بسم الله الرحمن الرحيم


الحمد لله الذي أنزل الكتاب على عبده ليكون للعالمين نذيراً، وجعل معجزة الرسالة الخاتمة (القرآن) معجزة عقلية برهانية بيانية، وعرفانية في الوقت نفسه، خالدة ممتدة، مستمرة الإعجاز والإقناع، مجردة عن حدود الزمان والمكان، مخاطبة لعقل الإنسان، متميزة عن سائر معجزات النبوة التاريخية، التي جاءت مجسَّدَة بفعل بشري خارق للعادة، مرتبطة بأشخاص الأنبياء، مؤقتة بوجودهم، الأمر الذي يشير إلى أن النبوات السابقة كانت خاصـة بأقوام بعينهم، وأزمـان بذاتها، وأن الإيمان بالنبوة والمعجزة ممن لم يعاصرها ويشهدها هو نوع من الإيمان بالغيب، من بعض الوجوه، وفي ذلك حكمة بالغة.

ذلك أن الإنسان في تطور حياته وأطواره، منذ النبوة الأولى، وحتى الرسالة الخاتمة، حيث بلغت البشرية طور الرشد العقلي، كان يتطلب معجزات حسية مجسدة، ميسرة الإدراك؛ لأن الانتقال من التجسيد إلى التجريد، ومن الذات إلى القيمة، ومن الفعل المجسد المنظور الملموس إلى المنهج المدرك، يتطلب رشداً بشرياً، وتفكراً وتفكيراً، وقدرة على الملاحظة والمقارنة والمقايسة والاستدلال والبرهان، لتجاوز الصورة إلى الحقيقة، واختيار الصواب للوصول للتي هي أقوم، قال تعالى: ((إِنَّ هَـذَا الْقُرْءانَ يِهْدِى لِلَّتِى هِىَ أَقْوَمُ ُ)) (الإسراء:9).

فالقرآن معجزة الرسالة الخاتمة، هو معجزة عقلية فكرية برهانية بيانية - كما أسلفنا - لذلك كانت إحدى التحديات والعظات: الدعوة إلى التفكير والتفكر المجرد، والنظر، للوصول إلى الحقيقة: ((قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَن تَقُومُواْ لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْ )) (سبأ:46)، وبذلك كان القرآن معجزة خالدة تخاطب عقل الإنسان، أينما كان ومتى كان، ومن هنا أدرك الشاعر هذا المعنى عندما قال:

جاء النبيون بالآيات فانصرمت وجئتنا بحكيم غير منصرم
والصلاة والسلام على الذي أوتي جوامع الكلم، وكان محلاً لتلقي القرآن، قال تعالى: (( إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً )) (المزمل:5)، فكان بذلك إمام البيان وترجمان القرآن، وحسبنا قولة السيدة عائشة رضي الله عنها: "كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ" (أخرجه الإمام أحمد)، الذي أيده ربه بالكثير من المعجزات الحسية المجسدة، التي تجلت لأنظار البشر، كسائر الأنبياء السابقين، إلى جانب معجزة القرآن، لتكون دليلاً على نبوته في بناء القاعدة البشرية الأولى، لكن ذلك جميعه لم يعتبر من المعجزات الخالدة الممتدة على الزمان في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم وبعد وفاته.

ولقد أكد عـليه الصلاة والسلام هذا المعنى للمعجزة بقوله: "مَا مِنَ الأَنْبِيَاءِ نَبِيٌّ إِلا أُعْطِيَ مَا مِثْلهُ آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُ وَحْيًا أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَيَّ" (أخرجه البخاري).

وبعد:

فهذا كتاب الأمة الخامس والتسعون: "أساليب الإقناع في القرآن الكريم" للدكتور معتصم بابكر مصطفى، في سلسلة الكتب التي يصدرها مركز البحوث والدراسات في وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بدولة قطر، في محاولة لاسترداد دور القيم، في الكتاب والسنة، والانطلاق منها في الحوار الحضاري والمجاهدة الفكرية وصياغة حياة الناس وإعادة تشكيلهم الثقافي، وتحقيق الخلود واستمرار العطاء، الذي يعتبر من أخص خصائص الرسالة الخاتمة والمعجزة الخالدة، وامتلاك القدرة على الإنتاج، مستهدين في ذلك بمنهج السيرة النبوية في تعاملها مع القرآن، التي جسدت قيم الوحي في واقع الناس، وأقامت البناء من خلال عزمات البشر، ومستصحبين للتاريخ والتراث الإسلامي بكل غناه وعبره وتجاربه.

