيلُهُ التَّتَبُّعُ والاسْتِقْراءُ التامُّ لِنُصُوصِ الشرع، وعَلَى ذلكَ دَلَّ الوَحْيانِ الشريفان، لا يُقالُ إنَّ هذا التقْسيمَ الثلاثِيَّ لَمْ يكُنْ مُعُروفاً زَمَنَ النَّبِيِّ صلَّى اللهُ علَيهِ وسلمَ وفي الصدْرِ الأَولِ مِنَ الأُمَّةِ رَضيَ اللهُ عَنْهم!، لأّنَّهُ يُقالُ فِي جَوابِه: كَونُهُ لَمْ يَكُنْ مَعْرُوفاً بِحَسْبِ الاصْطلاحِ؛ نَعَمْ؛ سَلَّمْنا، أَما بَحَسْبِ الوُجُودِ! فَلا، كَما لا يَنْفِي اصْطِلاحُ النحاةِ عَلى تَقْسيمِ الكَلِمَةِ إلى اسمٍ وفِعْلٍ وحَرْفٍ وجُودَ ذلكَ فِي نَفْسِ الأَمْر، مَعَ أنَّ هذا لَمْ يكنْ مَعْروفاً في الصدْرِ الأَولِ كذلك، وإِنَّما أَحْوجَ الأَئِمَّةَ إلى هذهِ القِسْمَةِ الثلاثِيَّةِ ظُهُورُ طَوائِفِ أهْلِ البِدَع، واخْتِلاطُ المُسْلِمينَ بَعْدَ انْتِشارِ الإسلامِ بِغَيْرِهم من الأُمَمِ فَتَسَرَّبَتْ إلى المُسْلِمينَ كَثيرٌ مِن العَقائدِ الباطِلَةِ مِن الدياناتِ الأخْرىَ، كالقَوْلِ بِوِحْدَةِ الوُجُودِ والحُلُولِ والاتِّحادِ، وجَحْدِ صِفاتِ البارِي جَلَّ وعَلا وتَعْطِيلِها وتَأْوِيلِها؛ وأقْوالِ الفَلاسِفَةِ والمُتَكَلِّمينَ؛ وغَيْرِ ذلكَ مِمَّا تَصَدَّى الأئِمَّةُ لِبيانِ بُطْلانِهِ واقْتَضاهُمُ الاصْطِلاحَ علَى التَّقْسيمِ المَذْكُورِ بَياناً لما يَجِبُ عَلى العَبْدِ نَحْوَ خالِقِهِ تعالَى؛ وصِيانَةً لَهُ عنِ الوُقُوعِ فِيما يَقْدَحُ فِي ذلكَ ويَخْدِشُ صفاءَ التوْحيدِ الذي لأَجْلِهِ خُلِق.

وعَلَى هَذا مَضى عَمَلُ السلَفِ رَحِمَهُمُ الله، ثُمَّ لَما وَقَعَ فِي القُرُونِ الأخِيرَةِ هَذهِ اسْتِبْدَالُ القَوانِينِ الوَضْعِيَّةِ بالشَّرْعِ المُطَهَّرِ – وكانَ ذلكَ قَدْ سَبَقَ وقُوعُهُ فِي بَعْضِ أمْصارِ المُسْلِمينَ؛ كَما وَقَعَ زَمَنَ ابنِ تَيمِيةَ من التتار؛ وفِي بَلادِ المَغْرِب الأَقْصى مِن مُلُوكِ بَعْضِ الطوائِف، وفِي البلادِ الهِنْدِيَّةِ زَمَنَ السلطان (جلالِ الدين أكْبَر) فِي القَرْنِ العاشِرِ الهِجْرِي – وعَمَّ ذلكَ وطَمَّ بِلادَ الإسلامِ بَعْدَ إلْغاءِ الخِلافَةِ الإسلامِيَّةِ فِي القَرْنِ الأَخِير، وبَلغَ التآمُرُ عَلَى بلادِ الإسلامِ إِلَى تَقْسيمِها وإلغاء أحكامِ الشرْعِ الإسلامِي مِنها؛ وإحْلالِ شَرائِعِ الأُمَمِ الكافِرَةِ النصرانِيَّةِ واليَهُودِيَّةِ مَحَلَّها!!؛ والتَّمْكِينِ لِدُعاةِ العِلْمانِيَّةِ والقَوْمِيَّةِ مِن القِيامِ عَلَيْها فِي أمصارِ المُسْلِمين، حَتَّى غَدا الناسُ إلَيْها أسراباً تِلْوَ أَسْرابٍ!؛ أَحْوجَ ذَلكَ أهْلَ العِلْمِ إلَى بَيانِ خَطَرِ هذه الواقِعَةِ عَلى الإسْلامِ وأَهْلِهِ، إذ كانَ التحاكُمُ إلَى شَرِيعَةِ اللهِ تعالَى والرضا بِحُكْمِهِ والتسليمُ لَهُ فارِقاً بَينَ الشرْكِ والتَوحِيد، وكانَ تَحْكِيمُ هذه الشرائعِ النصرانِيَّةِ واليَهُودِيَّةِ، والتَحاكُمُ إلَيْها عَنْ رِضاً وطَواعِيَةٍ مُناقِضاً لِما أمَرَ اللهُ تعالَى بِهِ مِن إفْرادِهِ بالربوبِيةِ والألوهِيَّةِ وحَدَهُ لا شَريكَ له ولِما أوْجَبَهُ مِن الكُفْرِ بالطاغُوتِ الذي لا يَصِحُّ إيمانُ عَبْدٍ إلاَّ بهِ.

