"المفهوم الحقيقي للفتنة"






تمهيد:

بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، قاصم الجبارين وناصر المستضعفين، القائل: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ}.
والصلاة والسلام على نبي المرحمة ونبي الملحمة، القائل: (بعثت بالسيف حتى يعبد الله وحده).

وبعد:

فإن الناس قد اختلفوا في مفهوم الفتنة اختلافاً كبيراً، نتج عن ذلك وجود مناهج متباينة في التعامل مع النصوص التي تتحدث عن الفتنة في الدين.

- ففرقة اعتقدت؛ أن الفتنة في الأموال والأولاد وملذات الدنيا هي كالفتنة في الدين سواء، وعليه فإنه يجوز التضحية بالعقيدة في سبيل الحفاظ على المصالح الدنيوية، وعززوا اعتقادهم هذا بكثير من النصوص الشرعية، كقوله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً}، وقوله عز من قائل: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}، أو قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْر}... وغيرها من الآيات.

- وفرقة اعتقدت؛ أن الابتلاء في سبيل الدين يعتبر فتنة يجب تفاديها، واعتبروها ظاهرة سلبية وعلامة من علامات النقص أو الانحراف عن النهج الصحيح المراد اتباعه من قبل الدعاة.
كالموقف الذي وقفته بنو إسرائيل تجاه موسى حينما اشتد عليهم بلاء فرعون وجنوده، فقالوا مخاطبين موسى عليه السلام: {أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا}.
وكما هو موقف المنافقين وضعاف النفوس مع أنبيائهم وقادتهم على مر العصور، حيث يتهمون القيادة بالنقص وسوء التصرف، أو التسرع والاستعجال في قطف الثمرة، وهي الأسباب التي يعتقدون أنها تجلب لهم الابتلاء والفتنة.
ولكي نقف عند المفهوم الحقيقي للفتنة، لابد من الرجوع إلى النصوص القرآنية التي نزلت لتعرّف هذا المصطلح وتصحح المفاهيم الخاطئة حولها، ونحن نعيش فترة شبيهة بما كان يعيشه الصحابة الكرام، مرحلة الإعداد والدعوة وسط حصار الكفار وتحالفاتهم.

الفتنة أكبر من القتل:

قوله تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.

يقول ابن كثير رحمه الله:

(قال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن أبي بكر المقدمي، حدثنا المعتمر بن سليمان عن أبيه حدثني الحضرمي عن أبس السوار عن جندب بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث رهطاً وبعث عليهم أبا عبيدة بن الجراح فلما ذهب ينطلق بكى صبابة إلى رسول الله فحبسه وأرسل عليهم عبد الله بن جحش وكانوا ثمانية كلهم من المهاجرين، ومعه كتاب مغلق وكلفه ألا يفتحه حتى يمضي ليلتين، فلما فتحه وجد به؛ "إذا نظرت في كتابي هذا فامض حتى تنزل بطن نخلة - بين مكة والطـائف - ترصد بها قريشاً وتعلم لنا من أخبارهم ولا تكرهن أحداً على المسير معك من أصحابك"، وكان هذا قبل غزوة بدر الكبرى.
فلما نظر عبد الله بن جحش في الكتاب، قال: سمعاً وطاعة، ثم قال لأصحابه، قد أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أمضي إلى بطن نخلة أرصد بها قريشاً حتى آتيه منها بخبر، وقد نهى أن أستكره أحداً منكم، فمن كان منكم يريد الشهادة ويرغب فيها فلينطلق ومن كره ذلك رجع، فأنا ماض لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. فمضى ومضى معه أصحابه لم يتخلف أحد منهم.

فسلك الطريق على الحجاز، حتى إذا كان ببعض الطريق ضل بعير لسعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان رضي الله عنهما، فتخلفا عن الركب ليبحثا عن البعير، ومضى الستة الباقون.

حتى إذا كانت السرية ببطن نخلة مرت عير لقريش تحمل تجارة فيها عمرو بن الحضرمي وثلاثة آخرون، فقتلت السرية عمراً ابن الحضرمي وأسرت اثنين وفر الرابع وغنمت العير، وكانت تحسب أنها في اليوم الأخير من جمادى الآخرة، فإذا هي في اليوم الأول من رجب وقد دخلت الأشهر الحرم، التي تعظمها العرب، وقد عظمها الإسلام وأقر حرمتها.