ذلك أن الإشكالية -فيما نرى- تتمثل في عدم القدرة علىتحديد موقع التأسي وكيفيات التنـزيل القرآني على واقع الناس من خلال مسيرة السيرة الطويلة، مع تقلب الظروف وتطور الإمكانات المختلفة، وامتلاك القدرة على وضع الحاضر بكل مكوناته وإمكاناته في الموقع المناسب، الذي يشكل محل الاقتداء في هذه المرحلة وتلك الإمكانات من مسيرة السيرة، والاجتهاد في اختيار الحكم المناسب، والاهتداء بالسيرة لتنـزيل الآيات القرآنية على واقع الناس، من خلال استطاعاتهم، وبيان حدود التكليف، وإدراك مواصفات الخطاب القرآني، وتوفر شروط محل التكليف، والقدرة على التمييز يبن التنـزيل المشار إليه المنوط بتوفر الاستطاعة، وبين الإسقاط الخطير للآيات والأحاديث على واقع لم تتوفر له الشروط المطلوبة للتكليف.

هذا من جانب، ومن جانب آخر نعتقد أنه لا بد من إزالة الالتباس بين اجتهادات البشر ونصوص الوحي، ذلك أن الاجتهادات مع أنها من عطاء الوحي إلا أن ذلك لا يمنحها القدسية والعصمة التي تجعلها محلاً للاقتداء والتأسي والتنـزيل، وإنما تبقيها محلاً للعبرة والعظة والتجربة.. فالمشكلة تكمن في الخلط بين قول الشارع في الكتاب والسنة وفهم الشارح في التراث؛ الخلط بين الذات والقيمة، والنكوص عن التجريد، الذي يعتبر محور المعجزة القرآنية والذي يعني أهلية الرشد، إلى التجسيد الذي يمثل مرحلة الانتكاس والطفولة العقلية.

ولعل اعتماد القرآن ليكون معجزة الرسول صلى الله عليه وسلم أو معجزة الرسالة الخاتمة دون سائر المعجزات المادية المجسدة، التي اشترك فيها الرسول صلى الله عليه وسلم مع سـائر الأنبياء من قبله، ولمّا نراها نحن، وإنما نؤمن بها إيماننا بالغيب عن طريق الخبر الصادق، يعتبر ذا دلالات متعددة في هذا الموضوع.

فالتجريد الذي تميزت به معجزة الرسالة الخاتمة (القرآن) هو نوع من التخصيب الذهـني والنمو العقلي، الذي يعتبر من أعلى مراتب العقل، كما يعني - فيما يعني - القدرة الذهنية والفكرية على النظر من خلاله إلى الأشياء المجسدة والواقعة، ومعايرتها، وامتلاك القدرة على تقويمها، فالتجريد قيمة ومعيار ممتد، والتجسيد تجلٍ وذات تشكل حيزاً في الزمان والمكان.. وبذلك فالتجريد خالد، محله الإنسان العاقل المكلف.

والقرآن، المعجزة المجردة، أول ما يخاطب العقل ويرتقي به لأعلى مراتبه، ويدعوه للاستعمال والتشغيل والتفكر، ليصل إلى القناعة، ويصبح قادراً على التمييز والمقايسة والاستنتاج والمقارنة، وهي من أهم أدوات الإقناع، قال تعالى: (( قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَن تَقُومُواْ لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْ)) (سبأ:46)، فالقناعة تأتي ثمرة للدليل والبرهان المتولد من النظر.

ولم يكتف القرآن بمخاطبة العقل، وإنما وضع الإنسان، بكل حواسه ووعيه، في المناخ العلمي، ولفت نظره إلى الأشياء من حوله، ودعاه إلى التأمل والنظر فيها، للوصول إلى اكتشاف السنة والقانون الذي ينتظمها؛ ولم يقتصر على ذلك، بل درّبه أيضاً على آليات وكيفيات النظر في الآيات، واستنتاج القانون، الذي هو طريق الوصول إلى الحق: ((سَنُرِيهِمْ آياتنا فِي الآْفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ )) (فصلت:53)، فميدان النظر الفسيح الذي فتحه القرآن أمام الإنسان هي آيات الآفاق والكون، بكل أبعاده وكل ما فيه، وآيات الأنفس بكل أغوارها وكل طواياها، ومنحه الأبجديات لهذا النظر وهذه القراءة: ((وَعَلَّمَ آدَمَ الأسْمَاء كُلَّهَا)) (البقرة:31).. فقوانين الأشياء والأفلاك والعلوم الطبيعية مطردة، وليست عبثية، وكذلك قوانين العلوم الاجتماعية والإنسانية، فهي ميادين فسيحة للنظر والاعتبار واكتشاف السنن.

ولعل دعوة القرآن إلى النظر في قوانين الأشياء والآفاق والأكوان كمرحلة أولى تقع تحت الحواس، هي السبيل لإدراك قوانين الأفكار والاجتماع والإنسان، ومن هنا قُدِّمت رؤية آيات الآفاق في الآية على رؤيتها في الأنفس، لتكون أحد السبل للوصول إليها؛ وهي في النهاية قوانين واحدة منسجمة ومتوازية، مبرأة من الارتطام والاصطدام، الأمر الذي يؤكد أن مصدرها واحد، هو الحق المطلق، سبحانه وتعالى، وبذلك تصبح هذه الحقيقة: الإيمان بالله واجب الوجود من الناحية العقلية.