وهذا المَعْنَى الذي أَشَرْنا إَلَيهِ؛ وهُوَ إفْرادُ اللهِ تعالَى بالحُكْمِ والتشرِيعِ مَدْلُولٌ عَلَيهِ بَنَحْوِ قَولِهِ تعالَى فِي سُورَةِ الأنْعام: {قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (56) قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ}.
وقَوْلِهِ تعالَى فِيها أيضا: {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ}.
وقَوْلِهِ فِيها أَيْضا: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ}.
وقَولِه تعالى فِي سُورَةِ يُوسُف: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}. فالإشراكُ باللهِ سُبْحانَهُ في حُكْمِهِ كالإشراكِ بِهِ فِي عِبادَتِهِ؛ ولا فَرْق.
وقَوْلِهِ تعالَى فِيها أَيضاً: {وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ}.
وقَولِهِ فِي القَصَصِ جَلَّ وعلا: {وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآَخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}.
وقَوْلِهِ فِيها أيضا: {وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آَيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (87) وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}.
وقَوْلِه تعالَى في سُورَةِ الشورَى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}.
وقَوْلِهِ في سُورَةِ الكَهْفِ: {وَلاَ يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً}،
فَكَيْفَ يُقالُ مَعَ هذا كُلِّهِ؛ ومَعَ هذه الآياتِ المُحْكُماتِ البَيِّناتِ إنَّ ذلكَ مُبْتَدَعٌ فِي الدينِ؟!!، فإنْ أرادَ القائِلُ الاصْطلاحَ والتَّقْسيمَ فَقَدْ قَدَّمْنا ما فِيه، وإنْ أرادَ الوُجُودَ في نَفْسِ الأمْرِ؛ فلا، بَلْ مَنْ سَمَّى ذلكَ اخْتِراعاً وبِدْعَةً مِن المُعاصِرينَ! فَقَوْلُهُ هُو البِدْعَةُ فِي الدين، هدانا اللهُ وإياهُ إلى التي هِيَ أقْوم.