فلما قدمت السرية بالعير والأسيرين على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام"، فوقف العير والأسيرين وأبى أن يأخذ من ذلك شيئاً.

فلما قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، سقط في أيدي القوم وظنوا أنهم قد هلكوا، وعنفهم إخوانهم من المسلمين فيما صنعوا، وقالت قريش: قد استحل محمد وأصحابه الشهر الحرام، وسفكوا فيه الدم وأخذوا الأموال وأسروا فيه الرجال، وقالت اليهود: تفاءلوا بذلك على محمد... عمرو بن الحضرمي قتله واقد بن عبد الله، عمرو؛ عمرت الحرب، والحضرمي؛ حضرت الحرب، وواقد بن عبد الله؛ وقدت الحرب.
فلما أكثرت الناس في ذلك، أنزل الله تعالى قوله: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ... الآيات}.

أي إن كنتم قتلتم في الشهر الحرام فقد صدوكم عن سبيل الله مع الكفر به وعن المسجد الحرام، وإخراجكم منه وأنتم أهله، {أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ}؛ من قتل من قتلتم منهم، {وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ}؛ أي قد كانوا يفتنون المسلم في دينه حتى يردوه إلى الكفر بعد إيمانه فذلك أكبر عند الله من القتل، {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا}؛ أي ثم هم مقيمون على أخبث من ذلك وأعظمه غير تائبين ولا نازعين.

قال ابن إسحاق: فلما نزل القرآن بهذا وفرج الله على المسلمين ما كانوا فيه من الشدة، قبض رسول الله العير والأسيرين، وبعثت إليه قريش في فداء عثمان بن عبد الله والحكم بن كيسان، فقال رسول الله: "لا نفديكموهما حتى يقدم صاحبنا "- يعني سعد وعتبة - ففداهما رسول الله منهم، فأما الحكم بن عبد الله فلحق بمكة ومات كافراً.

فلما تجلى عن عبد الله بن جحش وأصحابه ما كان حين نزل القرآن طمعوا في الأجر، فقالوا يا رسول الله: أنطمع أن تكون لنا غزوة نعطى فيها أجر المجاهدين؟ فأنزل الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّه ِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}) اهـ.

وجاء في ظلال القرآن - في تفسير هذه الآيات - ما يلي:

(إن المسلمين لم يبدؤوا القتال، ولم يبدؤوا العدوان، إنما هم المشركون، هم الذين وقع منهم الصد عن سبيل الله، والكفر به والمسجد الحرام، لقد صنعوا كل كبيرة لصد الناس عن سبيل الله، ولقد كفروا بالله وجعلوا الناس يكفرون، ولقد كفروا بالمسجد الحرام، انتهكوا حرمته فآذوا المسلمين، وفتنوهم عن دينهم طوال ثلاثة عشر سنة قبل الهجرة وأخرجوا أهله منه، وهو الحرم الذي جعله الله آمناً، فلم يأخذوا بحرمته ولم يحترموا قدسيته، وإخراج أهله منه أكبر عند الله من القتال في الشهر الحرام، وفتنة الناس عن دينهم أكبر عند الله من القتل.

وقد ارتكب المشركون هاتين الكبيرتين فسقطت حجتهم في التحرز بحرمة البيت الحرام وحرمة الشهر الحرام، ووضح موقف المسلمين من دفع هؤلاء المعتدين على الحرمات، الذين يتخذون منها ستاراً حين يريدون وينتهكون قداستها حين يريدون، وكان على المسلمين أن يقاتلوهم أنى وجدوهم، لأنهم عادون باغون أشرار، لا يرقبون حرمة ولا يتحرجون أمام قداسة، وكان على المسلمين ألا يدعوهم يحتمون بستار زائف من الحرمات التي لا احترام لها في نفوسهم ولا قداسة.

هؤلاء طغاة بغاة معتدون، لا يقيمون للمقدسات وزناً ولا يتحرجون أمام الحرمات، ويدوسون كل ما تواضع المجتمع على احترامه من خلق ودين وعقيدة، يقفون دون الحق فيصدون الناس عنه، ويفتنون المؤمنين ويؤذونهم أشد الإيذاء، ويخرجونهم من البلد الحرام الذي يأمن فيه كل حي حتى الهوام.
ثم بعد ذلك كله يتسترون وراء الشهر الحرام، ويقيمون الدنيا ويقعدونها باسم "الحرمات" و "المقدسات" ويرفعون أصواتهم؛ انظروا ها هو ذا محمد ومن معه ينتهكون حرمة الشهر الحرام!