وبالإمكان القول هنا: بأن القرآن الذي كان البوصلة والدليل والمحرك لعقل الإنسان، كان محور هذا التراث الفكري العظيم، وهذا الإنتاج الثقافي والعلمي والعقلي على مدى خمسة عشر قرناً؛ فكل الإنتاج المعرفي تمحور حول القرآن، وارتكز إلى القرآن، وانطلق من مرجعية القرآن، وتحرك في جميع المجالات في مناخ القرآن، بما في ذلك الإنتاج العلمي التجريبي، الذي يأتي ثمرة النظرة العلمية لعالم الأشياء والأكوان، واكتشاف نواميسها، وكل يوم يتكشف جديد يزيد اليقين والقناعة بما يمنحه القرآن من رؤية، وكل يوم تدافع سنة بسنة وقدر بقدر، وتتقدم الرحلة العلمية بالدفع القرآني لعقل الإنسان، والدفق الإنساني في حواسه ومشاعره.

بل قد نقول أيضاً: بأن الجدلية المعرفية، التي تعتبر المحرك الأساس لعملية الكشف العلمي، كانت وليدة طبيعية للمعجزة المجردة (القرآن)، وتحريضها الذهني، سواء كانت دفاعاً عن القرآن وبياناً لمعطياته أو دفعاً لحقائقه ورؤيته.. فالقرآن هو المحرك الذهني الذي ينظم المعادلات العقلية في كل الأحوال؛ ولعل هذه الجدلية هي التي أدت إلى وفرة الإنتاج الثقافي عموماً.

فالمعجزة المجردة (القرآن) لم تأت لتشل الطاقة وتوقع الإنسان في العجز عن الفعل، وتلغي العزيمة، وتعطل القدرة الذهنية، وتطفئ الفاعلية، وتؤدي إلى الاستنقاع الاجتماعي والجمود الذهني والعقلي والاستسلام، والانتهاء إلى الجبرية الذهنية، وهذا منحى جدير بالتأمل، بل كانت سبباً في استنفار العقل، وتشغيل الحواس، وتحريك القوى الفاعلة بالإنسان، وتفجير الطاقات الكامنة فيه، وبناء القناعة العقلية، والوصول إلى الصواب، ولفت النظر إلى ما يمتلك من مؤهلات انطوى فيها الكون كله:

وتحسب أنك جُرْمٌ صغيرٌ وفيك انطوى العالَم ُالأكبر
هذا الانطواء للعالم الأكبر في الذات البشرية يعني أن القرآن دعا الإنسان للتعرف على طاقاته الهائلة، المتجددة وغير المحدودة، التي تسع العالم الأكبر، ومن ثم ينطلق بكل ما يمتلك لتحقيق خلافته في هذا العالم، ويتعرف إلى مكنوناته، وينظر في طواياه وخباياه وما ينطوي عليه، حتى يكون قادراً على تعميره والقدرة على تسخيره.

لقد كانت معجزة القرآن، وما تزال إلى يوم الدين، محرضاً علمياً وثقافياً ومعرفياً، ولئن عجز الناس عن الإتيان بمثله فإنهم لم يعجزوا عن تحقيق مدلولاته وإدراك مقاصده، وتجسيد قيمه، من خلال عزمات البشر، فهو معجزة استنفرت العقل البشري، لا للإتيان بمثلها وإنما للارتقاء بها وتحقيق دلالاتها في النفس والمجتمع والكون.

لقد كانت محاولة محاكاة هذه المعجزة، والتحرك من خلال نضحها وعطائها، والقدرة على تجسيدها، وتوليد مقاصدها، واستنباط عطائها في كل عصر، سبيل حياة الأمة المسلمة، وامتدادها، وصمودها، ومناعتها، وأكثر من ذلك كانت السبيل لمعاودة نهوضها من كبواتها، قال تعالى: ((فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِراطٍ مُّسْتَقِيمٍ)) (الزخرف:43).

لقد جعل القرآن التفكير مفتاح الاستدلال والعلم، وتشكيل القناعة، وإدراك حقائق الدين ووحيه؛ والاجتهاد عبادة مأجورة، أصاب الإنسان أم أخطأ.. جعل التفكير فريضة قرآنية، ورفض التعليم بالتلقين، والاعتقاد بالتقليد، واعتبر إيمان المقلد لا يجوز ولا يعفي صاحبه من المسؤولية، وجعل خير الناس من تعلم القرآن وعلمه، قال صلى الله عليه وسلم: "خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ" (أخرجه البخاري)، فتعلم القرآن وتعليمه هو وضع الإنسـان على الجادة للتحرك في تحقيق المكتسبات العلمية أو المعرفية.. والتعليم والتعلم تفكر وتدريب على التفكير، وهو غير الحفظ والاستظهار والتلقين، الذي يشيع في الواقع الإسلامي.