ثُمَّ إِنَّنِي أَرَى الأوْلَى فِي ذلكَ الْتَزامَ ما وَرَدَ عن السلَفِ رَحِمَهُمُ اللهُ؛ ولأَنَّ هذا التَّوحِيدَ الذي ذَكَرُوه ( تَوحيدَ الحاكِمِيَّةَ) مُنْدَرِجٌ تَحْتَ أنواعِ التوحيدِ الثلاثَةِ التِي ذكَرُوها؛ وهُوَ تَقْسِيمٌ جامِعٌ ماِنِعٌ وللهِ الحَمْد؛ وأدلُّ دَليلٍ عَلى هذا أنَّ الأئِمَّةَ علَى مَرِّ تارِيخِ الإسلامِ قَدْ جَعَلُوهُ أصلاً فِي رَدِّ ودَحْضِ كُلِّ كُفْرٍ وَشِركٍ وضَلالَة!!، وحَتَّى لا يَطَّرِدَ فَتْحُ البابِ فِي هَذا لِكُلِّ مِن أرَادَ الاصْطِلاحَ فِيما جَدَّ مِن نَوازِلِهِ بالمُسْلِمين، نَعَمْ؛ إنِ احْتِيجَ إلَيْهِ لِبَيانِ خَطَرِهِ والتحْذيرِ مِنْهُ وتنْبِيهِ مَنْ غَفَلَ عَنهُ فلا ضَيْرَ، ومَعَ هذا فَيُقالُ كذلك: حَسْبُ مَن احْتاجَ إلى بَيانِ هذا أنْ يَذكُرَ تَعَلُّقَهُ بأنواعِ التوحيدِ الثلاثَةِ بِوَجْهٍ مِن الوُجُوه، بَلْ ذلكَ أعْظُمُ أثَراً وأشَدُّ وقْعاً وأَوضَحُ فِي البَيانِ، فَلَو قال قائل: إن مِن تَوحِيدِ الأُلُوهِيَّةِ أنْ يُفْرَدَ اللهُ تعالى وحْدَهُ لا شَريكَ لهُ بالتحْلِيلِ والتَّحْرِيمِ، فَيَتَعَبَّدَ المَرْءُ بِتَحْلِيلِ ما أحَلَّهُ وتَحْريمِ ما حَرَّمَهُ، وإنَّ تَحْكِيمَ هَذهِ الشرائعِ الوضْعِيَّةِ شِركٌ باللهِ تعالَى وكُفْرٌ بَوحْدانِيَّتِه، وإنَّ التحاكُمَ إلى هذه القوانِينِ الوضْعِيَّةِ عَنْ رِضاً واخْتِيارٍ شِرْكٌ باللهِ في حُكْمِهِ والله تعالَى لا يُشْرِكُ فِي حَكْمِهِ أحَداً؛ لكانَ ذلكَ مُحَصِّلاً لِغايَةِ المَقْصُودِ، وباللهِ وحْدَهُ التوفِيق.

والأَمْرُ يَسيرٌ قَريبٌ إنْ شاءَ اللهُ سُبْحانَهُ؛ فلا حَاجَةَ إلى ما يَصْنَعُهُ بَعْضُهُمْ مِن التهْويلِ والتَّشْنِيعِ عَلى المُخالِفِ ورَمْيِهِ بالبِدْعَةِ والخُرُوجِ عنْ جادَّةِ السلَفِ رَحِمَهُمُ اللهُ تعالى، خاصَّةً وقَدْ بَيَّنا لكَ مَقاصِدَ من قالَ بِهِ مِن المُعاصِرين، كما لا يَلْزَمُ مَن أنْكَرَ التَّسْمِيَةَ الحادِثَةَ هذه ( تَوْحيدَ الحاكِمِيَّةِ) أنْ يَكُونَ مُنْكِراً لِما دَلَّتْ عَلَيهِ مِن المَعْنَى؛ كما يَظْهَرُ مِما سَبَق، والله أعلم.

نَعَمْ إنْ كانَ مَقْصُودُ مَن يُنْكِرُ هذَا الاصْطِلاحَ التَّهْوينَ مِن شأْنِ القانُونِ الوَضْعِيِّ الكافِرِ وشأْنِ تَحْكِيمِهِ والتَّحاكُمِ إلَيْهِ؛ والمُجادَلَةَ عَن القائِمِينَ عَلَيهِ فِي أمْصارِ الإسلامِ - حَتَّى سَمَّوْا أَنْفُسَهُمْ مَشَرِّعِنَ؛ ومَجَالِسَهُمْ (بالمَجالِسِ التِشريعِيَّةِ) فَنازَعُوا اللهَ تعالَى فِي أُلُوهِيَّتِهِ - كَما يَصًنْعُهُ بَعْضهم!؛ فَتِلكَ مَسْألَةٌ أُخْرى يَحْتاجُ الجَوابُ عَنْها إلَى تَفْصيلٍ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ؛ فإنَّ تَشْرِيعَ القوانِينِ وإخْضاعَ الخَلْقِ للتحاكُمِ إلَيها كُفْرٌ مُخْرِجٌ مِن مِلَّةِ الإسلامِ حَتَّى وإنْ زَعَمَ القائِمُ عَلَيْهِ أنَّ شَرْعَ اللهِ أكْمَلُ وأَحْسَن؛ أعاذَنا اللّهُ وعَافَاناَ وكافَّةَ المُسْلِمينَ مِن هَذهِ الفاقِرِةِ العَمِيَّةِ والداهِيَةِ المَدْهِيَّةِ، ولا حَوْلَ ولا قُوّةَ إلا باللهِ؛ واللهُ المُسْتَعانُ؛ وصلَّى اللهُ علَى مَحَمَّدٍ وآلِهِ وصحبهِ وسلم.
والحمدُ للهِ رب العالَمِين.


أبو الوليد الغزِّيُّ الأنصاريُّ
"فك الله أسره"