فكيف يواجههم الإسلام؟ يواجههم بحلول مثالية طائرة! إنه إن يفعل يجرد المسلمين الأخيار من السلاح، بينما خصومهم البغاة الأشرار يستخدمون كل سلاح، ولا يتورعون عن سلاح، إن الإسلام لا يصنع هذا، لأنه يريد مواجهة الواقع لدفعه ورفعه، يريد أن يزيل البغي والشر، وأن يقلّم أظافر الباطل والضلال ويريد أن يسلم الأرض للقوة الخيرة، ويسلم القيادة للجماعة الطيبة...

إن الإسلام يرعى حرمات من يرعون الحرمات، ويشدد في هذا المبدأ، ويصونه ولكنه لا يسمح بأن تتخذ الحرمات متاريس لمن ينتهكون الحرمات، ويؤذون الطيبين ويقتلون الصالحين ويفتنون المؤمنين ويرتكبون كل منكر وهم في منجاة من القصاص تحت ستار الحرمات التي يجب أن تصان.

إن الإسلام يدفع الجماعة المسلمة إلى الضرب على أيدي الظالمين، وإلى قتالهم وقتلهم وإلى تطهير جو الحياة منهم، هكذا جهرة وفي وضح النهار) انتهى.

وبعد:
أقول في هذا المقام؛ يجدر بنا أن نقف لتسجيل ملاحظة على واقع المسلمين اليوم...
إذ نرى تشابهاً كبيراً بين واقع الجماعة المسلمة الأولى في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وبين واقع جماعة إسلامية ربانية معاصرة، على الأقل في هذه النقطة بالذات.
فالحكومات الطاغوتية تشن حرباً لا هوادة فيها على المؤمنين، الذين خرجوا على شرعة الحكام العلمانيين المرتدين، وشقوا عصا الطاعة عليهم، ويستعملون كل الأساليب البشعة التي لا تخطر على بال إنسان، وتتمزق القلوب رعباً وخوفاً وهلعاً بمجرد ذكرها فضلاً عن تحملها.
هذا بالإضافة إلى انتهاكهم المستمر للحرمات الآمنة والأعراض الطاهرة ومداهمتهم للبيوت في وضح النهار وآناء الليل لاعتقال المجاهدين وعائلاتهم، لا لشيء إلا أن يقولوا ربنا الله، {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ}، ثم قطع الأرزاق عنهم بطردهم من وظائفهم أو الاستيلاء على أموالهم وتجارتهم.
وكل هذا يتم تحت غطاءات قانونية ظالمة، كأن يتهموا هؤلاء المؤمنين بالإرهاب وإرعاب الناس والاعتداء على أمن ومؤسسات الدولة.
وإذا ما قارنا كيد هؤلاء الطغاة ومكرهم وجرائمهم في حق أهل الحق مع ردود الفعل التي يقوم بها هؤلاء من حين لآخر، حينما تتاح لهم الفرصة لذلك، نجد الفارق كبيراً إلى أبعد حد، لا يستحق أي اهتمام.
ولكن الطغاة يستغلون هذه الردود الفعلية الهزيلة ليجعلوا منها مبرراً وسنداً قانونياً لضرب المؤمنين على مرأى ومسمع من الجماهير الغافلة في الداخل والرأي العام في الخارج، مع العلم أن هذا الأخير يكتفي بإصدار البيانات الخرساء والاهتمامات الشكلية المنافقة تجاه القضايا الإسلامية، لأن المؤسسات التي تسيره وتقف وراءه - إما بالتمويل أو بالتأييد السياسي - نجدها جهات صليبية أو صهيونية، وكلاهما يكنّ للإسلام أشد العداء وأبغضه.
وهذه الآيات تمنح لنا الرخصة من أجل الدفاع عن أنفسنا وأعراضنا وعقيدتنا - وهي الأهم - {وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ}.

والآيات تلمح لنا؛ بأن البادئ أظلم، وليس الموقع موقع تحرج للرد على الأعداء بكل قوة وبدقة عالية حتى لا تسول لهم نفوسهم التمادي في الظلم والاعتداء.



{وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ}



أبي سعد العاملي