وقد تكون الإشكالية اليوم في: أن التعامل مع القرآن لم يتحقق بالمقاصد المطلوبة ويحقق العبرة والحذر، حيث بدأت علل التدين من الأمم السابقة، التي أصيبت بالتعامل مع كتابها، تتسرب إلى الأمة الإسلامية، أولئك الذين قال الله عنهم: ((وَمِنْهُمْ أُمّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ )) (البقرة:78) أي إلا تلاوة وترتيلاً، قال ابن تيمية رحمه الله، عن ابن عباس وقتاده، في قوله: ((وَمِنْهُمْ أُمّيُّونَ)) أي غير عارفين بمعاني الكتاب، يعلمونـها حفظاً وقراءة بلا فهم، لا يدرون ما فيها؛ و ((إِلاَّ أَمَانِيَّ)) أي تلاوة، لا يعلمـون فقـه الكتاب، وإنما يقتصرون على ما يتلى عليهم.. فكيف والحالة الذهنية هذه يمكن أن يحرك القرآن سواكن القلوب ورواكد العقول؟

ولولا قابلية الإصابة واحتمالاتها الكبيرة لما حذر الله منها، ذلك أن كثيراً من المسلمين اليوم يعتبرون مجرد حفظ القرآن وتحفيظه مدعاة للخيرية الواردة في الحديث: "خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ".. وعلى ما في الحفظ والتحفيظ من الخير والعطاء والثواب وبناء العقل واستقامة اللسان، لكن كمال الأمر لا يتحقق إلا بالتدبر والتفكر والتفكير، واسترداد الفاعلية، وتأهيل الإنسان قرآنياً لبناء الحضارة الراشدة والحياة السعيدة الطيبة، والاهتداء للتي هي أقوم، فالإنسان ليس ذاكرة فقط، ليس شريط تسجيل (أو كاسيت)، ولذلك قال بعض السلف: لقد نزل القرآن ليُعمل به، فجعل بعض الناس من حفظه وتلاوته (فقط) عملاً. ولابد من الاعتراف، مع شديد الأسى، أن الكثير من علل التدين تسربت إلى المسلمين عملياً، على مستوى الذات، وما ذلك إلا لتوفر القابليات وغياب الحذر المطلوب.

ولقد ساعد على ذلك الحال الخللُ في مناهج وطرائق التربية وآليات التلقي والتعامل مع القرآن، الأمر الذي أدى للوصول إلى الحالة التي عبر عنها الرسول صلى الله عليه وسلم "بذهاب العلم" حتى مع وجود الشهادات والإجازات والحفاظ.

ولعل فيما يذكره ابن كثير، رحمه الله، عند تفسير الآية الثالثة والستين في سورة المائدة في الجدال الذي وقع بين الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبه زياد بن لبيد، مؤشراً دقيقاً على بعض ما صرنا إليه مع كتاب الله.

فقد أخرج الإمام أحمد، رحمه الله تعالى، عَنْ زِيَادِ بْنِ لَبِيدٍ قَالَ: "ذَكَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم شَيْئًا فَقَالَ: وَذَاكَ عِنْدَ أَوَانِ ذَهَابِ الْعِلْمِ، قَالَ: قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ: وَكَيْفَ يَذْهَبُ الْعِلْمُ وَنَحْنُ نَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَنُقْرِئُهُ أَبْنَاءَنَا، وَيُقْرِئُهُ أَبْنَاؤُنَا أَبْنَاءَهُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ: ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا ابْنَ أُمِّ لَبِيدٍ، إِنْ كُنْتُ لأَرَاكَ مِنْ أَفْقَهِ رَجُلٍ بِالْمَدِينَةِ، أَوَلَيْسَ هَذِهِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى يَقْرَءُونَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ لا يَنْتَفِعُونَ مِمَّا فِيهِمَا بِشَيْءٍ ؟" (الحديث أخرجه أحمد في مسنده، وأخرجه ابن ماجه في سننه عن زياد بن لبيد في كتاب الفتـن، وأخرجه الترمذي في سـننه في باب ما جاء في ذهاب العلم، وقال: حديث حسن غريب).

وحيث إن المعجزة القرآنية تتمتع بهذه الخصائص والصفات في التغيير للواقع والهداية التي هي أقوم، لذلك فإن استهداف القرآن وعزله عن حياة الأمـة مستمر بوسائل شتى، منذ الجاهلية الأولى: ((لاَ تَسْمَعُواْ لِهَـذَا الْقُرْءانِ وَالْغَوْاْ فِيهِ)) (فصلت:26) إلى ما انتهت إليه الوجهة التعليمية في معظم بلاد المسلمين، ومنذ زمن، التي تبدو وكأنها ترتكز على إفساد السليقة، واستبدال اللغة، وتغيير الحرف العربي في لغات الشعوب المسلمة، لإقامة الحواجز بين الأمة وتراثها المتأتي من عطاء القرآن، وإسقاط الاهتمام بعلوم اللغة العربية، مفتاح فهم القرآن، ومن ثم إفساد التذوق، وإفساد التلقي، والقضاء على أمل التغيير والارتقاء.

وقد تكون الإشـكالية أن بعض معاول الهدم تتأتى من الذات قبل (الآخر)؛ لأنـها لو جاءت واضحة من (الآخر) لحققت خيراً ((لاَ تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ)) (النور:11)، لأنها تستنفر الأمة، وتصنع التحدي، وتمكِّن من الاستجابة والمواجهة.

لقد كان من الطبيعي، والطبيعي جداً، أن يتمركز الاستهداف حول القرآن للوصول بالمسلمين إلى حالة الهجر، التي حذر الله منها على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم: (( وَقَالَ الرَّسُولُ يا رَبّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُواْ هَذَا الْقُرْءاَنَ مَهْجُوراً)) (الفرقان:30)، وهذا الهجر من الجرائم الفكرية الكبيرة التي أشار إليها القرآن في الآية التالية لهذه الآية مباشرة: ((وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مّنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبّكَ هَادِياً وَنَصِيراً)) (الفرقان:31).

والهجر المقصود هنا ليس في عدم التلاوة والحفظ فقط، فهذا قد يكون قائماً ومستمراً، وإنما الهجر في غياب التدبر، وإقصاء القرآن عن حياة الأمة، والتوهين، وصناعة القابليات لمرور ثقافة وحضارة ومعايير (الآخر).

ولعل مدلول قولـه تعالى: (( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ )) (الحجر:9) يعني من بعض الوجوه، أن القرآن باق ومستمر ومحفوظ بحفظ الله، وأن الجهود لا بد أن تـتركز حول التدبر والتفكر، وما يمنحه ذلك من عطاءات ثقافية وحضارية وعلمية ومعرفية تجعل من الأمة شاهدة على الناس بجدارة علم وثقافة وخلق، وليست بادعاء.

نعاود القول: بأن الله حذرنا من علل التدين، ومنها ممارسة كهانات رجال الدين، الذين حاولوا احتكار المعرفة والنطق باسم الله، واحتكار حمل الكتاب المقدس، واستغلوا الدين لتحقيق التسلط على الناس، قال تعالى: ((فَبِمَا نَقْضِهِم مّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّواضِعِهِ وَنَسُواْ حَظَّا مّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مّنْهُمُ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ )) (المائدة:13)، وقال: ((...وَمِنَ الَّذِينَ هِادُواْ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَواضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَـذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُواْ...)) (المائدة:41)، وقال: ((إِنَّ كَثِيراً مّنَ الأْحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَـاطِلِ...)) (التوبة:34).

والمتأمل في أبعاد وآفاق هذه الآيات وواقع المسلمين ينتابه ذعر وخوف شديد، على الحال التي نحن عليها، وخاصة عندما يرى علل التدين تتقدم صوب الأمة المسلمة، بل صوب بعض نخبها.

إن ظهور الكهانات في الداخـل الإسلامي، بمعظم مواصفاتها، لا شك أنه أصـبح يشكل علة خطيـرة من علل التدين، ذلك أن رجال الدين، أو حملة الكتاب المقدس، الناطقين باسم الله في تاريخ التدين، كانوا أخطر على الأمة والحضارة والدين من أعدائه.. صحيح أنه في الإسلام لا توجد طبقة رجال دين، وإنما يوجد علماء ومتخصصون في العلوم الإسلامية، وأنهم جميعاً، مهما بلغوا، يجري عليهم الخطأ والصواب وعدم العصمة، وأن المعجزة القرآنية المجردة فصلت القيمة عن الذات، وجعلت القيمة هي المعيار للذات، كائنة من كانت، فالرجال يُعرفون بالحق ولا يُعرف الحق بالرجال، وكل إنسان يؤخذ من كلامه ويرد إلا المعصوم صلى الله عليه وسلم.

لكن ملامح نذر الخطر المخيفة في بعض صور التدين الإسلامي، وليس في قيم الدين، أصبحت لا تخطئها العين، حيث يقترب واقع التدين في بعض جوانبه ومؤسساته عملياً من طبقة رجال الدين والأكليروس، ويبتعد عن ميدان العلم المتخصص؛ ولا نستغرب أن نرى من يعتلي المنابر ويتحدث باسم الدين من قد لا يكون له نصيب من كسب العلوم الإسلامية اللهم إلا الانتساب لبعض التنظيمات الإسلامية.. هذا الانتساب جعله يعطي نفسه حق القول في الدين والثقافة الإسـلامية والإعجاز العـلمي، وقد يكون متخصصاً في شعب معرفية تمثل فروضاً كفائية المجتمع بأشد الحاجة إليها(!) فهجره لاختصاصه وتحولـه إلى غير اختصاصه يترتب عليه خلل، وآثاره خطيرة على جمـيع الأصعـدة، ليس أقلها تفريـغ موقعه الذي غادره وإتاحة الفرصة لامتداد (الآخر)، وتعطيل عطاء موضعه الذي انتهى إليه دون أن يفقهه.

فالتحريف الذي أشار إليه تعالى في قوله: ((يُحَرّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَواضِعِهِ)) في أصله حذف لبعض الألفاظ وإبدالها بغيرها ليتغير تبعاً لذلك المعنى والحكم والتكليف.. والنسيان الذي أشار إليه قوله تعالى: ((وَنَسُواْ حَظَّا مّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ)) إسقاط لبعض آيات وأحكام الكتاب بشكل متعمد، على الرغم من معرفته والتذكير به.

والخطورة تكمن اليوم في تطور التحريف من صورته الساذجة تلك، التي قد تكون مكشوفة، وهي حذف بعض الألفاظ أو إبدالها ليتغير تبعاً لذلك المعنى والتكليف، بحيث يتاح المجال لممارسة الابتزاز والاستغلال، إلى نوع متقدم، وهو الخروج بالمعنى عما وضع له اللفظ (التأويل)، والتفسير والتأويل الذي يمارسه فقهاء السلطان والاستبداد السياسي أو الظلم الاجتماعي ليوافق المطلوب، ويشكل مسوغاً شرعياً لممارسات غير شرعية؛ فبدل أن نكيف سلوكناً مع القرآن نكيف آيات القرآن ونطوعها ونفسرها على هوانا لتسويغ سلوكنا! والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يَكُونَ هَوَاهُ تَبَعاً لِمَا جِئْتُ بِهِ" (الأربعين النووية) لا ماجئت تبعاً لهواه.

وليس هذا فقط، وإنما محاولات التبعيض والحذف والانتقاص والانتقاء في مناهج التربية والتعليم والإعلام والوعظ والإرشاد، الأمر الذي ينتهي بنا إلى أقصى مراحل الخزي، التي حذر الله منها بقوله: (( أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَـابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدّ الّعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)) (البقرة:85)، وقال تعالى: ((وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ)) (المائدة:49).

أفلا يسـتدعي الأمر أن يُنظر في أسـباب الخزي الذي نعاني منه؟ ألا يستدعي الأمر أن ندرك أن آية: (( وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ)) (التوبة:34)، جاءت بعد قوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيراً مّنَ الأْحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَـاطِلِ...)) فنأخذ حذرنا، ونعتبر بغيرنا، ونحاصر الكهانات التي تتسرب إلينا؟

فالقرآن شفاء للعلل والإصابات، وتصويب للعقل والفكر، ومعالجة لفساد الرأي والجنوح، وليس للرقية فقط، والتحول به من المدائن والأحياء إلى المقابر، والقراءة المبتدعة على الأموات.

وقد تكون المشكلة أن فساد العلماء (رجال الدين) أشد خطورة على الأمة من فساد الحكام، لذلك قال بعض الحكماء: من فسدت بطانته... كان كالغاص بالماء.. شر البلاد بلاد لا أمان بها، وشر الملوك من خافه البريء.. ذلك أن فساد بعض الحكام، الذي قد يؤدي إلى انفصال السلطان عن القرآن، جعل الأمة تاريخياً منحازة إلى القرآن، وبذلك ضمان الاستمرار؛ فالأمة أقوى من الدولة، والعقيدة أبقى من السياسة؛ أما إذا فسد العلماء أو اعتلى منابرهم من غير المؤهلين، فإلى قيادة مَنْ تنحاز الأمة؟!

إن فسـاد العلـماء، وإفسادهم بالمال أو بالجـاه أو بالسـلطان أو الرئاسات - وقد قال بعض العارفين: آخر ما يخرج من قلوب الأولياء حسب الرئاسة- يعتبر من أخطر علل التدين على حياة الأمة: ((يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيراً مّنَ الأْحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَـاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ ...)) (التوبة:34)، إلا أننا مطمئنون إلى أن قيم الدين المتمثلة في معجزته الخالدة تنفي الخبث كما ينفي الكير خبث الحديد.. فمعجزة الإسلام ليست متجسدة في شخص، أو جماعة، أو هيئة، أو إنسان، أو رجل، مهما كبر، وإنما هي معجزة مجردة ممتدة على الزمان والمكان والإنسان.. ومن التجريد يتأكد الخلود والقدرة على التوليد، ومن التجسيد كان التوقيت والانقضاء.. والخلود يعني تجاوز مرحلة التجسيد بالزمان والمكان والأشخاص، وامتداد المتجرد أو المجرد كقيمة حتى يوم القيامة.

ولعل من المفيد هنا أن نذكر بأن القرآن الكريم في دعوته للإنسان، وإقناعه بالحقائق المطلقة، بالنسبة لرؤيته في الكون والحياة والإنسان، انتهى به إلى الإيمان بالله واجب الوجود عقلاً "وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد" ذلك أن عطاء هذا الإيمان هو الذي يمثل الخلاص والتحرر من كل أنواع التسلط والعبودية.

لقد خاطب القرآن قوى الوعي كلها في الإنسان؛ خاطب العقل وحرضه على النظر والتفكير -كما أسلفنا- ودربه على بعض المعادلات الفكرية.

واستخدم الأدلة البرهانية، وأجاب في خطابه للإنسان عن الأسئلة الكبرى المؤرقة له، والذي لا يمتلك العقل أدوات التوصل إليها والإجابة عنها.

استخدم البرهان والاستدلال والمقايسة والمقارنة. وقد لا نكون بحاجة لإيراد الأمثلة، فكلمة: ((فَاعْتَبِرُواْ )) ، و((انظُرُواْ))، و((لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ))، و((لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ))، واعتبار إيقاظ الوعي والتفكير سبيل الإيمان، أكثر من أن تحصى في القرآن.

كما استخدم القصة لتحقيق العبرة: ((لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأّوْلِي الألْبَـابِ)) (يوسف:111).

واستخدم التاريخ، ليلفت النظر إلى سنن السقوط والنهوض واطرادها.

وملَّك الإنسان حقائق علمية يقينية، كما ملكه القابليات والأدوات للنظر، وقال له: انطلق في الأرض وانظر: ((فَسِيرُواْ فِي الأْرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذّبِينَ)) (آل عمران:137).

واستخدم المثل، وخاطب النفس من الداخل وعرض تقلباتها المتنوعة، وأثار الخواطر وسبر أغوارها، وجيش المشاعر، وحرك العاطفة، ونمى الأحاسيس، كما خاطب الإنسان بالمصير، وتحدى بالعواقب والمآلات.

واستخدم الحوار والمجادلة، وقدم بعض الحقائق العلمية، ووضع الإنسان على الجادة، وأعطاه دليل رحلة البحث العلمي ومفاتحه، وجعل ذلك تكليفاً ومسؤولية.

كما استشرف له الماضي، لتشكيل ذاكرته وتحقيق التراكم المعرفي المطلوب لتنميته، قال تعالى: ((شَرَعَ لَكُم مّنَ الِدِينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُواْ الدّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ)) (الشورى:13)، ((مّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّـاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ)) (الحج:78).

كما قدم رؤية للمستقبل، وأخبر عن المصير وعالم الغيب، وحكى قصة أطوار الحياة، التي تشكل حقائق يعيشها الإنسان ويلمسها ويشاهدها.

وعلى العموم، نستطيع أن نقول: قدم القرآن معادلات للحياة، وغطى جميع مساحاتها، وأجاب عن أسئلة الإنسان، وأحسن بناءه، وناط به صناعة العمران وتحقيق الاستخلاف.. فالله خلق الإنسان، وأحسن خلقه وتقويمه، والإنسان أبدع أشياءه وكشف قوانين المادة التي مكنته من التقدم العلمي.

ولم يكن ما قدمه القرآن رؤية خيالية نظرية، ولا فلسـفة توهيمية هائمة، ولا معرفة باردة عاجزة عن الفعل والتحقق في واقع الناس، وإنما معجزته الحقيقية تمثلت في أن رؤيته وقيمه وفلسفته تجسدت في حياة الناس.

وحسبنا أن نقول: بأنه لا أدل على نجاح استراتيجية القرآن وأساليبه المتميزة في الإقناع من أن الأمة المسلمة تشكلت من خلاله، وتماسكت من خلال القرآن، ونهضت من كبواتها من خلاله، وقدمت حضارة وثقافة بنضح من القرآن.

وأنه على الرغم من التقدم العلمي والمعرفي، مع ذلك لم تسجل إصابة واحدة على معرفة الوحي في القرآن والسنة، مصداقاً لقولـه تعالى: ((لا يَأْتِيهِ الْبَـاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ (المستقبل) وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ (الماضي) )) (فصلت:42)، لكن تتراكم الإصابات لعالم المسلمين اليوم بسبب هجرهم للقرآن.

وبعد، فالكتاب الذي نقدمه يمكن أن يعتبر محاولة لتقديم بعض الملامح حول أساليب القرآن في الإقناع، ودعوة لاستصحاب هذه الأساليب في تعاملنا مع الثقافات الوافدة في هذه الحقبة الخطيرة من حياة البشرية، حقبة حوار الحضارات أو صراع الحضارات والسعي لفرض أنماط ثقافية باسم العولمة والنظام العالمي الجديد ، ولا أدل على اعتماد القرآن سبيل الإقناع من أن شعاره الكبير كان وما يزال: ((لا إِكْرَاهَ))، والتذكير بأهمية المجاهدة بالقرآن، استجابة لقوله تعالى: ((وَجَـاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبيراً )) (الفرقان:52) فالجهاد الكبير هو جهاد الأفكار، وعلى الأخص في هذا العصر، الذي يعتبر الإعلام والحوار وصراع الأفكار والحضارات والمدافعة الثقافية من أمضى أسلحته وأخطرها.

ولعل الكتاب يمثل أيضاً دعوة للتبصر بمنهج القرآن والتعامل معه بأدوات صحيحة، والتحقق بوسائله، أو استراتيجيته في الإقناع وتحصيل الإيمان، ومعرفة كيفية الاستمساك به، لتجاوز العجز والفقر الثقافي وهدم التوهم، الذي يأتي عادة ثمرة للعجز والإحباط، بأن التشدد والإكراه والعنف والغلو هو الذي يقنع الإنسان ويحقق نقله من الكفر إلى الإيمان.

ذلك أن من المؤسـف التوهم بأن التشدد والعنف يمكن أن يحقق المطلوب ويقنع الناس بالإسلام، على الرغم مما جاء به القرآن من استراتيجية للإقناع وآليه لبناء ثقافة وقناعة الإنسان، وتجسد ذلك في تاريخنا الثقافي في جملته، الذي يعتبر تاريخ عطاء القرآن، وأن القيمة الأساسية في ديننا التي مكنته ومكنت له: ((لا إِكْرَاهَ فِي الدّينِ)) (البقرة:256)، حيث كانت قيادة الإنسان من خلال قناعاته، ومع ذلك فإن بعضنا ما يزال يعتقد أن السيف أصدق إنباء من الكتب، ويفوته قول الشاعر:

الرأي قبل شجاعة الشجعان هو أول وهي المكان الثاني
فيدخل الكثير من المعارك الغلط باسم الدين، ويهدر الكثير من الطاقة باسم الجهاد، ويخطئ اختيار الوسيلة، ويسيء للأمور، ويفتقد الحكمة في النظر.

وقد نقول هنا: بأن الكلام عن أساليب القرآن، ودوره في تحقيق الإقناع، هي من المسـلمات، والأدلة على ذلك أكثر من أن يحاط بها على مستوى الفكر والفعل بحيث لم تعد تدع استزادة لمستزيد، ولا أدل على ذلك مما أنتجه القرآن من إنسان وحضارة وثقافة، وإن شئت فقل: أمة، بكل مقوماتها، لكن المشكلة الأساس اليوم، التي تستدعي الكثير من النظر والبحث والمعالجة، تتمثل في السؤال الكبير: إذا كان القرآن الكريم بهذا العطاء الخالد، والقدرة الخارقة على الإقناع (المعجزة العقلية الثقافية الخالدة) فلماذا يعجز المسلمون أن يكونوا في مستوى قرآنهم، على مختلف الأصعدة؟ ولماذا يبقى واقعهم غير مقنع، إن لم يكن منفراً، بل وغوغائياً في بعض جوانبه؟

وكم يترجى الإنسان ويتمنى أن الدراسات والجهود التي اجتمعت على بيان عظمـة القرآن يتحول بعضها ليتبين أين الخلل، وكيف نعيد التواصل مع القرآن، ونفتش عن أنفسنا، وعلاج إصاباتنا في القرآن؟ ونحن نعلم جميعاً أن القرآن الكريم خالد قادر على العطاء إلى يوم الدين.

ولعل من أبرز خصائص القرآن أنه أطلق العقل من عقاله، وأعاد إليه وظيفته، وارتقى به إلى آفاق من الكشف والكسب المعرفي، وأكد له أن رحلة البحث والكشف العلمي لن تتوقف ((سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآْفَاقِ وَفِى أَنفُسِهِمْ)) (فصلت:53)، إلى يوم القيامة، فالقرآن بطبيعته حمَّال أوجه، كما قال سيدنا علي رضي الله عنه، وهذا يمنح طاقة هائلة وخصبة للنظر والرؤية، ويدفع إلى التعددية والتنوع وإغناء الرحلة العلمية، ويفتح الأبواب كلها للنظر في الآفاق والأنفس؛ وكلٌ يرتقي حسب قدراته العقلية: ((فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا)) (الرعد:17)؛ ولكلٍ من الثواب والأجر حسب كسبه المعرفي.

هذه الآفاق الفسـيحة لا تحـدها حـدود زمـانية أو مكانية أو بشرية، ويكفي أن نتأمل قوله تعالى: ((قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لّكَلِمَـاتِ رَبّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَـاتُ رَبّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً)) (الكهف:109)، ((وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأْرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَـاتُ اللَّهِ)) (لقمان:27)، لندرك الأبعاد والمساحات والفضاءات، التي تنتظرنا، والتي يتحرك فيها العقل البشري من خلال عطاء معرفة الوحي، بعيداً عن الانسداد والتقييد والانحباس والمحاصرة.

ولله الأمر من قبل ومن بعد. الشيخ/ عمر عبيد حسنه